فكنت أكتب إلى «الجريدة» التي أشرف على تحريرها الأستاذ الجليل أحمد لطفي السيد، وكتبت قبلها إلى صحيفة «الظاهر» التي كان يصدرها «أبو شادي» المحامي، وإلى صحيفتي «المؤيد» و«اللواء»، ونشر أول ما نشر لي من الشعر في إحداها، وأذكر أنه في صحيفة «اللواء».
وإنني لأقرأ الصحف ذات يوم إذا بالأستاذ «محمد فريد وجدي» يعلن عن صحيفة يومية ينوي أن يصدرها باسم الدستور، ويطلب مخاطبته في شئون الصحيفة، ومنها شأن التحرير.
فتناولت ورقة في المقهى التي كنت أجلس بها بحي شبرا، وكتبت إليه خطابا أرشح فيه نفسي للاشتغال بتحرير الدستور، ولم يمض يومان حتى جاءني الرد منه بالقبول، فذهبت إليه حيث اختار مكتب الصحيفة الأولى بدار مطبعة «الواعظ» لصاحبها الأستاذ محمود سلامة بدرب الجماميز، وعدت لأستقيل من وظيفتي الحكومية، وأبدأ حياتي الصحفية المنتظمة، ولم أزل أعمل في تحرير «الدستور» حتى اضطرت إلى التوقف عن الصدور.
وإنني لأحمد الله أن كانت بداية عملي المنتظم في الصحافة مع رجل كالأستاذ وجدي - رحمه الله - قليل النظير في نزاهته، وصدقه، وغيرته على المصلحة القومية، واستعداده للتضحية بماله وراحته في سبيل المبدأ الذي يرعاه، ولا يتزحزح عنه قيد أنملة، فقد عطل صحيفته وبين يديه عرض سخي من جماعة «تركيا الفتاة» التي أرادت أن تتخذ منها لسان حال لها في مصر والشرق باللغة العربية، وهذا غير العروض السخية التي توالت عليه من جانب «المعية الخديوية» ... فأقدم على تعطيل الصحيفة لكيلا يخالف عقيدة من عقائده السياسية مرضاة لهؤلاء أو هؤلاء، وباع كتبه ليؤدي حساب العمال والصفافين والموظفين مليما بمليم.
أحسن الله ذكراه في مثواه.
وأكثر الله بين الصحفيين من ينحو في هذه الصناعة «المباركة» منحاه. (3) هجرت وظائف الحكومة «الاستخدام رق القرن العشرين.»
كان هذا عنوان مقال كتبته في «الجريدة» حوالي سنة 1907 وأنا في وظيفتي الحكومية، وكنت يومئذ على أهبة «الاستعفاء» منها للاشتغال بالصحافة ...
ومن «السوابق» التي أغتبط بها وأحمد الله عليها أنني كنت - فيما أرجح - أول موظف مصري استقال من وظيفة حكومية بمحض اختياره، يوم كانت الاستقالة من الوظيفة والانتحار في طبقة واحدة من الغرابة، وخطل الرأي عند الأكثرين، بل ربما كانت حوادث الاستقالة أندر من حوادث الانتحار ... ولو ظفرنا اليوم بإحصاء ثابت لحوادثهما معا منذ بدأت عندنا الوظائف الحكومية إلى أوائل القرن العشرين لتحقق لنا أن الاستقالة من الوظيفة كانت أندر من الانتحار، ولا يخرج هذا عن حيز المعقول؛ لأن الوظيفة كانت معيشة وشرفا ومزية اجتماعية، ولأن عدد الموظفين الذين تسجل عنهم حوادث الاستقالة أقل من عدد الجمهرة الكبرى التي تسجل عنها حوادث الانتحار، ولعلنا لو أخذنا في العددين بالنسبة المئوية لما اختلفت دلالة الإحصاء.
كان الشرف كله يومئذ منوطا بالوظيفة الحكومية، وكانت كلمة القائلين: «إن خدمة الميري شرف» مثلا سائرا في كل طبقة من طبقات الأمة، ويضارعه في الشيوع قول القائلين: «إن فاتك الميري اتمرغ في ترابه» وهو القول القاطع الذي شاع وظل شائعا إلى عهد قريب.
وليس في الوظيفة الحكومية لذاتها معابة على أحد، بل هي واجب يؤديه من يستطيع، ولكنها إذا كانت باب المستقبل الوحيد أمام الشاب المتعلم فهذه هي المعابة على المجتمع بأسره، وتزداد هذه المعابة حين تكون الوظيفة - كما كانت يومئذ - عملا آليا لا نصيب فيه للموظف الصغير والكبير غير الطاعة وقبول التسخير، وأما المسخر المطاع فهو الحاكم الأجنبي الذي يستولي على أداة الحكم كلها، ولا يدع فيها لأبناء البلاد عملا إلا كعمل المسامير والآلات في تلك الأداة. •••
Bog aan la aqoon