الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل الأول
Bog aan la aqoon
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
أنا
أنا
Bog aan la aqoon
تأليف
عباس محمود العقاد
الفصل الأول
(1) أنا
الكاتب الأمريكي «وندل هولمز» يقول: إن الإنسان - كل إنسان بلا استثناء - إنما هو ثلاثة أشخاص في صورة واحدة.
الإنسان كما خلقه الله ... الإنسان كما يراه الناس ... والإنسان كما يرى هو نفسه ...
فمن من هؤلاء الأشخاص الثلاثة هو المقصود بعباس العقاد؟!
ومن قال إنني أعرف هؤلاء الأشخاص الثلاثة معرفة تحقيق أو معرفة تقريب؟!
من قال إنني أعرف عباس العقاد كما خلقه الله؟
ومن قال إنني أعرف عباس العقاد كما يراه الناس؟
Bog aan la aqoon
ومن قال إنني أعرف عباس العقاد كما أراه، وأنا لا أراه على حال واحدة كل يوم؟
هذه هي الصعوبة الأولى، ولا أتحدث عن غيرها من الصعوبات.
ولكني أضربها مثلا واحدا من أمثلة كثيرة، ثم أختصر الطريق، وأنتقل إلى الموضوع من قريب.
إنني لن أتحدث - بطبيعة الحال - عن «عباس العقاد» كما خلقه الله ...
فالله - جل جلاله - هو الأولى بأن يسأل عن ذلك ...
ولن أتحدث - بطبيعة الحال - عن «عباس العقاد» كما يراه الناس، فالناس هم المسئولون عن ذلك ...
ولكن سأتحدث عن عباس العقاد كما أراه.
وعباس العقاد كما أراه - بالاختصار - هو شيء آخر مختلف كل الاختلاف عن الشخص الذي يراه الكثيرون من الأصدقاء أو من الأعداء ... هو شخص أستغربه كل الاستغراب حين أسمعهم يصفونه أو يتحدثون عنه، حتى ليخطر لي في أكثر الأحيان أنهم يتحدثون عن إنسان لم أعرفه قط، ولم ألتق به مرة في مكان.
فأضحك بيني وبين نفسي وأقول: ويل التاريخ من المؤرخين ...
أقول: ويل التاريخ من المؤرخين؛ لأن الناس لا يعرفون من يعيش بينهم في قيد الحياة، ومن يسمعهم ويسمعونه، ويكتب لهم ويقرأونه، فكيف يعرفون من تقدم به الزمن ألف سنة، ولم ينظر إليهم قط، ولم ينظروا إليه؟!
Bog aan la aqoon
فعباس العقاد هو في رأي بعض الناس - مع اختلاف التعبير وحسن النية - هو رجل مفرط الكبرياء ... ورجل مفرط القسوة والجفاء ...
ورجل يعيش بين الكتب، ولا يباشر الحياة كما يباشرها سائر الناس.
ورجل يملكه سلطان المنطق والتفكير، ولا سلطان للقلب ولا للعاطفة عليه!
ورجل يصبح ويمسي في الجد الصارم، فلا تفتر شفتاه بضحكة واحدة إلا بعد استغفار واغتصاب.
هذا هو عباس العقاد في رأي بعض الناس.
وأقسم بكل ما يقسم به الرجل الشريف أن عباس العقاد هذا رجل لا أعرفه، ولا رأيته، ولا عشت معه لحظة واحدة، ولا التقيت به في طريق ... ونقيض ذلك هو الأقرب إلى الصواب.
نقيض ذلك هو رجل مفرط في التواضع، ورجل مفرط في الرحمة واللين، ورجل لا يعيش بين الكتب إلا لأنه يباشر الحياة؛ رجل لا يفلت لحظة واحدة في ليله ونهاره من سلطان القلب والعاطفة، ورجل وسع شدقاه من الضحك ما يملأ مسرحا من مسارح الفكاهة في روايات شارلي شابلن جميعا ...
هذا الرجل هو نقيض ذاك ...
ولا أقول: إن هذا الرجل هو عباس العقاد بالضبط والتحقيق، ولكني أريد أن أقول: إنهم لو وصفوه بهذه الصفة لكانوا أقرب جدا إلى الصواب، ولأمكنني أن أعرفه من وصفه إذا التقيت به هنا أو هناك، خلافا لذلك الرجل المجهول الذي لا أعرفه بحال!
مكان التواضع واللين
Bog aan la aqoon
إنني لا أزعم أنني مفرط في التواضع.
ولكنني أعلم علم اليقين أنني لم أعامل إنسانا قط معاملة صغير أو حقير، إلا أن يكون ذلك جزاء له على سوء أدب.
وأعلم علم اليقين أنني أمقت الغطرسة على خلق الله؛ ولهذا أحارب كل دكتاتور بما أستطيع، ولو لم تكن بيني وبينه صلة مكان أو زمان، كما حاربت هتلر ونابليون وآخرين.
وأنا لا أزعم أنني مفرط في الرقة واللين.
ولكنني أعلم علم اليقين أنني أجازف بحياتي، ولا أصبر على منظر مؤلم أو على شكاية ضعيف.
فعندما كنت في سجن مصر رجوت الطبيب أن يختار لي وقتا للرياضة غير الوقت الذي تنصب فيه آلة الجلد لعقوبة المسجونين.
فدهش الطبيب، ظن أنه يسمع نادرة من نوادر الأعاجيب ...
وقال لي في صراحة: ما كنت أتخيل أن أسمع مثل هذه الطلب من العقاد «الجبار».
وأصبت في السجن بنزلة حنجرية حادة حرمتني النوم وسلبتني الراحة، ولم تزل هذه النزلة الحنجرية عندي مقدمة لأخطر الأمراض كما حدث قبل نيف وعشرين سنة، ونجوت منها يومئذ بمعجزة من معجزات العلاج والعناية وتبديل الهواء، ومن أجل هذه النزلة الحنجرية ألبس في الشتاء تلك الكوفية التي علقتها الصحف الفكاهية في رقبتي لا تحل عنها في صيف أو شتاء، ولا في صبح أو مساء، حتى أوشكت أن تكون من علامات تحقيق الشخصية قبل الملامح والأعضاء.
وكانت زنزانة السجن التي اعتقلت بها على مقربة من أحواض الماء، شديدة الرطوبة والبرودة، يحيط بها الأسفلت من أسفلها إلى أعلاها، ولا تدخلها الشمس إلا بإشارة من بعيد.
Bog aan la aqoon
فعرض المحامون أمري على المحكمة وحولته المحكمة إلى النيابة، ودرسته النيابة مع وزارة الداخلية ومصلحة السجون، وتقرر بعد البحث الطويل نقلي إلى المستشفى، وإقامتي هناك في غرفة عالية تشرف على ميدان واسع وحديقة فسيحة، وتتصل بالداخلين والخارجين أثناء النهار، ويتردد عليها الأطباء والموكلون بالخدمة الطبية من الصباح إلى الصباح.
فرج من الله، وأمنية عسيرة التحقيق تمهدت بعد جهد جهيد!
فصعدت إلى المستشفى وأنا أعتقد أن الخطر الأكبر قد زال أو هان، ولكني لم ألبث هناك ساعة حتى شعرت أن الزنزانة المغلقة أهون ألف مرة من هذا المكان الذي أصغي فيه إلى أنين المرضى، وشكاية المصابين والموجعين، ثم غالبت نفسي ساعة فساعة، حتى بلغت الطاقة مداها ولما يطلع الفجر من الليلة الأولى، وإذا بي أنهض من سريري وأنادي حارس الليل ليوقظ ضابط السجن ويعود بي إلى الزنزانة من حيث أتيت، ولتفعل النزلة الحنجرية وعواقبها الوخيمة ما بدا لها أن تفعل.
أنا أعلم من نفسي هذا، وأعلم أن الرحمة المفرطة باب من أبواب العذاب في حياتي منذ النشأة الأولى، وأعلم ما أعلم عن تلك العواطف التي يتحدث بها بعض الفضوليين ولا يعرفون منها غير التصنع والتمثيل، وتدميع العيون، وتبليل المناديل، ثم أسمع جبلا من هذه الجبال البشرية يذكر الرحمة وما إليها، كأنها حلية لا يزين الله بها إلا أمثاله، ولا يعطل الله منها إلا أمثال عباس العقاد ... فماذا يكون حكمي بعد هذا على آراء الناس في الناس؟!
لن يكون إلا قلة اعتداد برأي من الآراء يحسبونها الكبرياء وليست هي الكبرياء، ولكنها موقف من لا يبالي أن يعتقد من يشاء ما يشاء.
كرامة الأدب والأدباء
إلا أن الناس معذورون بعض العذر في شبهة الكبرياء هذه، وإن كانوا لا يطالبون أنفسهم بأقل مجهود في تصحيح هذه الشبهات.
فقد أراد الله - وله الحمد - أن يخلقني على الرغم مني متحديا «تحديا خصوصيا» لكل تقليد من التقاليد السخيفة التي كانت ولا تزال شائعة في البلاد المصرية والبلاد الشرقية على العموم.
أنا أطلب الكرامة من طريق الأدب والثقافة، وأعتبر الأدب والثقافة رسالة مقدسة يحق لصاحبها أن يصان شرفه بين أعلى الطبقات الاجتماعية، بل بين أرفع المقامات الإنسانية بغير استثناء.
أفي ذلك عار؟! أفي ذلك موجب للحقد والضغينة؟!
Bog aan la aqoon
كلا! بل فيه مأثرة وفيه فضل جديد على عالم الأدب في هذا الشرق المسكين الذي كان أدباؤه لا يرتفعون عن منزلة المضحكين، والندماء المهرجين على موائد الأغنياء والرؤساء، فإذا ارتفعوا عن هذه المنزلة قليلا أو كثيرا، فهم لا يرتفعون بفضل الأدب والفن، بل بفضل وظيفة يعتصمون بها، أو شهادة علمية ينتحلون سمعتها، أو ثروة يحسبون من أهلها، ثم يحترمون لأجلها على الرغم من كونهم كتابا وشعراء!
وها هو ذا إنسان يعرف حقه في الكرامة، ولا يعرف حقا لتلك الأصنام الاجتماعية تفرضه عليه.
صنم المال، وصنم العناوين العلمية، والشارات الرسمية، وصنم المناصب، وصنم الألقاب، كيف تتجاهلها يا هذا؟! وكيف تطلب الكرامة لنفسك من غير طريقها؟!
إن الأصنام لا تقنع بما دون العبادة، فكيف بالإعراض وقلة المبالاة؟! وكيف بالتحطيم والكفران؟!
جهنم الأرباب جميعا قليلة - قليلة جدا - في جانب هذا الذنب العظيم ...
وإذا بهذه الأصنام جميعا تدعوني إلى دفع الجزية المفروضة عن يد ونحن صاغرون، وإذا بها جميعا تعود خالية الوفاض غير محفول بما تعمل وما تقول.
قالت: أتريد لك حقا وكرامة؟
قلت: نعم ...
قالت: إذن كن غنيا وإلا فليس لك كرامة ...
قلت: كلا ... سأكون غنيا عن الغنى، ولي الكرامة التي أريدها ...
Bog aan la aqoon
قالت: إذن كن صاحب لقب وعنوان ...
قلت: كلا ... سيعرفني العالم والأديب، وسأصعد في هذه السماء صعودا حيث تزحف الألقاب والعناوين.
قالت: إذن كن صاحب منصب، كن صاحب أحساب وأنساب، كن شيئا في طريقي، ولك المسعدة مني بعد ذلك في كل طريق.
قلت: سأمضي في كل طريق أريد المضي فيه، ولا حاجة بي إليك.
ثم دارت الأيام، والتقيت بالأصنام.
قالت في شماتة وهي تتساءل: كيف الحال؟
قلت: عال ... أنت تعلمين على الأقل أنني لم أدفع الجزية المفروضة، وأنت تعلمين على الأقل أنني لم أخسر شيئا يعنيني.
قالت: نعم ... ولكنك تعبت كثيرا، وخرجت آخر المطاف بسمعة الكبرياء والجفاء ...
قلت: يغفر الله لك أيتها الأصنام! أتعنين السمعة على الألسنة، والإشاعة في المجالس، وسوء القالة بين الفارغين؟! هذه أيضا صنم من الأصنام التي لا أعرف لها جزية تؤدى، فاكتبي جزيتها وجزيتك في حساب واحد، وانتظري بالأجل إلى يوم الدين!
ولا عجب أن تغضب الأصنام غضبتها التي تضيق بها اللحوم والدماء، ولكن العجب أن يغضب عبادها المساكين الذين لا يظفرون منها بطائل، وأعجب منه أن يغضب عبادها الحانقون عليها المتلهفون على الخلاص منها؛ لأنهم نسوا هذا، وأصبحوا يذكرون أن واحدا أفلح حيث يفشلون، فلماذا تمرد فاستطاع وهم يتمردون فلا يستطيعون؟!
Bog aan la aqoon
ذلك هو الثأر الذي لا يغفر!
وذلك وأمثاله هو الأصل الأصيل في شبهة الكبرياء، أسوقه على هذا النحو الذي لا يشبه الاعتذار، وأفسره بهذا التفسير الذي لا يتضمنه طلب البراءة؛ لأنني أكره الاعتذار عن الحسنات حينما يتفاخر الناس بالسيئات والوصمات، وبحسبي أنني نازل عن حقي في الثناء؛ لما صنعت من جميل لكرامة الأدب والأدباء.
العزلة والانطواء
وعذر آخر للناس - وإن كان لا ذنب لي فيه - أن يذهب بعضهم من النقيض إلى النقيض في فهم رجل يعيش بينهم على قيد الحياة.
عذر هؤلاء أنني مطبوع على العزلة والانطواء على النفس في أحسن الأحوال وأسوئها على السواء.
ولا حيلة لي في ذلك؛ لأن أسبابه عميقة، يرجع بعضها إلى الوراثة، وبعضها إلى الطفولة الباكرة، وبعضها إلى تجارب الدنيا التي لا تنسى.
ورثت حب العزلة من كلا الأبوين.
وعرض لي حادث دون السابعة من عمري أتمثله الآن كأني حضرته منذ يومين، وهو حادث الوباء الذي كان معروفا باسم الهيضة، أو الهواء الأصفر في أسوان.
أقفرت المدينة شيئا فشيئا من سكانها.
مات كثيرون منهم ورحل آخرون، وخلا الشارع الذي أقيم فيه؛ فأغلقت الحكومة أبوابه، ولطختها بالعلامة الحمراء التي معناها أن هذا البيت قد زاره الوباء.
Bog aan la aqoon
ومن لحظة إلى لحظة يتراءى في الشارع نعش عار يمشي من ورائه رجلان أو ثلاثة، وقد يكون بينهم وبين حمل هذا النعش مسافة الطريق، وتوصيلة أخرى من توصيلاته التي لا تنقطع طول النهار.
وبيتنا وحده فيه إصابتان ...
وليس في الشارع - إذا خرجت إليه - طفل واحد يحوم بين تلك البيوت المغلقة بالعلامة الحمراء.
وإذا نزلت إلى شارع النيل حيث كان يطيب لي التجوال على غير هدى، وجدته مقفرا من الناس، ومن حين إلى حين تعبر في النيل سفينة شاردة لا تجترئ على ملامسة الشاطئ؛ خوفا من العدوى، ويصيح منها صائح كلما لمح على المورد زميلا يسأله عن الخبر: كم المحصول اليوم؟
فيجيبه: مصري كامل ... أو مجيري ... أو بنتو ... أو نصف جنيه فقط في أسلم الأيام.
ما هذا المحصول؟! وما هذه العملة التي يحسبونه بها؟!
إنها تهكم المصائب الوجيع!
إنه عدد الموتى في ذلك اليوم: جنيه مصري كامل: أي مائة ميت، ونصف جنيه: أي خمسون، ولم أسمع قط ذكر الريال إلا في ختام الموسم الشنيع: موسم الحصاد!
صورة لا أنساها، ولا ألتفت إليها إلا تمثلت وحشتها وبلواها، وإليها - ولا شك - يرجع شيء من هذه الوحشة التي تحبب إلي الخلوة والانفراد ...
وتزيد عليها تجارب الدنيا التي لا تنسى، وخلاصتها: أن العواطف المزيفة أروج في هذه الدنيا من العواطف الصحيحة؛ فلا أسف إذن على رأي الناس في الناس، ولا اعتداد إذن بما يقال ومن يقول ...
Bog aan la aqoon
الصداقة والعداوة
ما أسلفته لا أذكره على أنه فضائل محمودة، ولا على أنه رذائل مذمومة ... ولكنه صفات حقيقية وكفى.
ومن هذه الصفات الحقيقية التي أعهدها في نفسي أنني لا أميل إلى التوسط في الصداقة ولا في العداوة، فلا أعرف إنسانا نصفه صديق ونصفه عدو، وإنما أعرفه صديقا مائة في المائة، أو عدوا مائة في المائة، ولا تهمني مع ذلك عداوته إذا حفظها لنفسه ... ولكنه إذا تعقبني بها وأبى إلا أن يكشف عنها فهي الحرب التي لا توسط فيها كذلك: إما كاسر وإما مكسور، إلا أن يريحني احتقاره من عناء هذا وذاك ...
ومن هذه الصفات، أنني أمام الألفة أو العادة ضعيف لا أقدم على التبديل إلا بعد عناء طويل.
ومثل من أمثلة ذلك أن البيت الذي أسكنه قد تغير له أربعة من الملاك، وأنا الساكن فيه لا أتغير.
وإنني في مصر الجديدة، ودكان حلاقي في شارع محمد علي إلى الآن؛ لأنني منذ عشرين سنة كنت أسكن هناك.
وإنني كنت أشكو مرض الكلى قبل نيف وعشرين سنة، فأشار علي الطبيب باتباع نظام مخصوص في الطعام يناسب الحالة التي أشكوها، وقد زالت تلك الحالة بعد سنة واحدة، ولكني لا أزال إلى الساعة أجري على النظام الذي ألفته من جرائها، ولا أستطيب أن أعود إلى كل طعام!
ومن هذه الصفات أن الظنون عندي قوية السلطان، وعلة ذلك عندي معالجة التفكير المنطقي في كل شيء، فليس أسهل في المنطق من فتح أبواب الاحتمالات، أما إغلاقها - أو الجزم بنفيها - فلا يكون إلا ببرهان قاطع، والبراهين القاطعة قليل.
ومن هذه الصفات أن التجديد والمحافظة عندي يلتقيان في معظم الأمور، وعلة ذلك على ما أعتقد أنني نشأت بأسوان، وهي أعرق مدينة بين مدن مصر القديمة بموروثاتها التي لا تبلى، وهي في الوقت نفسه مدينة أوروبية في الشتاء، أو كانت كذلك يوم نشأت بها نشأتي الأولى، فأوروبا كلها كانت تتراءى هناك كل شتاء بملاهيها، وأزيائها، وعاداتها، ومؤلفاتها، وفنونها، واختلاف أقوامها.
وأنا أحب الأطفال جدا، وكان في منزلنا جماعة من الأطفال أكبرهم في السادسة من عمره، وهم جميعا أصدقائي، وكثيرا ما يصعدون إلى مسكني يسألونني، ويتحدثون معي ما شاء لهم الحديث.
Bog aan la aqoon
أنا يأسرني الفن الجميل، حتى إنني أبكي في مشهد عاطفي أو درامي متقن الأداء، وأذكر أنني بكيت في أول فيلم أجنبي ناطق، وكان يمثله الممثل القديم «آل جولسون»، وكان مع «آل جولسون» طفل صغير يمثل دور الطفل الذي حرم من أمه، وظل هدفا للإهمال حتى مات ... وتأثرت من الفيلم وبكيت، ولم أستطع النوم في تلك الليلة، إلا بعد أن غسلت رأسي بالماء الساخن ثلاث مرات متتالية ... وأنا أستعين بغسيل الرأس بالماء الساخن على إبعاد الأفكار السوداء عني عندما تتملكني.
ومن صفاتي التي لا يعرفها الناس، أنني إذا عوملت بالتسامح لا أبدأ بالعدوان أبدا، وإذا هاجمني أحد فلا أرحمه، وقد قالت سارة عني ذات مرة: «إن من يظهر طرف السلاح للعقاد يا قاتل يا مقتول!»
ولدي صفة عجيبة أعتز بها أيما اعتزاز، وهي أن لدي حاسة سادسة لا تخطئ، ففي أحد الأيام - كنت بأسوان - سألت أخي فجأة عن صديق لي لم أكن قد رأيته منذ مدة، وفي المساء جاءتني برقية تنعى ذلك الصديق، وقد تبينت بعد ذلك أنه توفي في اللحظة نفسها التي تذكرته فيها، وقد تكررت مثل تلك الحوادث كثيرا حتى عرف عني أصدقائي هذه الصفة.
وأنا وفي جدا لأصدقائي من الأحياء والأموات، كما أنني وفي لذكرياتي، وأعتز بها كل الاعتزاز، وقد كنت شديد التعلق بوالدتي، وعندما كنت أزور أسوان كان أول ما أفعله هو أن أنزل من القطار وأهرع إلى غرفة والدتي، وألتصق بها ... فلما توفيت إلى رحمة الله لم أدخل غرفتها حتى الآن؛ كي لا أراها فارغة منها، حتى الشوارع التي كنت أغشاها مع صديقي المازني - رحمه الله - لم أستطع أن أغشاها بعد مماته، وصرت أتجنب ما يذكرني بفجيعتي فيهما حتى لا أحزن من جديد.
ولدت في أسوان
ولدت في أسوان يوم 28 يونيو سنة 1889، ولي إخوة أشقاء وغير أشقاء، فقد كان والدي متزوجا قبل والدتي، ثم ماتت زوجته، وبعدها تزوج أمي ... وكبير أشقائي أحمد، وكان يعمل سكرتيرا لمحكمة أسوان، وهو الآن على المعاش، وعبد اللطيف وهو تاجر، ولي شقيقة واحدة نحبها جميعا، وهي متزوجة تعيش في القاهرة إلى جواري، أما إخوتي غير الأشقاء، فهم جميعا أكبر مني سنا، وبعضهم يعيش في القاهرة، والبعض الآخر بأسوان.
بدأت حياتي الأدبية وأنا في التاسعة من عمري، وكانت أول قصيدة نظمتها في حياتي هي قصيدة مدح العلوم، وقلت فيها:
علم الحساب له مزايا جمة
وبه يزيد المرء في العرفان
والنحو قنطرة العلوم جميعها
Bog aan la aqoon
ومبين غامضها وخير لسان
وكذلك الجغرافيا هادية الفتى
لمسالك البلدان والوديان
وإذا عرفت لسان قوم يا فتى
نلت الأمان به وأي أمان
وتدرجت في المدارس، ثم جئت إلى القاهرة للكشف الطبي عندما التحقت بإحدى وظائف الحكومة عام 1904، وكان عمري إذ ذاك 15 سنة، وكانت وظيفتي في مديرية قنا، ولم تكن اللوائح تسمح بتثبيتي؛ لأنني لم أكن قد بلغت بعد سن الرشد، ثم نقلت إلى الزقازيق، ثم كنت أول من كتب في الصحف يشكو الظلم الواقع على الموظفين، ثم سئمت وظائف الحكومة، وجئت إلى القاهرة، وعملت بالصحافة، وأخيرا عينت عضوا بمجلس الفنون والآداب ... كما عينت بالمجمع اللغوي. (2) أبي
هل يعرف أحد من أين لي باسم «العقاد»؟
لا أحد طبعا ... وهناك غير هذا أشياء كثيرة لا يعرفها الناس عني، أشياء قد تبدو غريبة، لكنني أقولها في هذا المقام.
أما اسم «العقاد» فأذكر أن جد جدي لأبي كان من أبناء دمياط، وكان يشتغل بصناعة الحرير، ثم اقتضت مطالب العمل أن ينتقل إلى المحلة الكبرى حتى يتخذها مركزا لنشاطه، ومن هنا أطلق عليه الناس اسم «العقاد»، أي الذي «يعقد» الحرير ... والتصقت بنا، وأصبحت علما علينا ... •••
قد تعجب إذ تعلم أن جدنا الأكبر من دمياط، مع أن الجميع يعرفون أنني من أسوان، وأن عددا من أبناء أسرتنا لا يزال يعيش في أسوان حتى اليوم.
Bog aan la aqoon
وإني أتمثل «أبي» الآن في الصورة التي رأيتها ألفي مرة بل أكثر من ألفي مرة؛ لأنني كنت أراها كل يوم منذ فتحت عيني على الدنيا، إلى أن فارقت بلدتي بعد اشتغالي بالوظائف الحكومية ...
وتلك هي صورته على مصلاه، يؤدي صلاة الصبح، ويجلس على سجادة الصلاة من مطلع الفجر إلى ما قبل الإفطار؛ ليتلو سورا خاصة من القرآن الكريم، ويعقبها بتلاوة الدعوات.
وكان يؤدي الصلوات الخمس في أوقاتها، ولكن جلسته في الصباح الباكر هي التي انطبعت في ذاكرتي إلى هذه الساعة؛ لأنها كانت أول ما أستقبله من الدنيا كل صباح.
ومن أجل الصلاة حدث بيني وبينه خلاف يوصف بالعصيان؛ فإنه - رحمه الله - كان يدين بالجد في الواجب، أو بالشدة في الجد، وكان يرى للطفل ما يراه للشيخ، إذا كان الأمر أمر فريضة، أو عمل محمود، أو عرف مأثور ...
من ذلك أنه كان يراني فيما دون الثامنة من عمري أجلس في المنزل بين قريباتي وخالاتي وجارات المنزل، فيصيح بي مستغضبا: عباس ... ماذا تصنع هنا بين النساء؟ ... تعال معي فاجلس بين أمثالك ...
ومن هم أمثالي؟! شيوخ فيما بين الأربعين والسبعين، كانوا يسمرون معه في «المندرة»، ويقضون الوقت في أحاديث الشيوخ عن السياسة تارة، وعن قضايا الأسر الكبيرة تارة أخرى، وقلما يمزحون أو يتفكهون إلا ثابوا إلى وقارهم كالمعتذرين ... وكانت السهرة تنقضي على أحسن حال إذا حضرها شيخ متحذلق معلوم فيه بعض الغفلة ... فيناوشونه بالأسئلة المحرجة، والدعابات المتناقضة ... ثم يعودون إلى ما كانوا فيه. •••
وقد أفادتني هذه الجلسات كل فائدة تأتي من التوقر قبل سن الوقار، وقلما يخلو من بعض الأضرار.
ولكن فائدتها الكبرى كانت - ولا ريب - معرفتي بالقاضي أحمد الجداوي - رحمه الله - فإنه كان من أدباء الفقهاء الذين عاصروا السيد جمال الدين، وأخذوا عنه دروس الحكمة والغيرة القومية، وكان قوي الذاكرة، واسع المحفوظ من المنظور والمنثور، يستظهر مقامات الحريري، وبديع الزمان، ودواوين الشعراء الفحول، ويطارح خمسة أو ستة من الأدباء في وقت واحد فيسكتهم دائما، ولا يسكتونه مرة واحدة. فكانت معرفتي به إحدى الدواعي التي حفزتني للمطالعة، والإقبال على الكتب والدواوين.
ومن أمثلة الجد الشديد في السيد الوالد - رحمه الله - أنه كان ينظر إلى «الصور» كأنها ألاعيب فارغة لا تليق بالعقلاء، فلم يتخذ له صورة قط، ولم يوافقني على شراء صورة من صور الفصول المدرسية التي كانت ترسم للمدرسة كل عام.
على هذه السنة من الجد الشديد أراد - رحمه الله - أن أواظب على الصلاة في أوقاتها قبل العاشرة من عمري، فكان أثقل ما أعانيه في ذلك يقظة الفجر في الشتاء، وهو الوقت الذي يرين فيه النوم على الأطفال، فلا يستيقظون إلا بعد جهد عنيف.
Bog aan la aqoon
وصبرت على هذا الجهد العنيف مرتين أو ثلاث مرات أو أربع مرات، ثم تمردت دفعة واحدة، وقلت لمن جاء يوقظني: «اذهب عني، فلست بالمستيقظ ... ولست بالمصلي اليوم!»
وسمع أبي ما قلت فصاح بي: «ماذا تقول؟ ... أتقول إنك لا تصلي؟» ووثب إلى عصاه ...
فذهب بي الإصرار مذهبه، وقلت: «نعم!»
فصمت ولم يزد، وأعرض عني أياما لا يكلمني حتى تناسينا هذا الخلاف، وكنا مع ذلك نجلس إليه جميعا على الطعام في الصباح والمساء، وأحيانا في طعام الغداء. •••
وموضع الشدة في هذه المسألة أنني لم أكن أنفر من الصلاة، ولا من الفرائض الدينية، بل كنت أخف إلى المسجد بعض الأوقات، وأنشد على المئذنة أناشيد الجمعة الأولى، وظللت أنشدها بعد ذلك وأنظمها، ولا أذكر للمؤذن أنني نظمتها؛ لئلا يستصغرها ويرفض إنشادها، ولكن الشدة صدمتني لأنها كلفتني ما لا أطيق قبل الأوان، وجاءتني في معرض الإكراه والإلزام، وهي عبرة تساق للاستفادة منها في هذا المقام.
ولا أزال أذكر ملامح السرور التي رأيتها على وجه أبي حين أنشدته قصيدة من تلك القصائد التي كنت أنظمها في مدح النبي عليه السلام، فإنه تهلل واستبشر، ولعله تهلل واستبشر لنزعتي الدينية قبل براعتي في نظم الشعر أو تجويد الكتابة، ولا يلاحظ علي إلا أنني ختمت القصيدة بشطر أقول فيه على ما أذكر مشيرا إلى نفسي: «عباس من هو في الأشعار مدرارا.»
فقال: «إن الأباصيري أكبر مادحي النبي قد ختم مدائحه معتذرا عن التقصير، فافعل كما فعل، أو فاسكت عن الاعتذار وعن الإطراء.» •••
وكان - رحمه الله - يحتقر المال أن يطلبه بما يسوء في الضمير، أو يسيء إلى إنسان.
وقد كان في وسعه أن يجمع الثروة العريضة من وظيفته، فلم يكسب منها غير مرتبه، وما هو بالكثير. •••
كان أمينا «للمحفوظات» بإقليم أسوان، وكانت أسوان خارجة من القلاقل الجسام التي حاقت بها في حرب الدراويش، فمعظم أبنائها الأغنياء كانوا يتجرون في السودان، فانقطعوا هناك بعد انقطاع المواصلات، وذهبت الوثائق فلم يدر أحد ما ذهب منها وما بقي بدار المحفوظات، وتداولت هذه المحفوظات أيد كثيرة على غير انتظام في التسليم والاستلام ... وكثر المدعون للأرض والعقار؛ اعتمادا على ضياع الوثائق وغياب المالكين وموت بعض الوارثين، فلو شاء أبي في هذه الفترة أن يخفي ويظهر، وأن يقبل المساومة والإغراء، لقاسم الكثيرين فيما يدعون أو فيما يملكون، ولكنه أوصد هذا الباب فلم يطمع فيه طامع، وسلم دار المحفوظات لمن بعده، وهي مثل في الدقة والضبط وسهولة المراجعة والإحصاء. •••
Bog aan la aqoon
ومن تقديراته أنه في احتقار المال الذي يكسب عن طريق الإساءة إلى الناس، أنه زجر أخي الكبير زجرا شديدا، حين علم أنه ينوي التبليغ عن بعض المتهمين في قضية جعلت للمبلغ فيها مكافأة قدرها خمسون جنيها - أو مائة جنيه - لا أذكر الآن على التحقيق.
وجلية القضية أن فتى من الشبان الوارثين بالقاهرة حضر إلى أسوان في الشتاء ومعه ألف جنيه، وكانت أسوان مرتاد السائحين والسائحات في موسم الشتاء، وفيها من أسباب الإنفاق والمتعة مطمع لأمثال ذلك الوارث، ومن يلوذون بالمبذرين والمسرفين، وسرق الوارث قبل أن يستنفد من الألف مائة أو مائتين، وانحصرت الشبهة في شاب موظف بالمحكمة، كان يسكن مع أمه وأبيه في بيت لنا مجاور للبيت الذي نقيم فيه، فراحت أمه إلى جارة لها تستجهلها، وتظن أنها لا تعرف ورق النقد الذي كان في الواقع غير معروف بين أكثر الناس، فاستودعتها لفافة من الورق هي جملة المبلغ المسروق، ولكن المرأة أطلعت زوجها على الخبر، وهو من كتاب العرائض المدربين؛ فعرف الورق وعرف سر القضية، وأخفى كل ما وصل إليه. •••
مثل هذا الخبر لا يخفى بين سكان حي من أحياء الريف؛ فعرفنا ما حدث، وعرفنا أن الوارث سمح بالمكافأة التي ذكرناها لمن يرشد إلى السارقين، ونظر أخي الكبير إلى القضية نظر الرجل العصري الذي لا يبالي أن ينتفع بالمال للتبليغ عن مجرمين، ونظر أبي إليها نظرة الجيل القديم يستعيذ من فضيحة الحرمات من أجل ما يبذره وارث سفيه ... فدعا بأخي أمامنا جميعا، وأقسم له أغلظ الأيمان لئن أقدم على التبليغ ليبرأن منه مدى الحياة، ولا يأذن له أن يمشي في جنازته بعد الممات.
وكان يحاسب نفسه على كل حصة من المال تجتمع في حوزته، وتفرض عليها الزكاة فيوزعها خفية، ويرسلني بها إلى بيوت بعض الفقراء الذين لا يتعرضون للسؤال، ولا يرد مسكينا يطلب الطعام من المساكين الذين يترددون على الأبواب.
وكان كثير العطف على ذوي قرباه، يزورهم في المواسم والأعياد، سواء منهم من كبر ومن صغر، ومن استغنى ومن افتقر، على ما كان في انتقاله إليهم من المشقة بعد أن جاوز الخمسين، وإذا استخلص منهم واحدا لسداد رأيه، وخلوص طويته، شاوره في الجليل والدقيق من شئون الأسرة، واعتمد على مشورته في كثير من الأحيان.
ولم يكن يغضب لشيء كما كان يغضب لكرامته وسمعة اسمه، ومن ذاك أنه كان له حمار ينتقل عليه من قرية إلى قرية، حين كان معاونا للإدارة، فلما استقر في المدينة باعه لبعض المكارين،
1
وكان الحمار مشهورا بالسرعة وهدوء الحركة، فكان المستأجرون يطلبونه ويقولون للمكاري: «هات حمار العقاد.» ثم اختصروا كعادتهم فأصبحوا يطلبونه فيقولون: «هات العقاد! هات العقاد.» فلما سمع بذلك عاد فاشتراه، وقبل المغالاة في ثمنه على غير حاجة إليه، واستبقاه يعلفه، ويتحمل ضجته حتى اشتراه من ينقله إلى قرية بعيدة لا يستخدمه فيها بالكراء! •••
ولم يكن مكثرا من القراءة في غير الكتب الدينية، ولكنه كان يحدثنا دائما عن تجاربه ومصاعب حياته، ويأبى علينا أن نستمع إلى أقاصيص العجائز وحكايات الأساطير.
على أنني وجدت في دواليب «المندرة»، بعد أن بلغت سن القراءة، أعدادا كثيرة من مجلة «الأستاذ» لصاحبها عبد الله نديم؛ فاتصلت بالحركة الوطنية قبل أن تنشأ في القطر صحيفة من صحفها الحديثة.
Bog aan la aqoon
وجملة ما أذكره لذلك الأب الكريم، أنني مدين له بالكثير، وأنني لم أرث منه مالا يغنيني ... ولكني استفدت منه ما لا أقدره بمال ... (3) أمي
في سنة 1930 ذهبنا إلى الصعيد في رحلة انتخابية، وكان النقراشي - رحمه الله - قائد «التجريدة» كما سميناها يومذاك؛ لأن النقراشي كان كعادته يسير في ترتيب أعمالها، وتنظيم مواعيدها على خطة عسكرية لا تختل قيد شعرة، وكان نظامها يستلزم في بعض الأيام أن نستيقظ قبل الفجر لإدراك موعد القطار، فكان القائد اليقظ يسبقنا إلى البكور، ولا تمضي دقائق معدودات حتى تصبح التجريدة كلها على استعداد.
ونزلنا سوهاج فاسترحنا بمنزل الأستاذ محمد حسن المحامي، وجاءني الأستاذ يقول: «هل يتسع الوقت للقاء خالك؟» فالتفت إلى النقراشي أسأله، فقال: «نعم ... وزيادة.» •••
ثم عاد الأستاذ صاحب الدار يقول: «إن الزوارق حاضرة»؛ لأننا كنا ننوي أن نعبر النيل إلى أخميم، ونعود منها قبل إطباق الظلام، فسأله النقراشي: «أولسنا منتظرين حتى يحضر خال العقاد؟!»
قال الأستاذ محمد حسن: «ها هو ذا قد حضر، ولا يزال حاضرا، وإن شاء عبر النيل معنا.»
والتفت النقراشي إلى جانبي فرأى شيخا أبيض الوجه، أميل إلى الشقرة، وتوليت التعارف بينهما، فحياه النقراشي وهو يقول ضاحكا: «عجبا ... لقد كنت أقرأ في الكشكول والصحف الشتامة عن «بخيتة السودانية» أم عباس العقاد، وكنت أحسبهم يجدون فيما يكتبون، فخطر لي أنني أنتظر رجلا أسود أو قريبا من السواد حين جلسنا ننتظر خالك ... أما أن يكون رجلا أشقر له بقايا شعر أصفر، فهذا ما لم يخطر ببال.»
وسألني مازحا: «لماذا لم تكذب الخبر؟»
قلت: «إنني لم أكذب أخبارا أكذب من هذه، فما بالي أكذب نسبتي إلى أم سودانية؟ ليس في الأمر ما يوجب البراءة منه، والاهتمام بتكذيبه ... فكم أنجبت السودانيات من رجال يفخرون بالأمهات.»
لقد كانت أسرة «أمي» من أبويها جميعا كردية قريبة عهد بالقدوم من ديار بكر، وقد رأيت أحدهم لا تميزه من أمم الشمال في لونه وقامته، وقد بقي بعضهم إلى أيام طفولتنا نعاكسه حين ندعوه إلى أكلة «ملوحة» أو «ملوخية»؛ لأنهم لم يتعودوا أكلها، فكنت أقرأ الأكذوبة عن «بخيتة السودانية»، وقد وقر في نفسي أنها أبعد من أن تصدق، واقترنت هذه الأكذوبة بأكذوبة أخرى في ذلك الحين تروى عني أنني أهمل زوجتي، وأتركها تتسكع في الطرقات، ولم تكن لي زوجة قط حتى تتسكع في طريق أو في بيت! فلماذا أحفل بما يقال، وكله من هذا اللغو المحال؟!
ولكن هل كانت حكاية «السودانية» كذبا محضا من الألف إلى الياء؟ كلا ... ويا للعجب! فإن أجداد أمي جميعا قد تزوجوا في السودان، وكان جدها لأبيها وجدها لأمها في الفرقة الكردية التي توجهت إلى السودان بعد حادثة إسماعيل بن محمد علي الكبير، وهناك عاش عمر أغا الشريف قبل قدومه إلى أسوان، وهو جد أمي لأبيها، وأبوها هو محمد أغا الشريف الذي اختار «أطيان» المعاش في قرية من قرى الإقليم ...
Bog aan la aqoon
الذي يتذاكره كبراء السن الأسوانيون عن عمر أغا الشريف أنه كان رجلا شديد التقوى، شديد القوة البدنية، يدرب أبناءه على الرياضة العسكرية كأنهم على الدوام في خدمة الميدان.
ولد له محمد وعثمان ومصطفى وحورية وفاطمة، وخطبت حورية وفاطمة فأراد أن يحتفل بزواجهما معا، ثم علم أن خطيب فاطمة لا يصلي، فأبطل الخطبة في اللحظة الأخيرة، وقال للوسطاء الذين حاولوا أن يصلحوا الأمر: إني لا أزوج ابنتي لتارك صلاة، ولا لمحدث نعمة، كلاهما يجحد نعمة الله ...
وشاعت حوادث «العبد» قاطع الطريق في الصحراء، وخافه الجند، وهابه تجار القوافل، فقال عمر لأصغر أبنائه مصطفى: أتسمع هذا وتترك ذلك العبد يعيث في الأرض فسادا؟! فما انقضى أسبوع حتى عاد مصطفى بالعبد مكتوف اليدين.
وقد مات مصطفى هذا على أثر ضربة من ضرباته أغراه بها فرط قوته، فإنه تصدى لثور هائج، فقمعه وألقاه على الأرض، فلم تنقض أيام حتى لقي نحبه، وقيل إنها حسد ... ولعلها كانت مزقة في داخل الجسم من ذلك الجهد العنيف ...
أما محمد أغا جدي لأمي فقد كانت فيه تقوى أبيه، وصلابته، وكثير من أنفته واعتزازه بكرامته، وقد كان يمزج هذه الأنفة بالعمليات، ولا يقصرها على القول أو السلوك.
ذهب إلى قرى الإقليم ليختار أطيان المعاش، فكان كلما سأل عن زراعة أرض، فقالوا له: إنها عدس أو فول ... قال: لا شأن لي بها، حسبنا من العدس والفول ما استوفيناه في السنجق، أي الفرقة العسكرية ... حتى جاء إلى أرض قيل له إنها تزرع قمحا أو شعيرا.
فقال: هذه أرضي: القمح لمحمد أغا، والشعير لحصانه! واختارها مع ما بينها وبين الأطيان الأخرى من فرق في الثمن يبلغ ثلاثة أضعاف!
ورثت أمي تقواها وسلامة بنيتها من أبيها وجدها، ففتحت عيني أراها وهي تصلي وتؤدي الصلاة في مواقيتها، ولم يكن من عادة المرأة أن تصلي في شبابها، إنما كانت النساء لا يصلين إلا عند الأربعين ...
ومما ورثته عن أبويها حب الصمت والاعتكاف ... كان الناس يحسبون هذا الصمت والاعتكاف عن كبرياء في جدي رحمه الله، وكانوا يقولون إنها «نفخة أتراك!»
لكنها لم تكن «نفخة أتراك» كما توهموا، بل كانت طبيعة تورث، وخلقة بغير تكلف، ولم أر في حياتي امرأة أصبر على الصمت والاعتكاف من والدتي، فربما مضت ساعة وهي تستمع من جاراتها وصديقاتها، وتجيبهن بالتأمين، أو بالتعقيب اليسير، وربما مضت أيام وهي عاكفة على بيتها أو على حجرتها، لا تضيق صدرا بالعزلة وإن طالت، ولا تنشط لزيارة إلا من باب المجاملة ورد التحية.
Bog aan la aqoon
ومن المصادفة اتفاق والدي ووالدتي في هذه الخصلة، ولست أنسى فزع أديب زارني يوما وعلم أنني لم أبرح الدار منذ أسبوع، فهاله الأمر كأنه سمع بخارقة من خوارق الطبيعة ... إنها وراثة من أبوين يؤكدها الزمن الذي لا تحمد فيه معاشرة أحد ... إلا من رحم الله!
وقوة الإيمان في والدتي هي التي بنت فيها العزيمة ليلة احتضاري ...
نعم أيها القارئ الكريم ولا تعجب ... فقد احتضرت قبل نيف وثلاثين سنة، كما تخيل عوادي في تلك الليلة، فإذا بالوالدة هي الإنسان الوحيد الذي يتحامل على نفسه إلى جانب سريري ليقنعني أنني بخير ... وتنطوي على ذلك ساعات وهي على عزيمتها، حتى جاء الطبيب أخيرا وأنبأهم أنه عارض غير ذي بال، فإذا بالمحتضر قد نجا، وإذا بالمؤاسية قد سقطت مغمى عليها.
وكانت الوالدة لا تنكر من شئوني شيئا إلا الورق ... نعم: ما هذا الورق؟ الورق الذي لا ينتهي!
هذا الورق الذي لا ينتهي هو الذي يمرضني، وهذا الورق الذي لا ينتهي هو الذي يصرفني عن الزواج، وهذا الورق الذي لا ينتهي هو سبب الشهرة ...
ووالدتي أيها القارئ من أعداء الشهرة تتطير بها، ولا تغتبط بها لحظة إلا تشاءمت لحظات.
هذه الشهرة هي التي «تشيل غارتك» ... أي تجعلهم يتحدثون عنك، وما تحدث الناس عن أحد وسلم من ألسنة الناس!
وقلت لها ذات يوم: «لو وجدت لي زوجة مثلك تزوجت الساعة ...» ولم أكن مجاملا والله ولا مراوغا ... فإنني لا أنسى كمال تدبيرها لبيتها منذ صباها، وكنا بفضل تدبيرها هذا ننتفع بالجورب حتى بعد أن يرث ويبلى ... فإنه يصلح عندئذ كرة محبوكة! ... ويغنينا عن شراء الكرات التي لا تحتمل أقدامنا مثل احتمالها.
ولقد توفي والدي وهي في عنفوان شبابها، وكان لي أخ صغير، فتوفرت على تربيته وتركت كل شاغل غير طفلها هذا وأبنائها الكبار.
ولقد ورثت منها كثيرا إلا القصد في النفقة، وتدبير المال، وحسبي بحمد الله ما ورثت منها. (4) بلدتي
Bog aan la aqoon