وجملة ما أذكره لذلك الأب الكريم، أنني مدين له بالكثير، وأنني لم أرث منه مالا يغنيني ... ولكني استفدت منه ما لا أقدره بمال ... (3) أمي
في سنة 1930 ذهبنا إلى الصعيد في رحلة انتخابية، وكان النقراشي - رحمه الله - قائد «التجريدة» كما سميناها يومذاك؛ لأن النقراشي كان كعادته يسير في ترتيب أعمالها، وتنظيم مواعيدها على خطة عسكرية لا تختل قيد شعرة، وكان نظامها يستلزم في بعض الأيام أن نستيقظ قبل الفجر لإدراك موعد القطار، فكان القائد اليقظ يسبقنا إلى البكور، ولا تمضي دقائق معدودات حتى تصبح التجريدة كلها على استعداد.
ونزلنا سوهاج فاسترحنا بمنزل الأستاذ محمد حسن المحامي، وجاءني الأستاذ يقول: «هل يتسع الوقت للقاء خالك؟» فالتفت إلى النقراشي أسأله، فقال: «نعم ... وزيادة.» •••
ثم عاد الأستاذ صاحب الدار يقول: «إن الزوارق حاضرة»؛ لأننا كنا ننوي أن نعبر النيل إلى أخميم، ونعود منها قبل إطباق الظلام، فسأله النقراشي: «أولسنا منتظرين حتى يحضر خال العقاد؟!»
قال الأستاذ محمد حسن: «ها هو ذا قد حضر، ولا يزال حاضرا، وإن شاء عبر النيل معنا.»
والتفت النقراشي إلى جانبي فرأى شيخا أبيض الوجه، أميل إلى الشقرة، وتوليت التعارف بينهما، فحياه النقراشي وهو يقول ضاحكا: «عجبا ... لقد كنت أقرأ في الكشكول والصحف الشتامة عن «بخيتة السودانية» أم عباس العقاد، وكنت أحسبهم يجدون فيما يكتبون، فخطر لي أنني أنتظر رجلا أسود أو قريبا من السواد حين جلسنا ننتظر خالك ... أما أن يكون رجلا أشقر له بقايا شعر أصفر، فهذا ما لم يخطر ببال.»
وسألني مازحا: «لماذا لم تكذب الخبر؟»
قلت: «إنني لم أكذب أخبارا أكذب من هذه، فما بالي أكذب نسبتي إلى أم سودانية؟ ليس في الأمر ما يوجب البراءة منه، والاهتمام بتكذيبه ... فكم أنجبت السودانيات من رجال يفخرون بالأمهات.»
لقد كانت أسرة «أمي» من أبويها جميعا كردية قريبة عهد بالقدوم من ديار بكر، وقد رأيت أحدهم لا تميزه من أمم الشمال في لونه وقامته، وقد بقي بعضهم إلى أيام طفولتنا نعاكسه حين ندعوه إلى أكلة «ملوحة» أو «ملوخية»؛ لأنهم لم يتعودوا أكلها، فكنت أقرأ الأكذوبة عن «بخيتة السودانية»، وقد وقر في نفسي أنها أبعد من أن تصدق، واقترنت هذه الأكذوبة بأكذوبة أخرى في ذلك الحين تروى عني أنني أهمل زوجتي، وأتركها تتسكع في الطرقات، ولم تكن لي زوجة قط حتى تتسكع في طريق أو في بيت! فلماذا أحفل بما يقال، وكله من هذا اللغو المحال؟!
ولكن هل كانت حكاية «السودانية» كذبا محضا من الألف إلى الياء؟ كلا ... ويا للعجب! فإن أجداد أمي جميعا قد تزوجوا في السودان، وكان جدها لأبيها وجدها لأمها في الفرقة الكردية التي توجهت إلى السودان بعد حادثة إسماعيل بن محمد علي الكبير، وهناك عاش عمر أغا الشريف قبل قدومه إلى أسوان، وهو جد أمي لأبيها، وأبوها هو محمد أغا الشريف الذي اختار «أطيان» المعاش في قرية من قرى الإقليم ...
Bog aan la aqoon