121

له أن يطيش، وعلى الحياة أن تصبر على طيشه حتى يثوب إلى الحكمة، ويصلح بيديه ما كانت تصلحه هي بيديها ...

له أن يعذب أبويه بالمغامرة والمخالطة، وعلى الحياة أن تحبب إليهما العذاب، وتلهمهما الصفح والحنان ... فهو صاحب شروط، والحياة تتقبل منه تلك الشروط، فهي جديرة بأن يحياها، وهو جدير بأن يتقبلها على هواه وعلى هواها ...

أما الشيخوخة الفانية، فهي على نقيض ذلك من الألف إلى الياء ... حق للحياة أن تحرمها الطعام والشراب شيئا فشيئا، وواجب عليها هي أن تقنع بما بقي لها، وتجرب الاكتفاء بالموجود عن كل مفقود. من حق الحياة أن تطيش معها، ومن واجبها هي أن تتقي ذلك الطيش بالحكمة، وتحسب له الحساب بالتدبير بعد التدبير ... فالحياة كلها شروط تمليها عليه، فيتقبلها، والحياة إذن غير جديرة بأن يحياها ولكنه يحياها، فلماذا؟ ... إنه يحياها بحكم العادة وبحكم الضعف عن فراقها؛ لأن الإنسان لا ينبذ الحياة إلا بقوة مستمدة من الحياة. ومن أجل هذا، كانت نسبة الانتحار بين الشبان أكبر من نسبة الانتحار بين الشيوخ ... •••

ويشبه هذا المثال مثال الفارق بين الحياة المستقلة والحياة المستعبدة لأهواء الآخرين ... فالحياة المستقلة نعمة، والحياة المسخرة «مدة سجن» تقضى؛ لأن المستقل يملك شروطه ويمليها على الحياة فتقبلها، ولأن الحياة تملي شروطها على «المسخر» فلا يملك الفكاك منها ... يعمل المستقل حين يشاء، ويستريح حين يشاء ... أما المسخر فلا يعمل لنفسه، ولا يستريح لنفسه، ولكنه يجري في العمل والراحة على قانون مفروض عليه ولا رغبة له فيه ...

ولنا أن نتخذ الأمثلة من الحياة الفنية كما نتخذها من الحياة الطبيعية، فنقول: إن الحياة الفنية تستحق العناء إذا كان عندك ما تقوله وتصنعه - وفاقا لذوقك، ووحي وجدانك وعقلك - ولكنها لا تستحق عناء قل أو كثر إذا كان كل ما تقوله موافقة لأذواق الناس وعقولهم، ومرضاة لهم في مطالب المصلحة والجد أو مطالب اللهو والفراغ ...

والشروط بالأمل الصحيح كالشروط بالعمل الواقع في تقويم قيم الحياة ... فليس من الضروري أن تكون شروطك كلها منجزة بين يديك في كل ساعة؛ لأن الحياة ليست ساعة واحدة، وليست يوما واحدا، وليست سنة ولا بضع سنوات ... •••

فإذا كانت لك شروط مؤجلة فيها، فهي كالشروط المعجلة على حد سواء، ومثلك في ذلك مثل المنفق على حساب المحصول في المزرعة، وهو يعلم أن المحصول آت لا ريب فيه ... فالحياة مصرف كبير، وأموال المصارف ليست كلها حاضرة منجزة في كل لحظة من لحظات النهار والليل، وإنما تغني عنها الثقة التي لا غنى عنها.

فاقنع بشروط الثقة في بعض الأحوال، كما تقنع بشروط الثقة في كثير من الأحوال ...

والحياة لعوب ماكرة، لا يحيط بمكرها جميع الأحياء ولو كانوا من أبناء آدم وحواء، وهي تعلم أنها تستهوي الخلق باللعب والدهاء، وتحول بينهم وبين الموت بالحيلة الناجحة في كثير من الأوقات، ولولا ذلك لشردوا منها كما يشرد الأطفال من الحبس الكريه الذي لا يلعبون فيه كما يشتهون؛ لهذا تعطي بعض الشروط وتمنع بعضها، فلا تكون جديرة بالحب كله، ولا بالبغض كله في وقت واحد من أوقات عمر الإنسان.

فالشاب له شروط كثيرة على الحياة في الصحة والنشاط، ولكنها قد تملي عليه شروطها الثقيلة في مسائل العمل والمال، أو مسائل الجاه والنفوذ، والشيخ عليه شروط يطيعها في شئون بدنه ونفسه، ولكنه قد يملك شروطه في تدابير المعيشة التي تريحه، ويعوض بها مسافات من راحة العافية والسلامة.

Bog aan la aqoon