103

ومضت الأيام والسنون، وجاوزت الأربعين، فسمعت عن تقاليدها المرعبة بين أصحاب النظارات، وعملت بتلك التقاليد على غير اضطرار في مبدأ الأمر؛ لأنني كنت أستطيع القراءة نهارا وليلا بعد الأربعين، ولكنني أردت المزيد من الوقت في مطالعاتي الليلية، فصنعت النظارة بين الخامسة والأربعين والخمسين، ولم أستخدمها إلا قليلا جدا في ذلك الحين ...

ثم شعرت في السنوات الأخيرة بالحاجة إليها تزداد على مر الأشهر، ولا أقول على مر الأعوام، وكدت أنسى قصيدة الشاعر الأعمى في الديوان الأول بعد ما نظمته من قصائد الدواوين المتوالية، فإذا بهذه القصيدة أثبت القصائد إلى ذاكرتي خلال السنتين الأخيرتين ... «عملية جراحية» وإلا فلا نظر! ...

وهانت العملية والعمليات مع هذه العاقبة المحذورة التي يهون معها فقد الحياة ...

وتمت العملية بسلام، ودخلت في ظلام الغماء راضيا به مغتبطا بسواده المحتوم؛ لأنه الليل الذي يطلع على فجر الضياء ...

وتشاء المقادير أنني أضع الغشاء على عيني في صبيحة اليوم الذي أظلمت بعده سماء مصر الجديدة حيث أقيم؛ لأنني أجريت العملية في أواخر شهر أكتوبر، وفي تلك الأيام منيت مصر الجديدة بغارات الخريف المشئوم ...

إن كان في تلك البلية رحمة من رحمات الغيب فرحمتها أنها لم تتقدم يوما واحدا، ولم تفاجئنا والمشرط بين العين ويد الطبيب القدير، ثم أطبقت البلية ساعات من أحلك ساعات الليل والنهار على السواء، فحمدت الله الذي لا يحمد على المكروه سواه ... حمدته لأنني ألازم موضعي بحكمة وشجاعة أو بغير حكمة ولا شجاعة! ... ولأنني أطفأت النور قبل أن تتصايح الأصوات حول الدار: أطفئوا الأنوار ... أطفئوا الأنوار ...

ظلمات فوق ظلمات

ولعلك تسألني عن تلك الساعات الطوال كيف كنت أقضيها، وبأي الأطياف والأشباح كنت أعمر ظلماتها وأملأ فراغها! ...

والحق أنها كانت ظلمات من أحلك الظلمات، وأنها كانت فراغا من أثقل الفراغ، ولكنني لم أسعد فيها - أو لم أشق - بطيف من أطياف الظلام ولا بهاجس من هواجس الفراغ، ولست أعجب لذلك لأنني تعلمت من تجارب الليالي والأيام أن الشواغل إنما تكون على قدر الحيرة والقلق، وأنه حيث يكون في الأمر قولان أو عدة أقوال فهناك التردد والاضطراب، وهناك الهواجس والأخيلة والأوهام والأشباح، وأما مسألة البصر فأي اختلاف فيها ...؟! وأي حيرة وأي موازنة وأي ترجيح؟! ... إنما هو القبول والاستسلام أو الرفض والخلاص من الظلام إلى الظلام!

وقد كنت أنتظر إحدى النتيجتين ولا أزيد، وكان جانب الرجاء - بحمد الله - أقوى في النفس من جانب الخوف والقنوط، فتراجعت الأشباح والأطياف إلى ظلماتها، وقضينا الساعات الطوال بالشواغل التي تضحك ولا تبكي وتسلي ولا تشجي، ومنها ما يضحك السامع ضحكتين لا ضحكة واحدة! ... لأنه يضيف إلى ضحكة العبث ضحكة المثل القائل: «إن الزمار يموت ويداه تلعبان!»

Bog aan la aqoon