101

قصيدة لا شك كان لها باعثها كغيرها من القصائد التي ينظمها الشعراء، وحي من خاطر نفساني أو حادثة عارضة. فما هو الخاطر النفساني هنا؟ أو ما هي الحادثة العارضة؟

هل كنت أحس في صباي ضعفا في النظر بعث في نفسي الإشفاق من فقدانه، والمصير إلى مثل ذلك الظلام الذي شكاه الشاعر المنكود في بلواه؟

ذلك أقرب ما يرد على الخاطر في تفسير باعث القصيدة، ولكنه على قربه بعيد من الواقع؛ لأنني كنت أيام نظم الديوان الأول على أقوى ما يكون الإنسان بصرا في صباه، وكنت - بالإيجاز - أستطيع أن أقرأ الصحيفة على نور القمر تحت قبة السماء. •••

ومن الجائز أنني كنت لا أعرف هذه القوة في بصري، وأنني كنت أكبر وأجاوز الشباب والكهولة، ولا أدري مبلغ بصري من القوة، كما يتفق كثيرا أن يجهل الإنسان ما يألفه من قوته ويحسبه من المألوفات التي لا غرابة فيها، ولم يكن هنالك ما يدعوني إلى القراءة على نور القمر؛ لأن المصابيح أوفر من أن تفتقد في مدينة كبيرة أو صغيرة، ولكنني أعلم الآن أنني استطعت أن أقرأ على نور القمر وأذكر ذلك جيدا؛ لأنني حين اضطررت إلى هذه القراءة مرة واحدة كان ذلك مقرونا بمناسبات متشابكة جامعة بين الجد والفكاهة، وبين ذكريات الأسرة والموطن، وغرائب الروايات، والتقاليد المتواترة في الريف، فليس في وسعي أن أنساها بعد حين، ولا أزال أذكرها اليوم كأنها حدثت قبل يوم أو يومين، ولم تمض عليها - كما مضى فعلا - أربعون سنة أو تزيد.

وفي جوار أسوان - بلدتي - ضاحية صغيرة جميلة على مسافة قصيرة منها، أهلها من أقدر خلق الله على التشبيه المحكم أو على الإصابة بالعين كما اشتهروا في الإقليم كله، ويقال عنهم إن أحدا منهم لا يملأ عينيه من الشيء إلى قضى عليه، وأصابه بما يعطبه أو يضره لساعته، وآية امتلاء العين من الشيء المنظور عندهم أنها تستوعبه بالتشبيه المحكم، فلا تعدو صفة من صفاته ... فالتشبيه المحكم والإصابات القاتلة في عرف القوم مترادفان ...

أمثلة من التشبيهات

قالوا إن أحدهم نظر إلى بستان من التين، فصاح إعجابا بثمراته المتفتحة: «ما هذا التين الذي يحكي خياشيم السمك؟!»

وقالوا إن أحدهم رأى رهوانا محلى السرج واللجام بالألوان المختلفة، فصاح قائلا: «أتراه يحمل بيارق الأحمدية؟!» ... يعني طريقة من الطرق الصوفية تسمى بالطريقة الأحمدية، ويحمل أتباعها الرايات المتعددة بمختلف الألوان ...

وقالوا: إن أحدهم نظر إلى ساقية بخارية، فقال: «إنها تبلع البحر بحوته ...»

وقالوا غير ذلك كثيرا من أمثال هذه التشبيهات، ولم ينسوا مرة من المرات أن يردفوا التشبيه بذكر العاقبة التي تلحق به على الأثر، وهي التلف والبوار ...

Bog aan la aqoon