62

Rajada iyo Utopiya

الأمل واليوتوبيا في فلسفة إرنست بلوخ

Noocyada

وذلك مصداقا للبيت الشهير الذي يرد في خاتمة «فاوست» جوته:

كل فان هو رمز فحسب،

وكل ما لا يمكن الوصول إليه سيصير هنا حادثا.

90

فكل ما يراه في الواقع رموز على الأبدي الفعال في الكون، وكل ما في الكون مجاز حي واقعي. ولأن العالم ناقص ولم يكتمل في صورته النهائية، ولأن كل شيء فيه متصل بكل شيء فإن وجوده ذاته يمكن أن يوصف بأنه دلالة، وحتى لو تصورناه أخرس لا ينطق وساكنا لا يتحرك، فإنه سيكون «علامة» تنطق وتعبر عن حالة. ولكننا نعلم أنه ليس أخرس ولا هو ساكن، وأن كل شيء فيه «يدل» على هويته التي لم تتحقق بعد، وهي الهوية التي يمكن أن نصفها بأنها «كلية العالم» أو «وحدته الكلية»، كما يمكن أن نقول إن كل شيء مفرد فيه هو «شفرة» تشير إلى كل شيء عداه «وتدل» عليه، وأن هذه الكثرة المجازية التي لا نهاية لها تعبر عن وحدة ظواهره المتنوعة وتماسكها.

بعد عرض علاقة الوظيفة اليوتوبية ببعض المذاهب المختلفة - التي حاولت أن توظفها بشكل أبعدها عن هدفها الحقيقي - نكون قد ألقينا الضوء على التحديد الأنثروبولوجي الذي اشتق منه بلوخ التحديدات الأنطولوجية التي مفادها أن في وجودنا «لا» يتحتم رفعها أو إلغاؤها، ونشعر أيضا أن ثمة مستقبلا تبدعه المخيلة، ولكن من المهم أن تكون صورة هذا المستقبل صورة واقعية وأن نتخيلها تخيلا موضوعيا، ونتكلم عنها في زمن المستقبل.

وعلى الرغم من اتساع أفق بلوخ الفكري الذي تجاوز الرؤية الماركسية، وعلى الرغم أيضا من أنه يتمتع بدرجة عالية من الحس التاريخي، إلا أنه يظل أسيرا لبعض الأفكار الماركسية التي لا تخلو من التزمتية. وربما يتضح هذا من موقفه من الأيديولوجيا، وتبنيه لوجهة النظر الماركسية التي ترى أن الأيديولوجية هي منظومة فكرية لم ينتج عنها سوى الوعي الزائف، وإنها بهذا المعنى ضللت الوظيفة اليوتوبية وعوقت اكتشاف الوعي بال «ليس-بعد». لقد تغافل عن أن كل عصر له أيديولوجيته، وأن لكل عصر منظومته الفكرية بالمعنى الكلي للفظ الأيديولوجيا عند كارل مانهايم، الذي يحتفظ كذلك بمعنى يوتوبي يتراكم مع الزمن، أن الماركسية نفسها لم تخرج في النهاية عن النطاق الأيديولوجي، كما بقيت في التحليل الأخير يوتوبيا تحاول أن تتحقق بشكل عيني، وآمنت إيمانا جازما بحتمية التطور التاريخي نحو مجتمع شيوعي يوتوبي، وبهذا المعنى يكون للأيديولوجيا نصيب في كل نسق فكري، وتكون لها وظيفة اجتماعية - ربما لا تقل أهمية عن الوظيفة اليوتوبية المتضمنة فيها بصورة غير مباشرة كما تقدم - تتمثل في القدرة على تفسير العلاقات الاجتماعية، وإدراك العلاقات بين الأشياء. والمهم أن هذه الوظيفة ليست ثابتة وإنما هي متغيرة في كل عصر تاريخي ولا يمكن التغافل عنها بأي حال من الأحوال.

ويتهم بلوخ كل المثل العليا في تاريخ الفلسفة بأنها مجردة وتأملية، وأنها مقطوعة الصلة بالواقع الفعلي، وأن الماركسية وحدها هي التي استطاعت أن «توسط» هذا الواقع لتحقيق مثلها الأعلى - أي الاشتراكية - التي هي بطبيعة الحال في رأي بلوخ والماركسيين هدف عيني. إلا أن هذا الاتهام للمثل العليا طوال تاريخ الفكر الفلسفي هو في مجمله نوع من المبالغة - على الرغم من استشهاده بالعديد من المذاهب الفلسفية وإثباته بالبراهين ما يدعم به مدى التجريد الكامن فيها - بل ويمكن اعتباره نوعا من التعميم الذي يجب ألا يقع فيه فيلسوف يتحرى الدقة العلمية في أحكامه على الأشياء، كما أنه نوع من المبالغة في قدرات النظرية الماركسية التي أثبت التاريخ عجزها عن التوسط مع الواقع الفعلي، ناهيك عن إخفاقها في تحقيق أي من أهدافها، بل ويمكن القول إنها لا تختلف كثيرا - على الأقل في جانبها التطبيقي - عن الأنساق الفلسفية السابقة التي قامت لانتقادها. ويبدو أن بلوخ نفسه قد تناسى أن طبيعة المثل العليا تفترض أن تكون من النوع المفارق أو المتجاوز للواقع، وكم أكد هو نفسه في أكثر من موضع أن الفكر بطبيعته متجاوز! وأخيرا فربما كانت الوظيفة اليوتوبية للدلالات اللغوية التي توحي بها المجازات والرموز أكثر وضوحا من غيرها، لأن هذه الدلالات تتضمن في طياتها صيرورة متصلة، وتحولات تتخذ أشكالا مختلفة، وإن كان هذا لا يتضح بشكل جلي إلا في الأعمال الفنية الكبرى والأصيلة. فهل الواقع هو صورة مماثلة للعمل الفني؟ وهذه المجازات والرموز التي استطاعت - عن طريق فض قشرتها اللغوية - أن تكشف عن هوية العمل الفني، هل ستستطيع - أي المجازات والرموز - أن تكشف عن الهوية الحقيقية الكامنة في الواقع الفعلي بعد فض قشرته؟ إنه سؤال مفتوح، والهدف منه هو تأكيد أن هذا الجانب من أكثر الجوانب الدالة على أصالة بلوخ.

الفصل الثالث

البناء الأنطولوجي للأمل

Bog aan la aqoon