Rajada iyo Utopiya
الأمل واليوتوبيا في فلسفة إرنست بلوخ
Noocyada
المقدمة
1 - حياة بلوخ ونواة تفكيره اليوتوبي
2 - البناء الأنثروبولوجي للأمل
3 - البناء الأنطولوجي للأمل
4 - الزمان والتاريخ والجدل
5 - تجليات الأمل في يوتوبيات التقنية والكشوف الجغرافية والفنون
6 - تجليات الأمل في اليوتوبيات الاجتماعية
ملاحظات نقدية ختامية
مراجع البحث
المقدمة
Bog aan la aqoon
1 - حياة بلوخ ونواة تفكيره اليوتوبي
2 - البناء الأنثروبولوجي للأمل
3 - البناء الأنطولوجي للأمل
4 - الزمان والتاريخ والجدل
5 - تجليات الأمل في يوتوبيات التقنية والكشوف الجغرافية والفنون
6 - تجليات الأمل في اليوتوبيات الاجتماعية
ملاحظات نقدية ختامية
مراجع البحث
الأمل واليوتوبيا في فلسفة إرنست بلوخ
الأمل واليوتوبيا في فلسفة إرنست بلوخ
Bog aan la aqoon
تأليف
عطيات أبو السعود
المقدمة
«الأمل واليوتوبيا عند إرنست بلوخ» موضوع هذا البحث. وقد يتبادر إلى الذهن سؤال عن علاقة كل منهما بالآخر، أي علاقة البشر وأمانيهم باليوتوبيا التي تعطي انطباعا أوليا بأنها بناء عالم مثالي في الخيال، وكأن الأمل يرتبط بالخيال الذي قد لا يحققه على الإطلاق، وليس هذا بطبيعة الحال هو هدف البحث؛ ولذا يجب البدء بتعريف كل منهما. أما الأمل فهو تعبير عن تطلعات الجنس البشري إلى حياة أفضل في المستقبل، يسودها الإخاء والمساواة وتقوم على أساس من العدل في ظل مملكة للحرية، وأما اليوتوبيا فهي النظام الذي يحقق هذه التطلعات في مكان ما على هذه الأرض. وليس المقصود باليوتوبيا هنا هي الترجمة الحرفية للكلمة التي تعني «لا مكان» لأن اليوتوبيا موضوع هذا البحث هي يوتوبيا عينية قابلة للتحقيق وفق شروط داخلية وخارجية، أي شروط ذاتية وموضوعية تجتمع في لحظة تاريخية ملائمة توفر شروط تحققها.
وقد تم اختيار هذا الموضوع لأهميته الشديدة في عصرنا الحديث الذي اتفقت الآراء على أنه عصر أزمة كبرى. وغالبا ما تبرز فلسفة الأمل في العصور التي يغلب عليها التوتر والاضطراب وتزداد فيها الصراعات، وقد شهد القرن العشرون حربين عالميتين وحروبا أهلية لا حصر لها، وخيبة آمال في ثورات كبيرة وآمال عظيمة، فلا بد أن يكون هناك بعث لروح الأمل، ولا بد أن يكون الأمل - ونحن على مشارف الألف الثالث للميلاد - هو المطلب الأساسي والمشروع. أما لماذا «الأمل واليوتوبيا عند إرنست بلوخ» على وجه التحديد ، فلم يكن هذا أيضا من قبيل الصدفة أو العشوائية؛ إذ لا يوجد في عصرنا فيلسوف تغنى بالأمل مثلما فعل هذا الأخير، حتى لقد وضعه - أي الأمل - عنوانا لأهم كتبه على الإطلاق وهو «مبدأ الأمل»، كما أنه - أي بلوخ - يعد أكبر فيلسوف يوتوبي في القرن العشرين أهاب بالإنسان أن يمسك بهذا المبدأ الذي تحول عنده إلى مبدأ للمسئولية التي يحملها الإنسان على عاتقه ليحقق بإرادته الثورية آماله وأحلامه في يوتوبيا واقعية وعينية.
ومنهج البحث هو المنهج التحليلي النقدي، لأن بلورة النسق الفلسفي الكامل لفلسفة الأمل قد استلزمت التحليل والشرح والتفسير والنقد، كما أن هذا النسق لم يقدم من قبل إلى المكتبة العربية، التي لم تعرف من كتب بلوخ سوى الترجمة العربية لكتاب «فلسفة عصر النهضة». وكان من الضروري - نظرا لضخامة هذا النسق الذي ضم التراث البشري في داخله - تقديم الإطار النظري الكلي وإسقاط تفاصيل كثيرة لا تخل بالهيكل العام لفلسفة بلوخ. وقد كانت هناك صعوبة كبيرة في استخلاص البنية الفلسفية، وترجع هذه الصعوبة إلى أن بلوخ قدم مشروعا فلسفيا ضخما وطموحا لا يفتقر فقط إلى الاتساق والتماسك، بل يتسم أيضا بالغموض والإبهام بسبب صياغته في لغة معقدة يصعب فك رموزها، وأسلوب يغلب عليه المجاز ويكثر من استخدام الصور الشعرية والأسطورية والمصطلحات الصوفية، وقد زاد من هذه الصعوبة الطابع العام للفكر الألماني الذي لا يعرف في كثير من الأحيان بساطة العرض وسهولته، بل يميل دائما إلى التعقيد والتكثيف والتجريد باعتبارها - في نظر المفكرين الألمان - دليلا على عمق الفكر وأصالته؛ مما جعل بلوخ لفترة طويلة غير مقروء خارج ألمانيا، بل وغير مقروء أيضا من أبناء وطنه - باستثناء الصفوة من المتخصصين والمثقفين - ويرجع هذا إلى صعوبة فهمه من قبل المثقف العادي.
غمر بلوخ نسقه الفلسفي في تفاصيل هائلة من التراث البشري بأكمله، وعرض لكل فروع المعرفة من فلسفة وفن وأدب وموسيقى وشعر، كما عرض لحضارات العالم ودياناته القديمة بحيث يمكن القول بأنه آخر المفكرين الموسوعيين في القرن العشرين، وأفرط أيضا في استخدام المصطلحات والعبارات اليونانية واللاتينية والأقوال والمأثورات القديمة التي لم تعد تستخدم الآن؛ في محاولة لإحيائها وإضفاء معاني جديدة عليها إلى الحد الذي يمكن معه القول بأنه أوجد في اللغة الألمانية قاموسا ثقافيا خاصا لفلسفته، كما أسرف باعتباره ناقدا أدبيا في الوقت ذاته في استخدام الصور الفنية (الاستعارة والتشبيه والكناية والرمز) التي زادت من غموض لغته.
وكان من الضروري للتغلب على هذه الصعوبات إسقاط تفاصيل جزئية واستطرادات كثيرة كان من الممكن - في حالة تتبعها - أن تخرج بالبحث عن السياق المرسوم له، كما كان من الضروري استخلاص النسق الكلي لفلسفة الأمل، وتقديمه بالعرض والتحليل أولا ثم بالتعقيب النقدي على بعض التفاصيل والجزئيات التي استلزمت الوقوف عندها وتم نقدها في موضعها. وأخيرا ينتهي العرض التحليلي الكلي بتقييم عام في خاتمة نقدية للإطار العام لفلسفة الأمل واليوتوبيا.
ينقسم البحث إلى ستة فصول تتدرج في خط تصاعدي بدءا من حياة بلوخ إلى عرض البناء النظري لفلسفته في الأمل، ثم محاولة تطبيق هذا النسق النظري على التاريخ البشري المنظور إليه نظرة يوتوبية. ويتناول الفصل الأول «حياة بلوخ ونواة تفكيره اليوتوبي» ويقدم تعريفا بالفيلسوف وعصره. وينقسم هذا الفصل إلى ثلاثة أقسام؛ أولا: حياة بلوخ ومؤلفاته، وفيه عرض تاريخي لحياته وأسفاره وعلاقات الصداقة التي جمعته ببعض فلاسفة عصره وأدبائه، والتعريف بمؤلفاته وأعماله. ثانيا: المؤثرات الفكرية في فلسفته، وهي عديدة ومتنوعة، منها مؤثرات فلسفية كالفلسفة اليونانية وخاصة أرسطو، والفلسفة الكلاسيكية الألمانية من ياكوب بوهيه وهيجل وشيلنج، والفلسفة الماركسية التي تركت بصماتها على الطابع العام لتفكير بلوخ، ومؤثرات أدبية كالحركة التعبيرية التي غلب أسلوبها الأدبي على لغة بلوخ الفلسفية، ومؤثرات دينية وخاصة التراث الصوفي المسيحي واليهودي وفكرة الخلاص. ثالثا: مدخل إلى فلسفته ومفاهيمها الأساسية وفيه تعريف بأهم المقولات التي قام عليها النسق الفلسفي للأمل واليوتوبيا، مثل مقولات ال «ليس-بعد» وما قبل الظهور و«الإمكان» و«الأمل» و«الأمام» و«الجديد» و«الأقصى».
ويتناول الفصل الثاني «البناء الأنثروبولوجي للأمل» وهو الجذر الأول من فلسفة الأمل الذي يصور انعكاس الوعي بال «ليس-بعد » على الذات البشرية، وينقسم هذا الفصل إلى ثلاثة أقسام: أولا: نشأة الوعي، وفيه تتبع لظواهر الوعي البشري منذ بدايته الأولى عند الطفل، ويعرض لنظرية في نشأة الوعي من الدوافع، وأهمها وأولها الجوع، فهو الذي يدفعنا ويحركنا إلى الأمام. كما يتتبع آثار الحلم البشري بأبعاده المختلفة وأنواعه، وكيف تطور الوعي بال «ليس-بعد» من أحلام اليقظة. ثانيا: طبقات الوعي، ويعرض لطبقات الوعي المختلفة ومنها ما قبل الوعي، وهو اللاوعي بالمعنى الفرويدي أي المكبوت أو المنسي، والوعي بال «ليس-بعد» وهو الوعي بشيء جديد لم يأت بعد أو بشيء يرجح حدوثه بناء على شروط ذاتية وموضوعية محددة، وهو ما يسمى الوعي بالمستقبل. ثالثا: معوقات الوعي بال «ليس-بعد»، ويشمل المعوقات المختلفة التي تحول دون ظهور وعي ال «ليس-بعد» إلى النور، ومنها العائق التاريخي الذي يسلم بوجود التام والكامل منذ البداية، الأمر الذي يجهض كل محاولة للتقدم نحو الجديد، ومنها النزعة الرومانسية، إذ استعبدها الماضي حين اعتبرت أن الكمال كله كان في الماضي، ومنها اليوتوبيات الاجتماعية التي لم تكن قادرة على التطور بسبب النزعة السكونية التي سادتها، كل هذه المعوقات حالت دون ظهور الوعي بال «ليس-بعد» الذي لا يمكن اكتشافه بفعل التذكر، بل بالحدس الذي يؤدي وظيفة يوتوبية.
Bog aan la aqoon
ويتناول الفصل الثالث «البناء الأنطولوجي للأمل»، وهو الجذر الثاني من فلسفة الأمل الذي يمثل البناء الأنطولوجي لنظرية ال «ليس-بعد» أي لنظرية الوجود الذي لم يتحقق بعد، وينقسم هذا الفصل إلى ثلاثة أقسام؛ أولا: أنطولوجيا ال «ليس-بعد» ويعرض لأربعة مفاهيم أنطولوجية أساسية تدل على حركة الواقع الجدلي للمادة والتاريخ، وتكشف عن صيرورتها نحو تحقيق الأمل اليوتوبي، مفهوم «اللا» المتعلقة بمبدأ الوجود، وهي ليست نهائية ولا مطلقة وإنما تعلن عن نفسها في حالة الجوع بوصفها افتقارا أو لا تملك؛ ولذلك فهي مغروسة فينا وتسعى دائما للخروج من حالة الكمون عندما تنطلق اللا وتخترق الجوع لإشباعه. ثم تتحول «اللا» المتكررة والكائنة في «الهنا والآن» إلى ال «ليس-بعد» الكائنة بطبيعتها في المستقبل، فعندما تعبر «اللا» عن السخط على الصورة التي صار إليها الشيء المفتقد تظهر ال «ليس-بعد» اليوتوبية وتتخذ صورة السلب الذي يدفع الحركة الجدلية قدما، وبذلك تتحول «اللا» إلى ال «ليس-بعد» التي تتطلع بدورها إلى «الكل» المرتبط بعلاقة ذات هدف بكل من «اللا» وال «ليس-بعد». أما علاقة هذين الأخيرين بالعدم فليست علاقة بهدف، لأن هذا العدم أبعد ما يكون عن العدم المتضمن في السلب الجدلي الذي يسلب كل ما قد صار ليبلغ به مرحلة جديدة. فالإحباط والفشل هما الخطر الدائم الذي يتهدد كل عملية جدلية، ويشير كل من العدم والكل إلى الاتجاه الذي يوجه ال «ليس-بعد» إما سلبا فيكون «العدم» وإما إيجابا فيكون «الكل». ثانيا: مقولة الإمكان التي تدور في فلكها مقولة ال «ليس-بعد»، ولها طبقات متعددة تعكس درجات المعرفة والإدراك: (1) الممكن الصوري وهي بناءات أو تركيبات لغوية ممكنة على مستوى القول لكنها بغير معنى على الإطلاق. (2) الإمكان الموضوعي من الناحية المعرفية، ويتمثل هذا الإمكان في الصيغ والتركيبات التي تعبر عن اعتقاد أو ترجيح يقوم على مبررات تؤيده، لكن هذا التبرير المعرفي لم يصل بعد إلى النضج الكافي لجعل الإمكان موضوعيا، أي أن الإمكان هنا مشروط بصورة جزئية، والذي يميزه عن غيره من أشكال الإمكان هو المعرفة الموضوعية الجزئية بشروطه؛ أي بالشروط التي تجعله ناضجا للتحقيق. (3) الإمكان الموضوعي من جهة الموضوع نفسه، ويتميز الإمكان في هذا المستوى بأنه ينصب على شروط الموضوع نفسه التي لم تظهر بشكل كاف، ويتم الانتقال من المعرفة بالموضوع إلى الموضوع نفسه، أي إلى الخصائص والعوامل الداخلية والخارجية التي تشارك مشاركة إيجابية في إنضاج صيرورته وتحقيق إمكاناته. (4) الإمكان الواقعي في الواقع نفسه وهو المادة التي تظهر كل الأشكال الكامنة في رحمها بفضل الصيرورة الدائبة فيها. (5) تحقيق الإمكان، وهو تلاقي العامل الذاتي مع العامل الموضوعي في إطار الشروط والقوانين التي تعين ذلك الإمكان ومدى قابليته للتحول دون مبالغة أو تغليب لأحد العاملين المتشابكين على الآخر، وبهذا يتحقق صنع التاريخ وتظهر إمكاناته في صورها المختلفة، ويتغير المجتمع والطبيعة من جذورهما. ثالثا: أنطولوجيا المادة، ويتناول مفهوم المادة عند بلوخ، فليست المادة هي الكتلة الصماء، وليست هي المادية التي ينظر إليها المثاليون ورجال الدين نظرة التعالي والازدراء ويسلبونها حق الميلاد الذي أعطي لها منذ عهد الفلاسفة قبل سقراط. بل صارت هي الأم الأزلية التي خرجت من رحمها الأزلي الأشكال المتجددة باستمرار ولم تزل تخرج منه دون أن تستنفد إمكاناته أبدا، وبذلك وضع بلوخ الأساس المادي الطبيعي ليوتوبياه الواقعية، واعتنق المفهوم الأرسطي للمادة وتتبع تطوره عند ما يسمى باليسار الأرسطي من ابن سينا وابن رشد وابن جبيرول وحتى ممثلي هذا الاتجاه في أواخر العصور الوسطى، ومن جوردانو برونو في عصر النهضة حتى اسبينوزا في القرن السابع عشر إلى أن اكتملت المادية الجدلية والتاريخية في الفلسفة الماركسية.
يتناول الفصل الرابع «جدل الزمان والتاريخ» ويعتبر الجدل بجانب الإمكان - كأسلوب وجود - والزمان - كشكل وجود - من أهم التحديدات أو المقومات الأنطولوجية للموجود الذي لم يوجد بعد، باعتبار أن الجدل هو منطق الزمانية ومنطق الصراع والتغير في الجوهر المادي للعالم. وينقسم الفصل إلى ثلاثة أقسام؛ أولا: الجدل عند بلوخ، ويعرض باختصار لمسار الجدل في تاريخ الفلسفة، وكيف أثبت الجدل وجوده كمنهج في تاريخ الفكر الفلسفي. ومع ذلك يدلنا تاريخ الجدل على توجهه صوب الذات مرة - كما عند أفلاطون قديما وكانط حديثا - وصوب الموضوع مرة أخرى - كما عند الفلاسفة قبل سقراط قديما وأوغسطين في العصور الوسطى وبرونو في عصر النهضة وحتى اسبينوزا في العصر الحديث - إلى أن جمع هيجل بينهما عندما قدم نموذجا للمنهج الجدلي بمعناه الموسوعي والكوني الشامل، وقضى على ثنائية الفكر والوجود التي وضعها الفكر الفلسفي طوال تاريخه، وثنائية المنطق والميتافيزيقا والمعرفة والوجود. وعلى الرغم من ذلك فإن إيقاع الجدل عند هيجل - القائم على فكرة التذكر - يختلف عن الجدل المادي عند بلوخ، فهو يظل عند هذا الأخير حركة تحمل ما لم يتحقق بعد وينبغي تحقيقه في داخلها باستمرار، ولذلك فهو جدل القلق، أي عدم التحقق وعدم الامتلاء النهائي. ثانيا بنية الزمان التاريخي، ويعرض الجذور العميقة لمشكلة الزمانية في الفكر الفلسفي قديمه ووسيطه وحديثه ومعاصره. فهناك الزمان الدائري في الفكر اليوناني، والزمان المستقيم - وهو زمان الأديان - في الفلسفة الوسيطة التي عبرت عن الفكر الديني كما عند أوغسطين، والزمان المطلق في العلوم الطبيعية التي أقام صرحها إسحاق نيوتن، والزمان كبعد رابع كما عند أينشتين في النظرية النسبية، ثم الزمان الذاتي في الفكر المعاصر كما عند برجسون وهوسرل وهيدجر، حتى نصل إلى الزمان التاريخي عند بلوخ حيث تتفاوت سرعته وكثافته من ناحية الامتلاء بالمضمون وحيث التداخل العميق بين الزمن الفلكي والكوني الذي لا يخلو من التطور والصيرورة الكيفية المتجددة، وبين زمن التجربة الإنسانية التي تصنع التاريخ البشري المتجدد باستمرار. إن آنات الزمان المختلفة ليست متجانسة، وإنما هي في معظم الأحيان متفاوتة تفاوتا كيفيا عن بعضها البعض، فأشكال الماضي من ناحية تاريخ الطبيعة، وأشكاله من جهة تاريخ البشرية لا يسيران في خط واحد. بل إن التاريخ البشري نفسه توجد فيه عصور تاريخية متميزة من حيث بنيتها الممتلئة بمضامين التطور ومعانيه المختلفة في الاقتصاد والفن والتنقية ... إلخ. ثالثا اللحظة الممتلئة، وفيه تتبع للحظة التي يتحد فيها الذات والموضوع والوجود والماهية ويتحقق فيها الوجود الأسمى غير المغترب. ويبدأ بلوخ في البحث عن مغزى الوجود في اللحظة الممتلئة من خلال الأعمال الأدبية وأهمها «فاوست» جوته ومقارنتها ب «دون كيشوت» سرفانتيس. وفاوست هو المثال الأسمى للرجل اليوتوبي، والرمز المجسد للقلق اليوتوبي المغامر إلى ما وراء الحدود والمخاطر للبحث عن الجديد، وهو رمز التعطش الدائم للمعرفة. وفي فاوست تنطلق الإرادة الثائرة وتتشكل في العالم ومن خلاله للوصول إلى القصد اليوتوبي أي لحظة الوجود الكامل والمطلق. أما دون كيشوت فهو من أهم الشخصيات الأدبية - بعد فاوست - التي سعت للوصول إلى اللحظة التي تحقق فيها وجودها الأسمى، ولكن إرادته الضعيفة - على العكس من فاوست - أخفقت في التوسط مع العالم الخارجي، فانفصلت عن الواقع العيني الذي كانت تعيش فيه ولم تصل للحظة المنشودة أبدا. ويبحث بلوخ عن اللحظة الممتلئة في الخير الأسمى الذي هو نهاية سلم القيم أو المثل العليا. وإذا كانت هذه القيم قد ظلت لفترة طويلة قيما ذاتية أي نابعة من عقل الإنسان، فإن للمشكلة جانبا موضوعيا تتفاعل معه ولا يمكن فصله عن الوعي أو الإرادة. ولذلك فإن عملية التقييم لا تعتمد على الوعي المعياري نفسه بل تعتمد كذلك على الموضوعات التي تزود هذا التقييم بالمحتوى المادي. ويستمر البحث عن اللحظة الممتلئة في الديانات سواء القديمة منها أو السماوية، ففي الديانة الإغريقية القديمة تحولت لحظة الوجود الأسمى إلى ما يمكن تسميته بالديانة الفنية كما تمثلت في التراجيديا الإغريقية، أما لحظة الوجود الأممي في الديانة المصرية القديمة فهي لحظة الصمت والسكون والثبات، وهي الأمل في الخلود وفي التوحد مع أوزوريس. وأما الديانة الرافدية القديمة فقد ربطت الأمل أو الخلاص بالإله المسيطر على الدورة الفلكية المتكررة، وأما في الديانة الصينية فالكونفوشيوسية تجد لحظة الوجود الأسمى في الاعتدال والتزام الحد، والتاوية وجدتها في «عدم الفعل» للاتحاد مع التاو أو طريق السماء. وأما الديانة الإيرانية القديمة - الزرادشتية - فقد وجدت اللحظة الممتلئة في الصراع بين النور والظلام، وفي الديانة البوذية الهندية تمثل الوجود الأسمى في لحظة تدمير العالم أو في لحظة الخلاص بالانطفاء وهو ما يسمى بالنيرفانا. وأما عن الديانات السماوية فقد كانت اللحظة الكبرى في الديانة اليهودية هي لحظة الخلاص ووعد الإله بلحظة يوتوبية للخلاص في سماء جديدة وأرض جديدة، وفي الديانة المسيحية تجلت اللحظة الممتلئة في قيام المسيح من القبر وصعوده إلى السماء وكأنه مرساة الأمل التي تأخذ البشر معها ليكونوا مثل الإله وتلك هي بشارة الخلاص المسيحي. ويأتي مضمون اللحظة الممتلئة في الدين الإسلامي في الخضوع لإرادة الله ولكتابه الكريم والسير على سنة رسوله. وأما في التجربة الصوفية حيث تختفي الثنائيات الحادة بين الأنا واللا-أنا، وبين الذات والموضوع، فتسمى هذه اللحظة بالآن الأبدية أو اللحظة الخالدة. ويتم التبادل بين كل من اللحظة والأبدية في وحدة جدلية هي اللحظة الأسمى التي لم تعد موجودة في الزمان بل تكون «الآن» فيها دائمة، وتكون ال «هنا» في كل مكان. وأخيرا اللحظة الممتلئة في الموت أو بمعنى آخر في الصور الخيالية المفعمة بالأماني التي رسمتها الأديان للحياة بعد الموت. لقد نظرت الديانة المصرية القديمة للموت على أنه بداية الحياة الحقيقية، واعتبرت أن الخلود هو لحظة الوجود الأسمى، أما عن الموت في الكتب المقدسة فلم تظهر فكرة الخلود في الديانة اليهودية إلا في مرحلة متأخرة، ولم يكن الموت هو اللحظة الأسمى في الديانة المسيحية بل البعث أو القيامة من الموت، لأن المجيء الثاني للمسيح هو لحظة الوجود الأسمى. ومع النزعة الرومانسية اختفى الخوف المعتاد من الموت وأصبح نوعا من التغيير والراحة الأبدية. ويرفض بلوخ فكرة الموت كما جاءت في الديانات والحضارات السابقة، كما يرفض فكرة الخلود من هذا المنظور الديني الساكن، ويرى أن لحظة الوجود الأسمى أو لحظة الخلود الأعظم ما هي إلا لحظة الفعل أو العمل والإبداع، فإذا كان الموت هو سلب الوجود، فإن مجيء الموت هو الذي يضفي على اللحظة قيمتها، كما أن لحظة الامتلاء والسعادة القصوى لن يوقفها الإنسان - لفرط طموحه واتساع أمله - ولن يخاطبها على لسان فاوست «تريثي قليلا، فما أجملك!» لأن من الممكن - مهما تصورناها ذروة الإمكان - أن تتكرر على الدوام في صور لا تنفد جدتها ولا ينتهي تنوعها.
ويتناول الفصل الخامس «تجليات الأمل في اليوتوبيات التاريخية» ويعرض لتجلي الأمل وتتبع بذوره فيما يمكن تسميته باليوتوبيات التاريخية، أي في تاريخ التقنية والكشوف الجغرافية والفنون المختلفة، وقد انقسم هذا الفصل إلى ثلاثة أقسام؛ أولا: التجلي اليوتوبي في تاريخ التقنية، والتي بدأت في العصر اليوناني مع الميثولوجيا عندما سرق بروميثيوس النار ليعطيها للإنسان مانحا إياه سر التقنية، وتوسطت الطاقة لتحول الإنسان المقهور إلى إنسان صانع. وعندما عجزت قدراته المادية والعلمية - في العصور القديمة والوسيطة - عن اختراع أشياء عينية لتحقيق حياة أفضل، لم تعجز مخيلته عن اختراعها في الخيال. وفي عصر النهضة تحول هذا السحر إلى ما يسمى بالسيمياء التي استخدمت السحر والتنجيم لفك رموز الطبيعة كما عند باراسلس وياكوب بوهمه، إلى أن تأسست في القرن السابع عشر والثامن عشر الجمعيات السرية التي زعمت أنها تملك معرفة سرية بالطبيعة والدين. وتقف يوتوبيا فرنسيس بيكون على رأس اليوتوبيات التي حررت التقنية من أسرها السحري؛ مما جعلها أول يوتوبيا للتقنية تميزت بالتفاؤل وكشفت عن إمكانات هائلة أثبت تحققها في المستقبل صدق حدسها، كما قدم توماسو كامبانيلا «مدينة الشمس» التي تميزت بحدس يوتوبي أضفى على التقنية رؤية مستقبلية، وقد حقق التقدم العلمي والثورة الصناعية أغلب صور التقنية التي رسمها خيال كامبانيلا. ثم كانت المادية الآلية بقوانينها الحتمية فظهرت تقنية مغتربة منذ البداية عن قوى الطبيعة، ونشأت بينهما علاقة قائمة على الاستغلال والافتقار إلى التوسط وإلى العلاقة الجدلية التي يجب أن تقوم بين المجتمع البشري والعالم المادي. ثانيا: التجلي اليوتوبي في الكشوف الجغرافية، فعلى الرغم من أن الاكتشافات الجغرافية بدأت لأغراض تجارية، إلا أنها تحولت إلى نوع من اليوتوبيات الجغرافية، فلكي يكون الاكتشاف يوتوبيا عينية لا بد أن يتعلق بالمستقبل، وقد عنيت اليوتوبيات الجغرافية في المقام الأول باكتشاف طرق وأراض جديدة بحيث أصبحت اليوتوبيات الأخرى مدينة لهذه الكشوف، وارتبط تاريخ الكشوف الجغرافية لفترة طويلة من الزمن بالأساطير التي تبحث عن أرض الذهب وجنة عدن. ولذا كان الهدف اليوتوبي من بعض الرحلات هو السعي وراء الحلم الأسطوري أو الجنة الأرضية التي حددها الكتاب المقدس في أورشليم، ولذلك ظل الشرق لفترة طويلة هو قبلة اليوتوبيا الجغرافية. ثم ارتبطت الكشوف الجغرافية منذ هنري الملاح وكولمبس من بعده بالظروف الاقتصادية، فلم يعد الهدف هو جنة عدن بل أصبح هدفا اقتصاديا. وبفضل التقدم العلمي الهائل تجاوزت الكشوف الجغرافية الأرض وما عليها وتحولت الآمال إلى الفضاء الواسع بعد أن تحررت الأجساد البشرية من الجاذبية الأرضية، فكانت رحلات استكشاف الكواكب الأخرى، على الرغم من أن هذه الأرض التي يحيا عليها البشر ما زالت تتضمن داخلها عالما أفضل وليس علينا إلا البحث عنه بين الكائنات البشرية وعلى هذه الأرض. ثالثا: التجلي اليوتوبي في تاريخ العمارة والفنون، ويتناول هذا القسم: (1) التجلي اليوتوبي في فن العمارة، فقد عبر هذا الفن عن أحلام مفعمة بالأماني كما في جدار بومبي الروماني، ثم خضع - كسائر الفنون والعلوم الأخرى - لسيطرة السلطة الدينية في العصور الوسطى، فعبر عن صور ورسوم مستوحاة من الكتاب المقدس. وصاحب التغيرات السياسية والاقتصادية والدينية التي حدثت في عصر النهضة، صاحبها تحول في الفنون يعكس ما تمتعت به الطبقة الحاكمة وكبار التجار وأمراء المدن من مظاهر ثراء وفخامة، فتحول الفن من الكنائس إلى القصور البديعة، وأصبحت المناظر الطبيعية - وليست الدينية - هي مجال فن العمارة، وتحول الفن القوطي - الخاص بطراز الكنائس - إلى فن الباروك الذي تميز بنزعة التكلف مثله مثل فن الروكوكو من بعده، إلى أن تحولت العمارة في العصر الحديث إلى إنشاءات مجردة ومدن بلا حياة وسيطر عليها سكون العالم الآلي، فأصبحت غريبة عن الإنسان، كما أصبح الإنسان مغتربا عنها. وبذلك لم تحقق اليوتوبيا المعمارية هدفها في تشكيل المكان بشكل أكثر جمالا، ولم تستشرف مكانا أكثر ملاءمة للإنسان لبناء «وطن» إنساني جديد. (2) التجلي اليوتوبي في فن التصوير، ويعد التصوير من خلال الأضواء والظلال والتكوينات والأبعاد والزوايا من أقدر الفنون على استشراف المستقبل وإلقاء الضوء على أشياء لم توجد بعد في عالم الواقع. وقد مر التصوير بمراحل تطور مختلفة كشف في كل مرحلة منها عن بعد من أبعاده اليوتوبية الكامنة في داخله، فإذا ابتعدنا عن المرحلة الزمنية التي كان الفن فيها خادما للدين، وجدنا أن الفن الهولندي قد عبر عن موقف من الحياة لا ترفع فيه، وفي نهاية العصور الوسطى ظهرت في الصورة أبعاد مفتوحة على العالم الطبيعي وتصوير المنظر المفتوح المفعم بالأمل للإيحاء بالامتداد الهائل لعالم لامتناه. ثم تحول الرسم إلى التصوير في أماكن طبيعية أكثر اتساعا وانفتاحا في الهواء الطلق لإرضاء الذات البشرية التواقة للرحيل لعالم أفضل. (3) التجلي اليوتوبي في الأعمال الأدبية، وفيه محاولة لتلمس العنصر اليوتوبي والاهتداء إلى بعد الأمل في عملين أدبيين كبيرين هما «الكوميديا الإلهية» لدانتي و«فاوست» لجوته، فكانت الأولى رمزا للسكون الأبدي الثابت أي ليوتوبيا مكانية مغلقة ليس لها مستقبل، وكانت الثانية نابضة بالوعي الحي الإرادي أي أنها يوتوبيا زمانية متحركة. وننتهي من هذا إلى أن تقييم العمل الفني لا بد أن يكون في حدود ما يحمل هذا العمل من بعد يوتوبي، أي بقدر ما يعبر مضمونه عن الأمل الكامن فيه.
ويتناول الفصل السادس «تجليات الأمل في اليوتوبيات الاجتماعية». وينقسم إلى ثلاثة أقسام؛ أولا: يوتوبيات العصور القديمة والوسيطة، ويتناول هذا القسم: (1) جمهورية أفلاطون وكيف أنها كانت أبعد ما تكون عن الديمقراطية وعن الطبيعة البشرية؛ إذ فاقت كل النظم اليوتوبية في سكونيتها وبعدها عن اليوتوبيا الإنسانية، وبقيت أقرب إلى تقرير واقع اجتماعي قائم بالفعل. (2) الرواقية والدولة العالمية، فقد نادت الرواقية بدولة عالمية تجمع كل البشر في وحدة عالمية هدفها الانسجام الكامل مع الطبيعة. (3) يوتوبيا الكتاب المقدس، وأثر الرواقية على ما قد نلمسه من خط يوتوبي في الكتاب المقدس. (4) مدينة الله للقديس أوغسطين، حيث قدم أوغسطين صورة يوتوبية في كتابه «مدينة الله» أبرز فيها التاريخ في شكل صيرورة للخلاص تربط آدم بالمسيح على أساس من الوحدة الرواقية للجنس البشري، وهي صورة هدفها جعل البشر قديسين، أي أنها يوتوبيا انعقدت فيها الآمال والأحلام على ميلاد روحي جديد لأغلبية البشر، وإن كانت هذه الأحلام والآمال لا تتجه اتجاها حقيقيا إلى المستقبل. (5) مملكة الإنجيل الثالث، ليواخيم الفيوري الذي نقل مملكة النور من العالم الآخر إلى داخل التاريخ ليودع اليوتوبيا في المستقبل التاريخي. ثانيا: يوتوبيات عصر النهضة، وينقسم هذا القسم إلى: (1) يوتوبيا توماس مور، التي تعد أول صورة حديثة للأحلام المفعمة بالأماني لشيوعية-ديمقراطية نمت مع بداية القوى الرأسمالية، كما هي تعبير عن نزعة ليبرالية حرة ذات مضمون ديمقراطي إنساني. (2) مدينة الشمس لتوماسو كامبانيلا، وهي يوتوبيا قائمة على النظام وعلم التنجيم، والمقابلة بين يوتوبيا مور ومدينة الشمس لكامبانيلا هي مقابلة بين الحرية والنظام، ويجب أن تفهم العلاقة بين الحرية والنظام في إطار جدلي مادي لكي تنتهي إلى اليوتوبيا العينية. ثالثا: يوتوبيات العصر الحديث، وينقسم هذا القسم إلى: (1) اليوتوبيا والحق الطبيعي، ويعرض لحقيقة العلاقة بين الحق الطبيعي - بما ينشده من عدل وتأكيد للكرامة الإنسانية - واليوتوبيات الاجتماعية - بما تنشده من سعادة بشرية - فكلاهما يؤمن بأن الوجود الحاضر يجب دفعه للأمام لكي يتحرر من كل الظروف التي تعوق فتح الطريق لحياة أفضل. (2) اليوتوبيات الفيدرالية، التي يمثلها كل من روبرت أوين وشارل فورييه، ثم ظهرت يوتوبيات مركزية - حيث تنوعت الأشكال اليوتوبية في تلك الفترة - ذات تنظيمات اقتصادية كبيرة ونزعة جماعية صناعية عند كابيه وسان سيمون وأتباعه. (3) الصهيونية ويوتوبيا الأرض الجديدة-القديمة، وهي يوتوبيا قائمة على العرقية والعنصرية الدينية، وحام حلمها اليوتوبي حول فلسطين وأخفت من الماضي وضعا بعينه لتضعه أمامها وتسعى لتحقيقه في المستقبل، وكأن هذا المستقبل في اليوتوبيا الصهيونية ينشأ من الماضي. (5) الماركسية واليوتوبيا العينية، لقد سعت اليوتوبيا السابقة كافة إلى تحقيق العدل وبناء عالم أفضل، ولكن ندر بينها من امتلك إرادة التغيير واكتشف التوسط التاريخي مما أسفر عن يوتوبيات تأملية مجردة. وإصلاح العالم لا يأتي بالتأمل بل بالفعل وبالنظرة الجدلية إلى الواقع مع مراعاة قوانين العالم الموضوعي حتى تتحول اليوتوبيا من تأملية مجردة إلى يوتوبيا عينية ذات نزعة اشتراكية، وهذا ما فعلته الماركسية في رأي بلوخ. وينتهي الفيلسوف الاشتراكي إلى أن تاريخ اليوتوبيا ليس إلا تطورا تدريجيا لهذه النزعة التي اكتملت - في رأيه - في الماركسية، ومعها تقدمت الاشتراكية من اليوتوبيا إلى العلم، وقد جسد ماركس بشكل مادي توقعات اليوتوبيا بوسائل اقتصادية عندما بحث في جدل الإنتاج ووضع الأسس المادية لجدل التاريخ، وألغى الثنائية بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، وبين الممارسة التجريبية واليوتوبيا من أجل إعادة تنظيم المجتمع بشكل ثوري. إنها يوتوبيا عينية بسبب ارتكازها على عنصرين أساسيين هما توجهها للمستقبل وارتباطها بإمكانات حقيقية موضوعية كامنة في الواقع الفعلي، وإن لم تتحقق بعد في العالم الخارجي.
إن الأمل النابع من خطة علمية مدروسة والمرتبط بالممكن الوشيك التحقق هو أفضل ما في حياة الإنسان، بشرط أن يرتبط بالمعرفة الدقيقة بالواقع مع الممارسة العملية، ولا يمكن أن يزدهر العقل بغير الأمل، ولا يمكن أن يتكلم الأمل بغير العقل، لأن وحدتهما وحدة ضرورية. والأمل الصحيح يتوسط النزوع التاريخي كما يتم في العالم وعن طريقه ويتجه نحو هدفه وهو تحقيق «المجتمع الإنساني الحر». وإذا كانت الماركسية - في رأي بلوخ - هي المعنية بتحقيق الهدف النهائي للأمل وهي الفلسفة الوحيدة القادرة على تحقيق الحلم اليوتوبي، فإن نزعته التفاؤلية وإصراره على الأمل حتى اللحظة الأخيرة من حياته لم يحجبا عنه رؤية الواقع الفعلي وتجاربه المريرة، ولم تغفل عينه عن المصاعب «الموضوعية» التي تواجه تحقيق الأمل المتجدد، ولهذا لم يغب عنه أن من الممكن أن يخيب الأمل في الأمل لأنه لا يتعامل مع وقائع ثابتة، بل مع مسار تاريخي جدلي لا يمكن له أن يتوقف، ولهذا يتطلب الأمل في المستقبل دراسة جادة لكل الشروط الذاتية والموضوعية التي تساعد على إظهاره إلى النور، وينتهي البحث بملاحظات نقدية ختامية تتناول التقييم العام للنسق الفلسفي الكامل لفلسفة الأمل واليوتوبيا عند إرنست بلوخ وتحاول أن تبين أنها فلسفة معاصرة وحية - على الرغم من جوانب النقد الكثيرة التي يمكن أن توجه إليها - خاصة بعد الزلزلة الأخيرة للتطبيق الاشتراكي للفلسفة الماركسية.
وأخيرا عسى أن يكون هذا البحث قد وفق بعض التوفيق في تقديم مفكر معاصر يثير إشكالات معاصرة لا نستطيع أن نبقى بعيدين عنها: كأزمة الماركسية وسقوط حلمها - على الأقل مؤقتا - وأهمية النقد الفلسفي، والتأكيد على الحرية والديمقراطية وكرامة الإنسان الفرد، والتفكير اليوتوبي المستقبلي، فما أحوج أمتنا العربية - في مرحلتها الراهنة - إلى هذا البعد المستقبلي الهام!
الفصل الأول
حياة بلوخ ونواة تفكيره اليوتوبي
إرنست بلوخ
Ernst Bloch
Bog aan la aqoon
فيلسوف ألماني وناقد أدبي وفني، يعد من أهم الماركسيين الجدد في القرن العشرين، قامت فلسفته على نزعة إنسانية خالصة لتحرير البشرية من العبودية، ووصفها بأنها فلسفة الأمل. وبلوخ هو الفيلسوف الوحيد بين مفكري عصره الماركسيين الذي عرف نفسه بأنه فيلسوف يوتوبي، ووصف اشتراكيته بأنها «يوتوبيا عينية» تمتد جذورها في الإمكانات التاريخية،
1
كما أن عرضه وتحليله لصور الأمل المختلفة عبر التاريخ قد أعطاه اسم «فيلسوف الأمل»، كما جعل كتابه «مبدأ الأمل» واحدا من أهم الكتب الأساسية في الفلسفة المعاصرة. ومع ذلك يمكن القول بأنه لم يكن فيلسوفا بالمعنى التقليدي، بل بالمعنى العيني والثوري. لقد اتجه تفكيره على الدوام إلى التغيير، كما تركز اهتمامه على التأثير في الظروف السياسية وتوجيهها نحو تحقيق الأمل الذي يمثل محور فلسفته وغايتها. وللاقتراب من فكر هذا الفيلسوف لا بد من إلقاء الضوء على حياته ومؤلفاته ومصادر فكره وتحديد أهم المقولات والمعالم الأساسية في فلسفته.
أولا: حياة بلوخ ومؤلفاته (1) حياته
ولد بلوخ في اليوم الثامن من شهر يوليو عام 1885م بمدينة لودفيجز هافن الصناعية الواقعة على نهر الراين في الجنوب الغربي لألمانيا. وهو ينحدر من أصل يهودي، وكان أبوه ماكس بلوخ موظفا بالسكك الحديدية في هذه المدينة الصناعية التي كانت معقلا لعمال المصانع الفقراء. فتح بلوخ عينيه على شقاء هؤلاء العمال وبؤسهم، وأدرك منذ طفولته التناقض الحاد بين قبح مدينته الصناعية وبؤسها وبين فخامة مدينة مانهايم وثرائها على الجانب الآخر من نهر الراين، ففي الأولى أكبر المصانع الألمانية وحولها العشش والأكواخ الفقيرة التي تعج بالعمال الكادحين، وفي الثانية أكبر وأفخم المسارح الألمانية المحاطة بالأبنية الفخمة والحدائق الغناء مما كان له أكبر الأثر في تكوين بلوخ الاشتراكي، وأحد أسباب انشغاله بالأفكار التقدمية والثورية منذ صباه ودفاعه عنها، كما كان أحد أسباب إعجابه بروزا لوكسمبورج.
2 (1871-1919م) وشخصيتها المتحررة. وكأن هذا الفيلسوف الذي سحره الجمال في اللغة والفكر فانجذب إليه بكل كيانه، قدر عليه أن يحيا وسط القبح والتلوث والضباب المتصاعد من أدخنة المصانع على نهر الراين الذي طالما تغنى الشعراء الألمان بجلاله الملكي وصفائه العذري، والذي رآه بلوخ في طفولته وصباه وهو ينساب بطيئا ملطخا ببقع الزيت الكثيفة.
3
كان بلوخ متعدد الاهتمامات الثقافية، وقد أقبل في مطلع شبابه على قراءة الفلسفة أثناء زياراته المتكررة لمكتبة مدينة مانهايم الغنية - المقابلة لمدينة لود فيجزهافن - وكان شغفه بالكتب الفلسفية والسياسية أحد أسباب قراءته المبكرة لفشته وهيجل وشيلنج. وبدأ دراسة الفلسفة والموسيقى والفيزياء عام 1905م في جامعتي ميونخ وفيرتسبورج التي حصل منها على درجة الدكتوراه عام 1908م برسالة عن فيلسوف التاريخ هيزيش ريكرت (1863-1936م ) تحت إشراف الفيلسوف وعالم النفس أوزفلد كولبه (1862-1915م). ثم انتقل للإقامة في برلين التي عاش فيها من سنة 1908 حتى عام 1911م، وتعرف على فيلسوف الحياة والاجتماع جورج زيميل (1858-1918م) وأخذ يتردد على محاضراته وندواته. وفي إحدى قاعات البحث التي كان يقيمها هذا الأخير تعرف على فيلسوف الجمال الماركسي جورج لوكاتش (1885-1971م)، وتوثقت بينهما عرى صداقة قوية كان لها تأثير عظيم على كل منهما، وكثرت أسفارهما معا وفي صحبة جورج زيميل وبخاصة إلى إيطاليا. وفي عام 1912م أخذ بلوخ يتردد على مدينتي جارميش
Garmisch
وهايدلبرج حيث كان يقيم لوكاتش،
Bog aan la aqoon
4
وحيث كان الاتفاق بينهما في الأفكار شبه كامل في تلك الفترة من حياتهما، ثم لم يلبث الخلاف الفكري العميق أن دب بينهما بعد ذلك بسنوات قليلة. وقد عكرت صفو هذه الصداقة خصومة شديدة وصلت إلى حد المعارك الجدلية اللاذعة التي سيشار إليها في حينها، ولم تعد العلاقة لصفائها الأول إلا عندما أهدى بلوخ كتاب «المشكلة المادية» إلى صديق شبابه لوكاتش.
وفي هايدلبرج أصبح بلوخ أحد رواد حلقة فيلسوف الاجتماع ماكس فيبر (1864-1920م) ولكن هذا الأخير ابتعد عنه لزعمه أن بلوخ يعتبر نفسه من رواد مذهب الخلاص ولتشككه في أفكاره الصوفية. وفي عام 1913م اقترن بلوخ بزوجته الأولى إليزافون شترتسكي التي كانت تعمل بفن النحت وتوفيت سنة 1921م، وقد كتب إلى صديقه يواخيم شوماخر في سنة 1943م رسالة يقول فيها إن إليزا قد أحبته وآمنت بفلسفته إيمانا مطلقا لا يقل عن إيمانها بالكتاب المقدس، حتى لقد راحت تفسره من خلال فلسفته، كما تفسر فلسفته من خلاله. ويبدو أنها صدقت كذلك تصديقا مطلقا بأن له رسالة يبلغها للبشرية، وهي رسالة التبشير بالخلاص القادم والوعد باليوتوبيا العينية التي ستحقق الأمل الذي امتلأ به قلبه الشاب في ذلك الوقت.
أعفي بلوخ من الخدمة العسكرية لعدم صلاحيته، فعاش معظم سنوات الحرب العالمية الأولى في جرون فالد
Grunwald
قبل أن ينتقل إلى برن عام 1917م، وأعلن معارضته الشديدة للحرب وللتجنيد الإجباري. وفي عام 1921م ذاع صيت بلوخ كأديب وكاتب منتظم في الصحف الرئيسية في برلين، وتعرف على الشاعر والكاتب المسرحي برشت (1898-1956م) وربطت بينهما صداقة قوية. ويرجع انجذاب كل منهما للآخر إلى نزعتهما الماركسية الإنسانية وغير المتزمتة.
5
وفي ذلك العام نفسه - أي عام 1921م - توفيت زوجته الأولى إليزا كما سبق القول - وقد كان لنزعتها الصوفية أثر كبير على أهم أعماله المبكرة وهو «روح اليوتوبيا» 1918م - بدأت سلسلة من الأسفار تنقل فيها بين سويسرا وإيطاليا وتونس التي زارها عام 1926م، وكانت هذه الزيارة هي أول اتصال مباشر لبلوخ بالعالم الإسلامي، تعرف خلالها على الإسلام الذي تضمن في رأيه «صورا مليئة بالأمنيات واللحظة الموعودة» التي أفرد لها فصلا مستقلا في كتابه الأكبر «مبدأ الأمل» بجانب الفصول التي كتبها عن التراث اليهودي والمسيحي. ورجع بلوخ إلى برلين وبدأت تربطه صداقة جديدة فى عشرينيات القرن مع مجموعة من الفلاسفة والأدباء والنقاد الألمان، الذين أصبحوا فيما بعد من أعلام مدرسة فرانكفورت، أمثال برشت وأدورنو (1903-1969م) - الذي كتب عن مؤلفات بلوخ بإعجاب شديد تحت عنوان «موسيقى بلوخ الكبرى» - وفالتر بنيامين (1892-1940م) الناقد الأدبي الماركسي الذي شارك بلوخ اهتمامه بالتراث الصوفي وبالقبالة
6
بوجه خاص.
Bog aan la aqoon
وعندما استولت النازية على السلطة في ألمانيا عام 1933م، استأنف بلوخ أسفاره من جديد، ورحل إلى زيورخ في سويسرا ومنها إلى فيينا حيث تزوج عام 1934م زوجته الثانية كارولا المعمارية البولندية. ورحلا إلى باريس ثم إلى براغ ومكثا بها من 1936 إلى 1938م حيث ولد ابنه جان عام 1937م، حتى انتهى به المطاف هو وزوجته وابنه إلى الهجرة النهائية إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1938م حيث بقي هناك ما يقرب من عشر سنوات، عاش خلالها في حالة من الانطواء الشديد وخلت حياته من الأصدقاء - باستثناء صديقين هما الموسيقي هانز آيزلر ويواخيم شوماخر - وبدأ في هذه الفترة من حياته في تأليف أهم كتبه على الإطلاق وهو «مبدأ الأمل» الذي أهداه إلى ابنه جان روبرت. وقد حاول أن ينشره في أمريكا تحت عنوان «أحلام حياة أفضل» ولكن خاب أمل فيلسوف الأمل، فلم يحظ الكتاب بأي اهتمام أو تعاطف من الثقافة الأمريكية التي طالما أشار إليها بلوخ باشمئزاز في ذلك الكتاب. لم تكن حياة بلوخ سهلة ولا ميسورة في الولايات المتحدة الأمريكية، ولم يستطع أن يتعاطف مع ثقافتها أو يحس بأدنى صلة تربطه بنظامها الرأسمالي؛ إذ رأى فيها استمرارا للفاشية التي تركها وراءه في أوروبا. وزاد من إحساسه بالعزلة في الولايات المتحدة ابتعاده عن بقية الفلاسفة الألمان مثل أعضاء مدرسة فرانكفورت الذين اختاروا الولايات المتحدة منفى لهم أثناء الحكم النازي. لقد التف معظم هؤلاء الفلاسفة حول الروائي الكبير توماس مان وتجاهلوه، كما تجاهله هوركهيمر (1895-1973م) مؤسس مدرسة فرانكفورت،
7
وضن عليه بالعمل في معهد الأبحاث الاجتماعية الذي انتقل في ذلك الحين إلى الولايات المتحدة، على الرغم من النفوذ الكبير لأدورنو - صديق بلوخ القديم - والمكانة التي كان يتمتع بها في المعهد. وربما كان سبب التجاهل هو فتور العلاقة بينهما في الثلاثينيات؛ فعاش بلوخ في الولايات المتحدة - معقل الرأسمالية - يعاني الحرمان والعوز حتى اضطرت زوجته كارولا إلى العمل نادلة في البداية، ثم التحقت بمكتب للعمارة لتوفير الحاجات الأساسية للأسرة وإعانتها على المعيشة.
8
وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945م وجهت الدولة الاشتراكية الجديدة في ألمانيا الدعوة إلى بلوخ لتولي كرسي الفلسفة في جامعة ليبزج، وقبل الدعوة عام 1948م لكي يحيا في البلد الذي شرع في بناء المجتمع الاشتراكي. وعاد بلوخ إلى ألمانيا وهو في الرابعة والستين من العمر، حالما بمجتمع جديد معاد للفاشية في جمهورية ألمانيا الديمقراطية. وقد احتل في البداية مكانة مرموقة كفيلسوف رائد، وصدر الجزء الأول والثاني من «مبدأ الأمل» في عامي 1954 و1955م على التوالي، ومنح الجائزة القومية لجمهورية ألمانيا الديمقراطية. غير أن صدمته في تطبيق التجربة الشيوعية في ألمانيا الشرقية (سابقا) واصطدامه باستبدادها وبيروقراطيتها جعلا موقفه الفلسفي والسياسي غير متوافق مع الحزب الحاكم؛ إذ كان لاتجاهه الماركسي اليوتوبي المتفرد أثر كبير في غضب الماركسية الرسمية على الرغم من تعاطف اليسار الجديد في ألمانيا الغربية مع فلسفته. وبدأ صراعه مع بيروقراطية الحزب الشيوعي واعتراضه على إهدار الحقوق الإنسانية والديمقراطية. وأدان الأوضاع السيئة في ألمانيا الشرقية في خطبته في مؤتمر الأكاديمية الألمانية للعلوم عام 1956م، كما وجه نقده الشديد لدعاية الحزب الشيوعي الألماني في ذلك الوقت، وقد كان يتبع سياسة موسكو الحرفية واتهمه - أي الحزب - بنسيان الفرد العيني الحي لحساب المجموع المجرد.
9
ويتضح من هذا النقد أنه أصبح من المستحيل على بلوخ التفاهم مع هذا الحزب أو الانضواء في صفوفه، حتى لقد اتهمه فالتر أولبرشت - رئيس الحزب آنذاك - بأنه لا يلتزم بالمبادئ الماركسية في تدريسه، وأن فلسفته اليوتوبية تتجاهل حقيقة الصراع الطبقي وتنساق وراء مثالية «الهدف البعيد» وهو ما ترفضه الماركسية الرسمية التي تعتبر نفسها قد حققت العالم الأفضل، ولذلك ترفض اليوتوبيا والتفكير اليوتوبي من أساسهما. ومنذ ذلك الحين بدأ الهجوم على بلوخ من قبل الفلاسفة الرسميين وممثلي الأيديولوجيا السائدة، وأوقف عن التدريس وأحيل بالقوة إلى المعاش عام 1957م. واعتبر منذ ذلك الحين - مثل سقراط قديما - مفسدا للشباب. ولولا تدخل أحد معارفه في المكتب السياسي لدخل السجن.
10
ثم حيل بينه وبين المشاركة في الحياة الأكاديمية في ألمانيا الشرقية، ففرض عليه الصمت، وخضعت مؤلفاته لرقابة السلطة السياسية، واعتقل عدد من تلاميذه، وعاش في عزلته لا يختلط إلا بالأصدقاء المقربين، وإن كان قد استمر - على الرغم من ذلك - في الكتابة، فظهر الجزء الثالث من «مبدأ الأمل» عام 1959م.
وبينما كان بلوخ يزور ألمانيا الاتحادية في عام 1961م لإلقاء بعض المحاضرات في جامعاتها فوجئ ببدء بناء سور برلين الشهير الذي ظل يفصل بين شطري ألمانيا حتى عام 1989م، فقرر البقاء في الغرب، واستجاب لدعوة من جامعة توبنجن للتدريس بها، واختار العيش في هذه المدينة لارتباطها بأسماء شيلنج وهيجل وهلدرلن، ولكنه عاش في هذه المدينة الألمانية الغربية الرأسمالية متمسكا بنزعته الاشتراكية، حانقا على الرأسمالية حتى النهاية. غير أن جو العداء الذي أحاط به، والافتراءات التي بدأت تتوالى عليه، وعدم ارتياحه للحياة في ظل الرأسمالية - على الرغم من تمتعه بالحرية الشخصية التي حرم منها في البلد الذي كان يزعم أنه يبني الاشتراكية - كل هذا لم يمنعه من مواصلة الكفاح في ألمانيا الاتحادية ضد قوانين الطوارئ، وحرمان التقدميين من التعيين في وظائف الدولة، كما لم يمنعه من القيام بواجباته العلمية والأدبية، فكرس وقته لتلاميذه، وناصر الحركة الطلابية. وبقي موقفه من النظام الشيوعي في الاتحاد السوفيتي موقفا متحفظا؛ إذ عارض النزعة الستالينية، وحذر على الدوام من أن روسيا لم تصل بعد إلى النضج السياسي وأنها ما زالت في مرحلة انتقالية، كما أكد أنها بعيدة عن «المملكة النهائية» التي يقصد بها «مملكة الحرية» المتعلقة بفكرته اليوتوبية الأساسية. لم يزر بلوخ الاتحاد السوفيتي رغم الدعوات التي وجهت إليه، واكتفى بالثناء على ما اعتبره الجانب الإيجابي في الثورة الروسية، وهي التطورات التي واكبت الثورة في فنون الباليه والرقص والفنون الشعبية وصناعة السينما. والمهم أن بلوخ لم يعتبر النظام الشيوعي الروسي نموذجا رائدا، بل ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك عندما دعا - في أواخر حياته - النظم الشيوعية الأخرى إلى الابتعاد عن هذا النموذج ومقاومة السيطرة السوفيتية عليها، وذلك على أثر الأحداث التي وقعت في تشيكوسلوفاكيا ومناصرته للنظام الاشتراكي في براغ. ولكنه لم يتردد كذلك عن معارضة النظام الاستعماري الأمريكي وإدانة التدخل الأمريكي في فيتنام بكل قوة.
Bog aan la aqoon
11
وساند - وهو في الثانية والتسعين من عمره - الدعوة إلى عقد جلسات محكمة «راسل».
12
للمرة الثالثة، كما انضم هو وزوجته لمنظمة تهدف لمساعدة ضحايا القهر والاضطهاد على مساعدة أنفسهم، وكتب نداء قبل وفاته بأسبوعين يحذر فيه من أخطار القنبلة النيوترونية.
حظي بلوخ في مدينة توبنجن بأسمى درجات التكريم. وعلى الرغم من أن صوته لم يكن مسموعا خارج ألمانيا - إذ لم يترجم إلى العالم الناطق بالإنجليزية إلا متأخرا، ولم تظهر الطبعة الإنجليزية ل «مبدأ الأمل» الذي يعد خلاصة نسقه الفلسفي إلا عام 1986م - إلا أنه كان يشغل في بلده مكانة رفيعة، حتى أصبحت صورة «الفيلسوف ذي الغليون» علامة من علامات مدينة توبنجن التي توفي فيها في يوم 4 أغسطس من صيف عام 1977م بعد إصابته بالعمى في سنوات عمره الأخيرة، وبعد الانتهاء من إعداد الطبعة الكاملة لأعماله. (2) مؤلفاته
كان «روح اليوتوبيا» هو أول مؤلفات بلوخ الفلسفية، وقد صدر عالم 1918م، بعد العديد من المقالات الأدبية. وفي هذا الكتاب تظهر بوضوح الروح المشيحانية
Messianism
أو روح التبشير بالخلاص الأخير التي تطبع تفكيره وتحدد شخصيته ورسالته في الحياة . وتغلب على الكتاب النغمة الحماسية المتدفقة لشاب تفيض مشاعره على قلمه أكثر مما يعنى بترتيب أفكاره وتنسيقها، كما يعبر الكتاب عن جيل كامل من الحالمين بالتغيير: «أن نعثر على ما هو حق وصواب يستحق أن نحيا من أجله، أن ننظم أنفسنا، أن نوفر الوقت الضروري لذلك، من أجل هذا الهدف نسير في طريقنا، ونشق الطرق الخيالية البناءة، وننادي ما ليس موجودا، ونبني بيوتنا كما نبني أنفسنا في الأفق الأزرق، ونفتش هناك عما هو حق وحقيقي، حيث يختفي كل ما هو واقعي فحسب، لقد بدأت الحياة الجديدة.»
13
بهذه العبارات يبدأ بلوخ كتابه وكأنه يعلن بشارة الرائد الذي يقدم على السفر إلى عالم جديد. وأهم ما يميز هذا الكتاب أنه يضع كل الأفكار التي يتضمنها في سياق تاريخي وفلسفي، وتظهر فيه التأملات الميتافيزيقية في صور واستعارات أدبية حية، كما تتبدى حقيقة المتعالي في لقاء مباشر، وتصبح اللغة معبرة، كما تصبح كلماتها أفعالا تشير إلى المستقبل. إن الذاتية هنا غالبة متدفقة، كما أن اللانهاية هي التي تتجه إليها هذه الذاتية محققة العلو أو التجاوز نحو ذلك الذي لم يتحقق بعد، والذي يحرك التاريخ والعالم والإنسان في عملية صيرورة متصلة نحو غاية التاريخ العالمي. وهذه الغاية التي لم تتحقق بعد هي المتعالي الحاضر في كل لحظة، وهو العنصر الجوهري في مسار العالم والمحرك له.
Bog aan la aqoon
ظهرت في هذا الكتاب المبكر فكرة بلوخ عن حركة التاريخ نحو مملكة الحرية التي تتحقق فيها هوية الإنسان مع ذاته ومع العالم الذي يعيش فيه، بحيث تصبح ذاته هي كل إمكاناته، كما يصبح العالم وطنه. وهذه الفكرة نفسها هي التي جعلت فلسفته التاريخية في تلك الفترة ذات طابع ديني؛ إذ أنه وضع الكل والغاية الممكنة على شكل متعال يتحرك التاريخ البشري نحوه متخطيا الهنا والآن - بلغة هيجل في ظاهريات الروح التي يكثر بلوخ من استخدامها - فكأن فكرة الخلاص كانت تمتد عنده منذ البداية إلى العالم المادي والمادة غير العضوية، كما تمتد إلى تحرير الإنسان من كل أنواع القهر والحتمية المادية الطبيعية وغير الطبيعية، بحيث يتحقق الخلاص في «الجماعة الشيوعية الحرة» التي ظلت هي هدفه من البداية إلى النهاية، أي منذ أن كان ثوريا عاطفيا في شبابه إلى أن أصبح اشتراكيا علميا إلى حد كبير في رجولته، وإن كان يتهم بأنه ظل اشتراكيا إنسانيا حالما ولم يصل أبدا إلى الاشتراكية بالمعنى العلمي.
وتسري في هذا الكتاب الذي وضعه بلوخ أثناء الحرب العالمية الأولى روح دينية وصوفية تمتزج فيها نزعته الاشتراكية مع التبشير بالخلاص في لحن جياش عالي الصوت، وتهيب بالإنسان أن يجد نفسه، كما تدعو الأنا إلى الاتحاد الصوفي بالوجود الكلي. وقد استخلص بلوخ من النزعة الاشتراكية والتصور الديني ومن التراث الصوفي تصوفا جديدا يمكن وصفه بأنه تصوف دنيوي أو علماني، يدعو إلى الخلاص الأخير، ويبحث عن نهاية التاريخ، ويصرخ بأن العالم لم يكتمل بعد. وتعود أهمية هذا الكتاب إلى أنه حارب اتجاهين في الفكر الفلسفي والسياسي المعاصر، أحدهما هو جمود الفلسفة الأكاديمية واقتصارها على تدريس كانط، والآخر هو الاشتراكية الديمقراطية للطبقة الوسطى أو البرجوازية الألمانية الصغيرة التي اعتبرت أن الإنسان مجرد ملحق أو هامش للأساس الاقتصادي الذي يتحرك بقوته الذاتية. وقد امتدت جذور الاتجاهين في شباب بلوخ المبكر،
14
كما عكس الكتاب اهتمامه المبكر بالتفكير المستقبلي، وانطوى على بذور ميتافيزيقا جديدة. والواقع أن الكتاب متأثر بروح الحركة التعبيرية في أسلوبه ومضمونه وعاطفته ورؤيته العامة، غير أن هذه النغمة التعبيرية العالية تراجعت بالتدريج لتحل محلها لغة فلسفية أكثر دقة وتجريدا في كتاباته التالية، وإن لم يستطع بلوخ أن يتخلص نهائيا من تأثير الحركة التعبيرية التي ظل متمسكا بها، بل ومدافعا عنها حتى النهاية. وإذا كانت الذات الفردية هي التي طغت على «روح اليوتوبيا» فإن الذات الجماعية هي التي ستحل محلها وتؤكد نفسها بعد هذا الكتاب.
وفي عام 1921م صدر كتاب «توماس مونتسر، لاهوتي الثورة» وهو عن زعيم الحركة الشعبية المتمردة في ألمانيا، الذي أعدم عام 1525م بوصفه قائد الفلاحين الثائرين ضد الأمراء في منطقة التورنج. وتغلب على الكتاب فكرة الخلاص التي سيطرت على بلوخ طوال حياته، لقد صور شخصية مونتسر في هذا الكتاب وكأنه نبي من أنبياء العهد القديم. والحقيقة أن تصويره لمونتسر يمكن النظر إليه على أنه تصوير لشخصه هو نفسه، فقد استعمل بحرية لغة الكتاب المقدس، ونطق على لسانه بأسرار التراث الصوفي، وجعله ينادي بالخلاص وإن لم يكن هو الخلاص بالمعنى الديني المتعالي ولا المفارق لهذا العالم، وإنما هو «نبي الخلاص الأرضي» وهدفه هو الحرية وتحرير الإنسان.
ويعد هذا الكتاب قراءة ماركسية جديدة للتاريخ؛ إذ قدم فيه بلوخ تفسيرا جديدا لمونتسر وثورة الفلاحين الألمان في عهد الإصلاح الديني. ولا ترجع أهمية هذا التفسير فقط إلى وقوفه في وجه النقد اللوثري والكاثوليكي لمونتسر، بل إلى أنه يعد دفاعا - له دلالة خاصة من ماركسي جديد - عن الأبعاد الدينية للتغير الاجتماعي، وعن الدور الأساسي الذي يؤديه الخيال الديني في الرؤية الثورية لمونتسر. لم يبد بلوخ اهتماما بسرد الحقائق التاريخية ولم يقدم تفاصيل لأحداث تاريخية، بل استخدام دراسته لمونتسر كنموذج مثالي لثورية الوعي الطبقي وامتزاج العامل الاقتصادي بالخيال الديني والواقع السياسي والأحلام وكيف يتفاعل كل منها مع الآخر. وقد أثارت معالجة بلوخ لأهمية بصيرة مونتسر الدينية في الإصلاح؛ أثارت مشكلة استخدام التاريخ واللاهوت لأهداف سياسية، كما جذبت الانتباه إلى أهمية دور الدين في حركات التغير الاجتماعي.
15
يضاف إلى ما سبق أن هذه المعالجة تكشف عن محاولة بلوخ إيجاد جذور تاريخية لأفكاره الاشتراكية واليوتوبية، كما ترسم صورة لرؤيته للتاريخ باعتباره محددا من جهة المستقبل كما هو محدد من جهة الماضي. وليس توماس مونتسر مجرد شكل بطولي أو نموذج من الماضي، ولكنه يمثل نضال البشرية من أجل التحرير وخلق سماء جديدة وأرض جديدة وفي سبيل مستقبل مفتوح لم ينته أبدا. وقد استهل بلوخ كتابه بهذه العبارة ذات المغزى، «لا نريد أن ننظر إلى الوراء. ولكننا لا نملك إلا أن ننخرط فيه ... الموتى ينهضون مرة أخرى، وتعود أعمالهم لتحيا وسطنا.» ثم يضيف بلوخ: «إن مونتسر قبل كل شيء هو التاريخ بمعناه المثمر، فهو وعصره وكل ما يستحق الكتابة عنه إنما وجد لكي يتحدانا ويشعرنا بالحماس.»
16
هذا بإيجاز هو الإطار العام لمنهج بلوخ التاريخي، وهو يعبر عن رفضه التفرقة بين «مملكة الروح» و«مملكة السياسة» وهو ما كان سائدا بين اللاهوتيين والمؤرخين. فقد صاغ مونتسر وعيه الثوري من الكتاب المقدس، واستخدم في رسالته الشهيرة للأمراء صور الرؤية في العهد القديم من أجل إثارة قضيته: «كنت تنظر إلى أن قطع حجر بغير يدين فضرب التمثال على قدميه اللتين من حديد وخزف فسحقها، أما الحجر الذي ضرب التمثال فصار جبلا كبيرا وملأ الأرض كلها.» «ويقيم إله السموات مملكة لن تنقرض أبدا.»
Bog aan la aqoon
17
فكما ينهار البناء بتدحرج الحجارة في سفر دانيال وتنشأ مملكة جديدة، أعلن مونتسر انهيار مملكة الأمراء ومجيء نظام جديد جوهره هو الطبقات الدنيا وليس لوثر أو الأمراء. وعلى الرغم من نمو الوعي السياسي لمونتسر الذي جعل الفقراء والمطحونين يلتفون حوله، فقد كان اللاهوت هو الخلفية الأساسية لهذا الوعي. لقد نمت رؤيته الدينية وسياسته الثورية وعزز كل منهما الآخر فازداد الغضب وتفجرت الثورة في كل من القائد والجماهير، وذهبوا جميعا يدا في يد مسلحين برؤية دينية وكونية وتحولت المعركة إلى ما يطلق عليه حرب الفلاحين، وهي الحرب التي بدأت بدفاع درامي عن قضية الفلاح وانتهت بسحق الأمراء للفلاحين وإعدام مونتسر.
18
وفي عام 1930م نشر بلوخ كتابه «آثار» وهو من قبيل السيرة الذاتية، ويعد عملا أدبيا هاما يتألف من مقطوعات من الشعر المنثور اقتبس بلوخ عبارات عديدة منها، استهل بها افتتاحيات أقسام كتابه «مبدأ الأمل». وفي عام 1935م ظهر في سويسرا كتابه «ميراث هذا الزمان» وهو تحليلات نقدية للوعي الزائف الذي اتسمت به البرجوازية الألمانية في فترة العشرينيات، وتتبع لنشأة النظام الفاشي الذي كمنت بذوره في الواقع المعيش بجانب نقد مبكر لدعايات الحزب الشيوعي الألماني وللدعاية الفاشية، واستطاع فيه بلوخ - بحسه التاريخي المرهف ووعيه الحاد بالحاضر - أن يلمس إرهاصات العهد الآتي ويستشف سماته المستقبلية، أي أنه استطاع - بنظرة نقدية وعينية للحاضر - أن يكتشف الإمكانيات التي يحملها المستقبل في جوفه، وكيف مهدت حقبة العشرينيات لظهور الفاشية التي استولت على السلطة في أوائل الثلاثينيات، وكان من الطبيعي أن يصادر هذا الكتاب من قبل السلطة الحاكمة.
وفي عام 1946م صدر كتاب «الحرية والنظام» وهو استعراض لليوتوبيات الاجتماعية منذ بداية التفكير البشري سواء أكانت في الماضي الذهبي أم في المستقبل المرجو، وقد تناول بلوخ هذه اليوتوبيات تناولا خاصا؛ إذ تتبع فيها بذور الأمل في الفكر البشري، وضم هذا الكتاب فيما بعد إلى القسم الرابع من «مبدأ الأمل». وفي عام 1951م صدر كتابه «الذات-الموضوع شروح على هيجل» وقد ركز بلوخ في هذا الكتاب على بيان الأسس النظرية لفلسفته في التاريخ وتأكيد مدى الاختلاف بين نسقه المفتوح المندفع نحو المستقبل، وبين نسق هيجل المتكامل تكامل الدائرة المغلقة على نفسها، كما بين الطرق التي يستطيع جدل هيجل من خلالها أن ينطلق ويتسع ويخرج من نطاق الدائرة. وفي عام 1952م صدر كتابه «ابن سينا واليسار الأرسطي» بمناسبة الذكرى الألفية لابن سينا. وقد قدم فيه تصورا جديدا للمادة بعد أن تتبعها منذ أرسطو وابن سينا، وابن رشد، وابن جبيرول حتى ممثلي «اليسار الأرسطي» في أواخر العصور الوسطى، ومن جوردانو برونو في عصر النهضة حتى اسبينوزا في القرن السابع عشر، إلى أن اكتملت في المادية الجدلية التاريخية عند ماركس وإنجلز.
وفي عامي 1954 و1955م على التوالي صدر الجزء الأول والثاني من كتابه الأساسي «مبدأ الأمل»، ثم صدر في عام 1959م الجزء الثالث من هذه الموسوعة الثقافية الكبرى التي لا يعادلها في الفكر الألماني سوى «ظاهريات الروح» لهيجل، ولا يناظرها في الأدب الألماني سوى «فاوست» جوته. وهذا العمل الضخم المكون من ثلاثة أجزاء - والذي استغرقت كتابته أحد عشر عاما - يحتوي على النسق الفلسفي الكامل لفكر بلوخ اليوتوبي ويقدم موسوعة للأمل البشري، حتى ليمكن القول بأن كل ما صدر قبل هذا الكتاب كان بمثابة إعداد وتمهيد له، وكل ما صدر بعده تنويعات أو شروح على كل تلك الأفكار الأساسية التي تضمنها، وهو صرح فلسفي كبير سيطر فيه بلوخ على مادة موسوعية هائلة ونظمها وأدارها حول فكرته الرئيسية، ألا وهي فكرة الأمل. والواقع أن البناء «السيمفوني» للكتاب يكشف عن فرط عشقه للموسيقى وولعه بها، فجاء «مبدأ الأمل» أشبه بسيمفونية كبيرة تتصاعد نغماتها تدريجيا في لحن متدفق جياش. كما يتضمن اكتشافات مشرفة لخيال البشر وآمالهم وفنونهم وثقافتهم التي يؤمن بلوخ بأنها مفاتيح لإمكانات بشرية من أجل بناء عالم أفضل، وأن هذا الميراث الثقافي يتوجه نحو مجتمع اشتراكي باعتبار أن هذا الأخير يحقق أحلام البشر وآمالهم.
لم يكن من قبيل المصادفة أن يبدأ بلوخ نسقه الفلسفي بعد بلوغه سن الخمسين، فعلى الرغم من أن القارئ ل «مبدأ الأمل» يكاد يضيع في زحمة التفصيلات اللامتناهية التي استقاها المؤلف من التاريخ العقلي للبشرية، وعلى الرغم أيضا من صعوبة أسلوبه التي اعترف بها المؤلف نفسه في مقدمته للكتاب: «إن قراءته ليست سهلة، بل تزداد صعوبة كلما توغلت فيه.»
19
إلا أن القارئ يستطيع أن ينظر إلى هذا التاريخ كله من منظور الخلاص الممكن «ومبدأ الأمل» الذي تصور بلوخ أنه المحرك للوجود والإنسان، وأن الاغتراب الذي تستشعره الأنا ليس وضعا نهائيا في واقع يبدو مغلقا، وإنما يفتح الأمل الكامن في «الهنا والآن» على مستقبل الإنسان والعالم. ولذلك ليس غريبا أن يستهل بلوخ كتابه بهذه التساؤلات: من نحن؟ من أين أتينا؟ إلى أين نحن ذاهبون؟ ماذا ننتظر؟ وماذا ينتظرنا؟
20
Bog aan la aqoon
وللإجابة عن هذه التساؤلات قدم بلوخ مشروعا حضاريا نقديا مفعما بالأمل، مهاجما كل الأنظمة الفكرية الساكنة، ومنطلقا من نقد الواقع العيني المعيش، مقتفيا آثار الممكن الكامن فيه لتحقيق إنسانية حرة في ظل «مملكة الحرية».
ويعد «مبدأ الأمل» - في حد ذاته - من الأعمال الأدبية لفرط ازدحامه بالصور المجازية والرمزية والشعرية والتعبيرات ذات الدلالة اللونية، كاستخدام بلوخ المفرط لكلمات مثل الصباح، والأزرق البعيد، وساعة الزرقة ... إلى آخر الكلمات التي تعكس الضوء والإشراق بحيث يمكن تسميته «فيلسوف النور». وقد امتزج هذا الأسلوب الأدبي بلغة صوفية غامضة وتعبيرات لاتينية ويونانية قديمة، وأقوال شعبية ومأثورات جعلت صاحبه يستحق التسمية التي أطلقت عليه بأنه ساحر المفاهيم والتصورات والكلمات. وامتزج كل هذا بلغة ماركسية مادية جدلية لتصور حالات الوعي الفردي والجماعي وحالات الأمل والتحقق. وفي «مبدأ الأمل» اختار بلوخ أن يبحث في التراث السري والصوفي مما يعكس تفضيله للمفكرين والفلاسفة الذين ينظرون للعالم نظرة صوفية غامضة أو من وراء حجاب، كما اختار أن يبحث في القبالة أكثر من التوراة، وفي السيمياء السحرية أكثر من الكيمياء بالمعنى العلمي الحديث، وأن يهتم بنظم الفكر المتقدمة والمنفتحة على المستقبل أكثر من النظم المطلقة. وربما لكل هذه الأسباب استقبل الكاتب بالشك في الدوائر الماركسية الرسمية. كما أن كل هذه الأسباب أيضا جعلت نغمات بلوخ في «مبدأ الأمل» في تصاعد مستمر، بحيث يختتم كل قسم بشكل فيه علو ونزعة تفاؤلية، ولذلك يعد الكتاب من أكثر المشروعات الفلسفية طموحا، وفي الوقت نفسه من أكثر الكتب الفلسفية افتقارا إلى الاتساق أو النسق الواضح؛ فقد عرض في ثلاثة أجزاء كبيرة لكل ما يتعلق بالحياة الإنسانية لينتهي إلى أن للأمل جذورا في الوعي البشري وفي صيرورة العالم.
وفي عام 1961م صدر كتابه الهام «القانون الطبيعي والكرامة الإنسانية» ويعد ثمرة جهود بلوخ لفهم إخفاقات التراث الماركسي، وقد وضعه بعد تجربته المريرة مع النظام الشيوعي في ألمانيا الشرقية التي خرج منها مصطحبا معه الكتاب وهو لا يزال مخطوطا ونشر في ألمانيا الغربية وكان مؤلفه قد بلغ السادسة والسبعين من العمر. ويعد الكتاب قراءة جديدة لتراث القانون أو الحق الطبيعي، ويعرض فيه لإمكان إعادة صياغة هذا التراث الذي حاول قراءته قراءة جدلية ليكشف عما هو اشتراكي فيه. ذلك أن هذا الفيلسوف ذا الحس التاريخي الأصيل قد قاوم فكرة اعتبار الماضي شيئا منتهيا، فأخذ في استعادته أو استرجاعه كأنه كيان حي، وراح ينقب فيه عن وعود الماضي غير المعلنة، وكأن وعود الماضي لها عيون تنظر للأمام. لقد فتش عن الأمل الكامن في لحظات الماضي، هذا الأمل الذي لم تتح له الظروف الموضوعية ليشهد النور، وكان دافعه للبحث في التراث هو أن يظهر للنور ما قد خفي وكمن داخله حتى يومنا الحاضر. كما يمثل القانون الطبيعي مجالا آخر للمضامين التي لم يتوصل إليها، فهو يرسم إطار العلاقات الاجتماعية التي يمكن أن تتحقق فيها الحرية البشرية.
وقد كانت مهمة بلوخ في هذا الكتاب هي بيان أهمية الحقوق الإنسانية بالنسبة للمجتمعات الاشتراكية. وليس الكتاب مجرد تأريخ لنظريات القانون الطبيعي، ولكنه إعادة تفكير في المبادئ الأساسية للفلسفة السياسية، وإظهار ما خفي من هذا التراث والبحث فيه عن الوعود المستقبلية غير المعلنة، وإبراز السمة اليوتوبية لنظريات القانون الطبيعي التي كانت هي السلف الحقيقي لليوتوبيات الاجتماعية ذات النزعة الاشتراكية العلمية.
21
فالأحلام المتعلقة بحياة اجتماعية أفضل في كل منها تتداخل في بعضها البعض. والواقع أن قضية الحقوق الإنسانية - التي غابت عن جدول أعمال النظم الاشتراكية - كانت هي الدافع الأساسي وراء بحث بلوخ عن مقاصد
22
الأسلاف، ولذلك استهل كتابه بسؤالين هامين: «ما هو العدل؟ وما هو الحق؟»
23
سؤالان طرحهما شخص عرف وشهد على الأشكال الجديدة للظلم القديم، وكانت الإجابة عليهما. من خلال إعادة صياغة نظريات القانون الطبيعي في التراث الغربي بأكمله لينتهي إلى أسباب إخفاق النظم الاشتراكية التي تغافلت عن ضرورة ارتباط الثورة بالحق، وأهم هذه الأسباب في تقديره هو إهمال الجانب الإنساني، وغض الطرف عن الحقوق الإنسانية للفرد، وبالتالي ضياع الكرامة الإنسانية.
Bog aan la aqoon
ويؤكد بلوخ في هذا الكتاب أن السعادة البشرية والكرامة الإنسانية اللتين تتعلقان باليوتوبيات الاجتماعية من جانب، وبنظريات القانون الطبيعي من جانب آخر، قد سارا لفترة طويلة من الزمن في طريقين مفترقين، وأنه آن الأوان ليرتبط كل منهما بالآخر، فكلاهما يتوقع شيئا ما أفضل من ذلك الذي تم، وكلاهما ينطلق من الأمل. ومهمة النزعة الاشتراكية أن ترث بعضا من تراث القانون الطبيعي بعد تطهيره من السمات البرجوازية، كما أن في الماركسية قانونا طبيعيا غامضا تتضمنه عبارة ماركس «علينا أن نتجاوز الظروف التي تجعل الإنسان محتقرا ومستعبدا.» إن التزاوج بين الحق الطبيعي والماركسية ضروري من أجل مجتمع غير مغترب ومتكافل اجتماعيا، ولكي يتحقق هذا لا بد أن تقدم العوامل الإنسانية على العوامل الاقتصادية لإيجاد مجتمع يستطيع الإنسان أن يسير فيه وهو «منتصب القامة».
توالت أعمال بلوخ بعد «القانون الطبيعي والكرامة الإنسانية» فكان «مدخل توبنجن إلى الفلسفة» عام 1964م و«الإلحاد في المسيحية» عام 1968م وفيه تمتد نظرة بلوخ النقدية من الواقع الاجتماعي والسياسي إلى المعتقدات الدينية الراسخة في الأذهان كمسلمات بديهية، وهو يتناول بالنقد ما هو مألوف ومعتاد لينتهي إلى تفكيك الفكر الديني وبنيته النظرية، مع تبني المقولة الأساسية للفكر الماركسي في نقد الدين وتطويرها. وفي عام 1972م صدر كتاب «محاضرات في عصر النهضة».
24
وجاء هذا الكتاب بمثابة إعلان للماركسية الرسمية بأن الإنسان هو الهدف والغاية المنشودة، وأن التضحية بالإنسان من أجل «أيديولوجيا» أو فكرة معينة أمر لا يغتفر؛ لذلك ربط بلوخ - بوعيه التاريخي الناضج - الفكر بأسسه الإنسانية وانتزعه من الحاضر وضآلته، إيمانا منه بأن الواقع الحاضر ليس سوى لحظة يحدد مسارها من خلال تيار الزمن الماضي بتراثه الثقافي من ناحية، والمستقبل بإمكاناته المفتوحة من ناحية أخرى. لذلك قام برحلة في التراث الثقافي الأوروبي في الماضي القريب - أي في القرن الخامس عشر والسادس عشر - لاستجلاء الحاضر واكتشاف إمكاناته. ويوضح فهمه للنهضة الأوروبية أن التطور الكمي والنوعي لهذا التراث الثقافي قد امتزج بالذات المكونة والفعالة في هذه النهضة، أي بالإنسان الذي كان هدف بلوخ على الدوام. فالنهضة ليست ولادة جديدة لما هو قديم، وإنما هي ولادة لإنسان جديد ومجتمع يحمل قيما جديدة كل الجدة. وهو في دراسته للنهضة الأوروبية يرى أن المجتمع الذي تمخض عنها كان جديدا بالمقارنة مع المجتمع البرجوازي الذي سبقه، وأن الإنسان الفرد وإبداعاته الخلاقة هما الأساس في انبثاق النهضة في مجالات عدة تشكل في مجموعها الكل الحضاري. ففي الفلسفة كان هناك جوردانو برونو وكامبانيلا وبوهمه وبيكون. وفي العلوم والمعرفة العلمية نجد جاليلو ونيوتن. وفي فلسفة التاريخ والدولة والقانون يبرز بودان وجروسيوس وهوبز وفيكو. والخلاصة أن الحضارات والنهضات الموجهة من أجل الإنسان لا يخلقها سوى الإنسان ذاته.
25
وفي النهاية كان كتاب «تجربة العالم» هو آخر أعمال بلوخ وأصدره عام 1975م قبل وفاته بسنتين. هذا بالإضافة إلى العديد من المحاضرات العامة والمقالات السياسية والأدبية التي ظهرت على صفحات الجرائد والمجلات الدورية، وهي حصيلة معاركه الفكرية مع العديد من فلاسفة عصره ونقاده وأدبائه. وما سبق ذكره ليس جل مؤلفات بلوخ بل أهمها، وقد صدرت الطبعة الكاملة لمؤلفاته في ستة عشر مجلدا، وأشرف بنفسه على مراجعتها قبل إصابته بالعمى في سنواته الأخيرة، وقبل رحيله في 4 أغسطس عام 1977م بمدينة توبنجن، ثم أضيف المجلد السابع عشر بعد وفاته.
ثانيا: المؤثرات الفكرية على فلسفة بلوخ
توقدت شعلة المخيلة الحية التي تميز بها بلوخ مع احتكاكها بالواقع البائس الحزين الذي عاشته المدينة الصناعية الكئيبة «لودفيجز هافن» التي فتح عينيه عليها، فانطلقت شرارة الحلم والثورة، وتوهجت بروق الوعد والأمل. وكيف لا يثير هذا الواقع الظالم خيال الحالم، بل أكبر الحالمين وأهمهم في القرن العشرين؟ وكيف لا يفكر في ضرورة «رفع» هذا الظلم أو تجاوزه نحو «مستقبل واقعي» أو عيني «تحتمه الرغبة» أو الشوق والأمل المتجذر في الإنسان وفي المادة؟ ثم ماذا يفعل ليجعل من حلمه فلسفة وعلما وثورة في آن واحد؟ هذا الذي نذرته الأقدار ليقتفي آثار الحلم الأكبر الذي يتخلق منذ القدم في وعي البشرية وتراثها، وفي باطن الوجود المادي وأعماقه؟
لقد كان من الضروري أن يختمر الحلم بشواهده وتجلياته اللانهائية في الوعي البشري منذ أن وجد البشر، وأن يتحد بقلب المادة وبذورها وإمكاناتها التي ما زالت تتفتح منذ أن كان العالم ووجد الوجود. أجل كان لا بد من ذلك حتى لا يبقى حلمه حلما ذاتيا أشبه بنسيج عنكبوت لا يلبث أن يتحلل أو يتبدد مع أول صدمة أو هبة ريح. إن الفتى الحالم الذي يصوب بصره لأفق الحلم الممكن البعيد قد أدرك في هذه الفترة المبكرة من حياته أن الواقع لا يفتقر إلى الحلم وإنما يطويه في أحشائه، وأن ألوانه القديمة والحديثة تتخايل أمام عينيه في قصور القياصرة والنبلاء والأشراف في مدينة «شباير» ومدينة «مانهايم» القريبة، وفي مزارع الكروم الواسعة في المنطقة، وكأن كل شيء يدعوه ألا يستسلم للواقع البرجوازي والرأسمالي السائد حوله.
وتتجمع ذرات الحلم الكبير في رحاب نفسه، وتختمر وتنمو وتتشكل فتتكون نواة تفكيره الأساسية وتستمد غذاءها المتجدد مع مرور الزمن من تجاربه وقراءاته حتى تصبح نسقا فلسفيا متكاملا يكاد يحجب معالمه عن النظرة السطحية ثراء المعرفة الموسوعية بالتراث الإنساني بكل ألوانه وظلاله ولوحاته الثرية التي راح يتتبع فيها مسرى الحلم بواقع غد أجمل وأعدل وأكمل من واقع اليوم (الحاضر) السائد، هذا الواقع الذي ظل يكافح - على مستوى الشعور - حتى يصبح وعيا، وأخذ يندفع وينمو ويتفتح - على مستوى الوجود المادي - لكي يتحول من واقع كامن «لم يتحقق بعد» إلى واقع فعال متحقق. ويمتلئ وجدانه - منذ الثانية والعشرين من عمره - بعزم الرائد الذي يقف على مفترق الطرق، يحفزه الأمل المتوثب لاكتشاف «الأرض التي لم تطأها قدم إنسان»، بل الأرض التي لم توجد أبدا من قبل، وهي الآن بحاجة للإنسان الذي يتحد في كيانه المكتشف، والبوصلة والعمق في وقت واحد.
Bog aan la aqoon
26
ويساعد الجو الليبرالي
27
المستنير من حوله على مواصلة الحلم والتفكير والعمل والشعور بإحساس المواطن الحر المنتمي لتراثه القومي من ناحية، والمتمسك من ناحية أخرى بتراثه اليهودي الغني بحكمته وأساطيره وحكاياته وكتاباته الصوفية السرية ونزعات الخلاص وأشواق مملكة الميعاد الكامنة فيه. وتتبلور كنوز التراثين في أسلوب مزدحم بالصور والاستعارات والتشبيهات والأمثال والحكم الموجزة التي تكاد تغرق خيوط الفلسفة المتسقة والتفكير المنهجي الدقيق. وينطلق الملاح العنيد الحالم في هذا البحر بحثا عن تلك الأرض التي لم توجد من قبل ولم تطأها قدم إنسان، تهديه منارة «ذاتيته» المتوهجة بأشعة الأمل الذي لم تلح سفينته في الأفق فتكشف له أبعاد الواقع الموضوعي المنتظر في غد لن يتأخر إذا استطاع البشر بعلمهم وعملهم وجهدهم أن يصلوا «الكائن» بما «سوف يكون». (1) مؤثرات فلسفية
يواصل الحالم الشاب رحلة كفاحه مع التراث البشري فتصبح نواة فكرته عن الأمل موسوعة ضخمة. وعلى الرغم من أن جذور فلسفته ضاربة في التراث الألماني بوجه خاص، إلا أن تكوينه العقلي قد تشكل من تيارات عديدة تكاد أن تشمل الحضارة البشرية بأكملها: من الفلسفة الكلاسيكية القديمة والتراث الصوفي إلى الفلسفات الشرقية والغربية. وهكذا ارتبط الوجود الحاضر بالماضي الذي انقضى والمستقبل الذي لم يأت بعد. وتحققت دلالة العبارة الشهيرة التي قالها ليبنتز (فيلسوف الممكن الذي يتحقق في الواقع بحكم الضرورة المنطقية والعناية الإلهية): «إن الحالة الحاضرة لأي جوهر بسيط هي بطبيعتها نتيجة مترتبة على حالته السابقة، بحيث إن الحاضر يحمل المستقبل في أحشائه.»
28
بيد أن ليبنتز، الذي قامت فلسفته على استيعاب المستقبل في الحاضر، لم يستطيع أن يستخلص منها «أنطولوجيا» كاملة أو نظرية واضحة عن الوجود كما فعل بلوخ في كتابه الأكبر «مبدأ الأمل». ولم يكن من المستطاع تصور ذلك قبل منطق هيجل الذي ربط في المقولة الأولى منه بين الوجود والعدم والصيرورة ربطا محكما، ولا كان من الممكن أيضا أن يتحول التفكير في الغد وما بعد الغد حتى نهاية الزمن إلى تجربة حقيقية بغير الدفعة الثورية التي أطلقتها عاصفة التغيير الاجتماعي على يد ماركس.
لا جدال في أن أي فيلسوف يستحق هذا الاسم يتأثر بفلاسفة قبله ويؤثر على آخرين بعده. ولا يمكن مثلا أن نتصور ماركس وفلسفته المادية التاريخية وتحليلاته لرأس المال بغير نظريات الاقتصاد السياسي الكلاسيكية ومنطق هيجل الجدلي، ولا بغير الفلسفات المادية السابقة ابتداء من ديمقريطس الذي أعد عنه رسالته في الدكتوراه. والأمر كذلك بالنسبة لبلوخ، فلا شك أن تنوع ثقافته وثراءها قد امتد من التراث الفلسفي قديمه وحديثه. فقد التقى في مكتبة مدينة مانهايم المقابلة لمسقط رأسه لود فيجز هافن - والتي كان يتردد عليها دائما - بأهم الكنوز الفلسفية التي أثرت على حياته فيما بعد. هناك استطاع أن يقرأ لعدد من الفلاسفة من ليبنتز إلى هيجل وتلاميذه، كما استطاع أن يقرأ لفشته وشيلنج في سن مبكرة. ربما يكون قد أساء فهم الكثير من نصوصهم، ولكنه أساء فهمها على طريقته الخاصة، وربما كانت كلمة سوء الفهم علامة دالة على طريقة فهمه لتاريخ الفلسفة، فهو لم يفهم العدد الكبير من الفلاسفة من أرسطو إلى ماركس بطريقة تقليدية؛ إذ كان يتوقف عند الأفكار التي تصب في تيار عصره أو تتوجه إلى المستقبل، وكان يهتم بالكثير من الخيوط الفكرية التي لم يلتفت إليها المفسرون التقليديون. لقد نظر إلى التاريخ الفلسفي كله من جهة التطلع إلى المستقبل، ورأى فيه الوجه الآخر لتاريخ الفلسفة، أي فلسفة المستقبل التي لم ينتبه إليها المؤرخون. ومن الصعب تتبع كل الفلاسفة الذين أثروا على فلسفة بلوخ، كما أن من الصعب الدخول في المقارنات عن تأثير بعض الفلاسفة عليه لأن هذه مسألة خلافية، خاصة إذا لم يكن التأثير قويا وواضحا، وإذا لم يكن قد دخل في جدال فكري وحوار مع الفلاسفة الذين تأثر بهم، ولذلك سنكتفي بذكر بعض الفلاسفة الذين ظهر تأثيرهم عليه بشكل مباشر، أو الذين دخل معهم في حوار صريح مثل أرسطو وهيجل وماركس. وسوف يتعرض البحث لفلاسفة آخرين من خلال عرض نسق بلوخ الفكري، وفي المواضع التي يتضح فيها تأثيرهم عليه، مثل ليبنتز وتأثير فكرته عن الوعي المسبق عليه. (أ) أرسطو (384-322ق.م.)
بهذا المعنى السابق فهم بلوخ أرسطو فهما غير تقليدي، اعتمد فيه على تفسير المعلم الأول للمادة أو بالأحرى على تفسير بلوخ الخاص لهذا التفسير. والواقع أن جذور فلسفته المادية تكمن في مفهوم أرسطو عن المادة بوصفها إمكانية وجود، كما ترتبط بفكرته المعروفة عن الموجود بالقوة والموجود بالفعل. أخذ بلوخ هذا المفهوم وأكد الطابع الحيوي الذي يميزه ثم طوره إلى مقولة الإمكان التي تعتبر أهم المقولات الأساسية في نسقه الفلسفي. وقد أفاض في شرح مفهوم أرسطو عن القوة والفعل وتابع تطور هذه الفكرة من بعض فلاسفة العصر الوسيط وعصر النهضة حتى العصر الحديث. ويكفي في هذا الموضوع أن نلخص المفهوم الجدلي للمادة عند بلوخ بالقول بأن الماهية الأساسية لكل موجود أنه في حركة دائمة. ولكن أرسطو - كما هو معروف - هو مؤسس المنطق الصوري ونظرية المقولات، وقد يبدو هذا لأول وهلة أمرا متناقضا مع ما سبق قوله عن تأثر بلوخ بمفهوم المادة عنده من حيث هي إمكان ذو طابع حيوي، فالمنطق يدرك الموجود في حالة سكونه أو إحدى أحواله. ومن ثم فإن أي قول ثابت عن موجود متحرك لا يمكن أن يكون صحيحا إلا إذا تغير هذا القول نفسه أيضا، ومن هنا يمكن فهم نظرة بلوخ إلى المقولات التي فهمها كذلك فهما جدليا وأنطولوجيا في آن واحد كما سيتضح بعد ذلك بالتفصيل في الفصل الخاص بأنطولوجيا ال «ليس-بعد». (ب) ياكوب بوهمه
Jakob Boehme (1575-1624م)
Bog aan la aqoon
كان لياكوب بوهمه تأثير كبير على بلوخ. فقد عبر جدل الأول عن فلسفة الثاني، وكشف هذا الجدل عن أن النور كامن في الظلام، وأن الظلام هو أصل النور وعلته، وقد قام جدل بوهمه على الصراع بين النور والظلام، صراع الضدين وخرج ثالث ينتصر عليهما هو ما ينتج الجديد دائما، كما هو الحال عند بوهمه وعند بلوخ نفسه اللذين يؤكدان وجود الخير الذي ينتصر حتما على الشر، والنور الذي سيهزم الظلام. وقد نظر بلوخ إلى جدل بوهمه بإعجاب شديد واعتبره أعمق جدل منذ هيراقليطس،
29
والفارق الأساسي بينهما يقوم على أن الأضداد تنتج على الدوام شيئا جديدا أفضل، على حين أن الأضداد عند هيراقليطس تظل قائمة بغير أن تنتج هذا الجديد، وقد كان بوهمه على اقتناع تام بأن الشر سينهزم في النهاية وأن الخير هو الذي سينتصر. إن الضدين المتقابلين سيظلان في حركة وصراع دائمين. ولكن الخاصية الخيرة في الطبيعة ستكون في النهاية هي الأقوى، وهي التي ستنتصر على الخاصية الشريرة. وهذه الفكرة هي نواة فلسفة بلوخ، فلولا الأمل في الجديد الذي سيولد من هذا الصراع الدائم ما أمكن تصور فلسفته بأكملها. (ج) شيلنج (1775-1854م)
كذلك كان لشيلنج تأثير كبير، وخصوصا من خلال فلسفته المتأخرة أو فلسفة الشيخوخة التي عبرت عنها محاضراته في برلين التي نشرت بعد وفاته تحت عنوان «فلسفة الأسطورة والوحي». وربما كانت أهم الأفكار التي استقاها بلوخ من هذه الفلسفة هي «أن للأساطير حقيقة ومغزى مذهبيا، وأن فيها حقيقة مضمرة، على الأقل منذ البداية ... فالأساطير تقول غير ما يبدو أنها تقوله، أي أنها رموز ومجازات وأمثال تخفي تحتها حكما وأقوالا.»
30
هذا المعنى المجازي هو ما حاول بلوخ الكشف عنه من خلال تفسيره لكل التاريخ البشري، أي أنه حاول أن يفض قشرة المجاز الرمزي ليكشف عن الجوهر الحقيقي للأشياء والإمكانات الكامنة داخله، ومن شيلنج استعار بلوخ فكرته الأساسية التي أكدها خلال فلسفته كلها وهي أن الماهية، أي الوجود الحقيقي غير المغترب، لا تتحقق إلا بالتفاعل المستمر بين الإنسان والعالم، «فالفكرة الأساسية التي تقوم عليها فلسفة الطبيعة عند شيلنج هي القول بوحدة الطبيعة والروح (أو العقل) ... وأن الطبيعة والروح ليستا جوهرين مختلفين، بل هما جوهر واحد: فالروح (أو العقل) تتطور وتحقق نفسها في الطبيعة، والطبيعة تحقق قوانين الروح أو العقل، ووحدة الطبيعة والعالم شاملة ... إن مبدأ وحدة الطبيعة يقتضي رفع التقابل بين المتقابلات الظاهرة في الطبيعة واستخلاص الطبيعة العضوية والطبيعة
31
اللاعضوية كلتيها من مبدأ واحد.» تعلم بلوخ من شيلنج إذن أنه لن يمكن التوصل إلى الوجود الحقيقي «غير المغترب» إلا عن طريق التفاعل بين الإنسان والعالم، وأخذ منه تفرقته الهامة بين الوجود الفعلي كما هو عليه
existence
وبين الماهية
Bog aan la aqoon
essence
التي ينبغي أن تتحقق من خلال عملية الصيرورة التاريخية، والواقع أن فلسفة بلوخ بأكملها لا يمكن تصورها بغير هذه التفرقة الهامة التي تناولها البحث بالتفصيل في الفصل الخاص بالوعي الذي لم يتم بعد. (د) هيجل (1770-1831م)
لم يكتف بلوخ من منابع المثالية الألمانية بشيلنج فقط، بل وقف طويلا عند هيجل، فهذا الأخير قد وصف تاريخ البشرية بأنه طريق «التخارج» والاغتراب أو الاستلاب، وطور فكرته عن «الروح» أو «العقل المطلق» ليكون أشبه بالمقر المتعالي الذي تتم في إطاره ظواهر الأحداث الواقعية وترفع فيه في النهاية لكي يتسنى وضع المضامين التجريبية داخل نسق فلسفي ومنهجي محكم، ودمج الأحداث التاريخية العارضة في سياق التأمل العقلي الصارم أو في دائرة الحقيقة الكلية الشاملة. وقد كان على الأجيال التي جاءت بعد هيجل أن تقرأ فلسفته التأملية قراءة تجريبية وتترجمها إلى لغة الواقع الاجتماعي. وجاء بلوخ على طريقته الخاصة في فهم وتفسير تاريخ الفلسفة، ليكشف التفكير المستقبلي عند هيجل الذي وصفه بأنه المعلم الجليل لمرحلة شبابه، وكتب عنه في كتابه الذي وضعه عن هيجل ودخل معه في حوار عن «الذات-الموضوع: شروح على هيجل»: «لا نكاد نجد في الفلسفات الماضية فلسفة غنية بالمشكلات مثل فلسفة هيجل التي لا تزال تواجهنا كأنها قادمة من المستقبل.»
32
وقد ظل بلوخ طوال حياته يؤكد أن الفلسفة الهيجيلية لم تعرف بعد على حقيقتها، وأن الدوجماطيقيين الماركسيين قد تصورا أنه لم يعد بحاجة إلى دراسة. لهذا نجده يهتف في الاحتفال بمرور قرن وربع قرن على وفاة هيجل في أكاديمية العلوم في برلين (الشرقية سابقا) «أنه قد آن الأوان لنتحاور مع هيجل وأن نوقف الطاحونة.»
33
إن تأثير هيجل على بلوخ لم يقف عند عنوان أحد كتبه التي خصصها لدراسة هيجل تحت هذا العنوان الدال «الذات-الموضوع» فهو يرى في هذا الكتاب أن هيجل لم يفصل الذات عن الموضوع في نظريته عن المعرفة: «إن نظرية التوسط الجدلي لم تسمح بأن تبتعد الذات عن الموضوع، ولا الموضوع عن الذات، أي لم تسمح بابتعاد الموضوع عن الوعي ولا الوعي عن الموضوع، إن مثل هذا التعارض في رأي هيجل يسد الطريق إلى الفلسفة؛ لذلك فإن عليها منذ البداية أن تتحرر منه.»
34
وقد حل هيجل هذه الثنائية بين الذات والموضوع ووحد بينهما وحدة ميتافيزيقية، وإن كان قد لف العنصر المشترك بينهما «وهو الذي سماه «الروح المطلق» (...) في ضباب الغموض والتصوف.»
35
Bog aan la aqoon
وقد اكتشف بلوخ منذ شبابه ثلاثة موضوعات أساسية تجمعت في ظاهريات هيجل وكونت فيما بعد محور فلسفة بلوخ نفسه: (1) الذات، أو الأنا الثورية التي ظهرت في التاريخ العملي والسياسي لأول مرة مع الثورة الفرنسية. (2) الموضوع أو إنتاج مضمون المعرفة تحت تأثير المعرفة العلمية في العلوم الطبيعية، أو بمعنى آخر إنتاج العقل لمضمون المعرفة متأثرا بطبيعة المعرفة العلمية. (3) التاريخ، أي أخذ التاريخ مأخذا جادا مع التأثر بالنزعة التاريخية
36
كما تمثلت عند أصحاب المدرسة التاريخية الذين أحالوا كل شيء إلى تاريخه. وقد رأي بلوخ أن هذه العناصر الثلاثة متمثلة بصورة متوازنة في ظاهريات هيجل، وأنها تستحوذ على اهتمام المفكرين خصوصا في فترات التحول التاريخي وهنا ينشأ هذا السؤال: كيف تفاعل الذات والموضوع في التاريخ بحيث تمخض عنهما التغير الثوري في مرحلة تاريخية معينة؟ وكيف يمكن أن يتفاعلا في المستقبل لإحداث مثل هذا التغيير الثوري؟ وسوف يبين البحث كيف أن مشكلة الذات والموضوع، والوجود الفعلي والماهية، ظلت أهم المشكلات التي دارت حولها فلسفة بلوخ التي حاولت أن تزيل الاغتراب بين الذات والموضوع، وأن تصل بمبادئها اليوتوبية والمقولاتية إلى الماهية الحقيقية في وجود مستقبلي أكمل وأفضل.
إن التوحيد بين هذه العناصر الفلسفية الثلاثة (الذات - الموضوع - التاريخ) بالإضافة إلى اكتشاف وتحليل النزعات والاتجاهات الكامنة في الواقع والتي تنتظر الإرادة الثورية والدراسة الواعية لدفعها نحو الوجود اليوتوبي أو نحو الأمل، هذه العوامل مجتمعة هي التي جعلت بلوخ الفيلسوف الفينومينولوجي أو الظاهراتي - بالمعنى الهيجلي - للمستقبل الإنساني والاشتراكي، كما جعلت كتابه «مبدأ الأمل» هو «ظاهريات الروح» الجديد في تاريخ الفلسفة المعاصرة. فليس هذا الكتاب في نهاية الأمر سوى رصد دقيق وشامل لمراحل تطور المادة والوعي معا - تبعا لمقولة ال «ليس-بعد» الأساسية - نحو الكل اليوتوبي الذي يتحقق فيه المجتمع الإنساني العادل، ولا حاجة للقول بأن هناك فرقا كبيرا بين ظاهريات ترصد التطور المعرفي نحو الوعي المطلق بالروح، وظاهريات ترصد التطور المادي والإنساني والمعرفي على السواء نحو الكل اليوتوبي أو الأمل اليوتوبي الممكن. (ه) كارل ماركس (1818-1883م)
قال بلوخ في المجلد الثاني عشر من مجلدات الطبعة الكاملة لأعماله: «إن فلسفتي مدينة لأخي شيلنج، ولأبي هيجل ولماركس ابن هذا العالم.»
37
وقد سبق الحديث عن أهم نقطة أثرت عليه من فلسفة شيلنج، وهي التمييز بين الوجود الفعلي والماهية التي تتحقق خلال العملية التاريخية، وكذلك عن مشكلة الذات والموضوع عند هيجل - لا سيما في ظاهريات الروح - حيث رأي بلوخ أن هيجل لم يفصل بينهما من الناحية المعرفية، بل اشترط أن يكون تحرر الموضوع من الاغتراب عن الذات أو الوعي ووحدتهما الميتافيزيقية هي البداية الحقيقية للفلسفة. وإذا كان بلوخ قد أخذ على هيجل كما رأينا فيما سبق: أنه يصبغ العنصر المشترك بينهما بصبغة صوفية ويسميه بالتسمية الغامضة (الروح أو العقل المطلق)، فإن هذه الصبغة الصوفية ربما كانت من أهم أسباب اتجاه بلوخ - العلماني أو الدنيوي - إلى ماركس الدنيوي مثله. فمن الطبيعي لبلوخ الذي لم يتقيد بالروح المطلق أن ترتبط فلسفته بفلسفة ماركس، إذ تحول الاغتراب الهيجلي على يد ماركس إلى برنامج سياسي ثوري، وأصبحت «ظاهريات الروح» - التي أوقفت على قدميها - هي تاريخ الصراع الطبقي، وغدت «هوية الروح» مع ذاتها هي هوية الإنسان العامل المنتج، بل هوية العالم الطبيعي مع نفسه، والعلامة المميزة «للمجتمع الخالي من الطبقات». بذلك تصور ماركس أن الشيوعية في نهاية الصراع والشقاق بين الإنسان والطبيعة، وأن تحقيقها رهن بإرادة الطبقة العاملة التي تعي دورها الثوري ومسئوليتها التاريخية فتحول مسار التاريخ.
ومن الطبيعي أيضا - باعتبار بلوخ فيلسوفا ماركسيا - أن تكون الوقفة عند ماركس أطول، وأن يكون التأثير مباشرا بشكل لا يدع مجالا للشك. والحق أنه يصعب تحديد الجانب أو الجوانب التي أثرت على تفكير بلوخ من فلسفة ماركس، فإذا كان العامل المشترك الذي يجمعهما بوجه خاص هو الفلسفة المادية الجدلية والتوجه الثوري نحو تغيير العالم ونحو المستقبل، فإن هنالك جوانب تفصيلية متعددة تكشف عن الكثير من أبعاد هذا التأثر ويشير إليها هذا البحث في موضعها. وعلى الرغم من أن بعض الباحثين الماركسيين الحرفيين قد أنكروا أن يكون هناك أي شيء مشترك بين ماركس وبلوخ، كما زعموا وزعم غيرهم أن ماركسية بلوخ هي ماركسية وجودية أو صوفية أو رومانسية ولم يبق فيها شيء من ماركس الحقيقي والعلمي ... إلى آخر هذه الاتهامات التي استندت - فيما استندت إليه - إلى نقد بلوخ للماركسية السوفيتية، وإلى تأكيده للدور اليوتوبي للماركسية، على الرغم من هذا كله فإن وجوه التطابق بين الفيلسوفين الماديين الجدليين أكثر من أن تحصى . ويمكن الاكتفاء في هذا الموضع بجانب واحد لعله أن يكون من أهم الجوانب التي لا يمكن إنكارها بجانب إشارات بلوخ الكثيرة إلى اسم ماركس وأعماله وأفكاره الأساسية في مؤلفاته، ويتعلق هذا الجانب «بأصول» الاغتراب بين الذات والموضوع أو الوعي والطبيعة أو الوجود والماهية.
ربما كانت تحليلات ماركس - في رأس المال ونقد الاقتصاد السياسي - للقيمة وأشكالها المختلفة من أهم الأفكار في رأي «دتليف هورستر»، التي انطلق منها بلوخ وأصبحت من الأفكار المحورية في فلسفته. فمن المعروف عن التحليلات الماركسية أن الإنتاج الرأسمالي قد تطور عن طريق الدورة السلعية التي بدأت على حافة التجمع البشري الفطري أو الطبيعي. وقد بين ماركس - خصوصا في رأس المال، ومن خلال العرض التاريخي لتطور الأشكال المختلفة للقيمة - أن أبسط هذه الأشكال قد ظهر من الناحية العملية مع البدايات الأولى التي تحولت معها منتجات العمل إلى سلع من خلال التبادل العرضي والاتفاقي.
38
Bog aan la aqoon
والواقع أن عملية تبادل السلع لا تظهر في الأصل في حضن التجمعات الطبيعية أو الفطرية، وإنما تظهر حيث تتوقف هذه التجمعات، أي على حدودها وعند النقاط القليلة التي يتم فيها اتصالها بتجمعات أخرى. «والعلاقة الحقيقية بين السلع هي عملية التبادل بينها، وهذه عملية اجتماعية يشترك فيها الأفراد المستقلون بعضهم مع بعض، ولكنهم لا يشتركون فيها إلا باعتبارهم مالكي سلع، ولا وجود لهم إزاء بعضهم بعضا إلا عن طريق سلعهم، وبهذا يظهرون لنا كأنهم ممثلو أو «حملة» عملية التبادل.»
39
هنا تبدأ التجارة القائمة على التبادل، ثم تعود فتنفذ في صميم التجمع البشرى نفسه لتؤثر عليه تأثيرا مدمرا. وفي عملية التبادل البسيطة هذه تنطوي بذور الرأسمالية، وبقية تحليلات ماركس تبين كيف تطور عنها «المال» ومنه «رأس المال» وكيف ساهم الإنسان والوعي الإنساني في هذا التطور وتأثرا به بصورة غيرت علاقة الوعي بالعالم وعلاقة الذات بالموضوع.
ولم يتم التطور السابق بطريقة مستقلة عن الإنسان ووعيه كما سبق القول، فنشاط الوعي قبله وفي بدايته قد يختلف اختلافا كيفيا عنه بعد الوصول إليه أو الدخول فيه. ذلك أن نشاط الوعي قد اقتصر في البداية على خدمة الحياة العينية البسيطة المباشرة. ومع بداية تبادل منتجات العمل بين البشر حدث تغير حاسم في مفهوم المنتج والوعي معا؛ إذ اكتسبت المنتجات «صفة اجتماعية» لم تكن تملكها من قبل وصارت لها «قيمة».
40
وتقوم القيمة بدور «التوسط» في حركة المنتجات عندما تكف عملية التبادل عن كونها مجرد عملية اتفاقية أو عرضية تتم على هامش التجمع البشري، ومن ثم تتعرض للزوال بمجرد نشوئها، ومعنى هذا أنه عندما تصبح التجارة القائمة على التبادل فعلا مستمرا ومتصلا، تصبح القيمة هي اليد الخفية التي تنظم حركة السلع وتبادلها.
41
وتستمر حركة هذا التطور فتبدو للبشر - في ذروة تطور السلعية
42 - وكأنما هي شيء طبيعي ومستقل عنهم، ويقفون في مواجهتها كذوات «عارفة». ويظل خافيا عليهم أن القيمة ليست شيئا «موضوعيا» - أي شيئا متعلقا بالموضوعات نفسها تعلقا طبيعيا - وإنما نشأت نشأة اجتماعية كما تطورت تطورا طبيعيا، وهكذا تقف الذات والموضوع من بعضهما موقف طرفين متقابلين في عملية المعرفة الخالصة. بل إن وعي الذوات أو نشاطهم العقلي والفكري يمكن أن يستقل بنفسه بحيث تنقطع العلاقة المباشرة بين الذوات وبين الموضوعات، وبحيث يقتصر دورها على معرفة الموضوعات معرفة نظرية بحتة دون تغييرها أو التأثير عليها.
ومعنى هذا أن الوعي يمكن أن يستقل بنفسه عن الموضوعات الحية وعن الحياة المباشرة نفسها، وأن يتصور أن معرفته وحدها هي الهدف الأسمى والغاية الأخيرة من الحياة. ويمكن أن نجد البداية الفلسفية لهذا التحول في تحليلات أرسطو في الكتاب الأول من كتابه عن الميتافيزيقا، ففي رأيه أن العلم قد نشأ لأول مرة في مصر حيث وجد الناس الفراغ الكافي لممارسته. والعلم ينصرف إلى المعرفة لذاتها لا لأي غرض أو منفعة عملية أو هدف خارجي عنه. والسبب في ذلك بسيط في نظر أرسطو - وغيره من فلاسفة اليونان - فالمعرفة تحمل هدفها في ذاتها. والمهم في هذا السياق أن الانفصال بين الذات والموضوع (والعكس) قد بدأ مع بداية التطور المادي الاقتصادي الذي أدى إلى عملية التبادل عن طريق السلع والمال، بحيث وقفت «الأنا » الواعية بذاتها في مواجهة الموضوعات، وراحت تتعرف عليها مستعينة بأدواتها العقلانية وتؤثر عليها بفعلها وسلوكها العقلاني أيضا، ومن هنا بدأ الانفصال بين الذات والموضوع، والباطن والظاهر، والفرد والعالم المحيط به (وهو الأمر الذي لم يعرفه مثلا أبطال ملحمتي هوميروس - من حوالي القرن الثاني عشر إلى حوالي القرن التاسع والثامن قبل الميلاد - وذلك قبل القرن السابع ق.م. الذي عرفت فيه الجماعات الإغريقية تبادل السلع وظهور العملة النقدية).
Bog aan la aqoon
43
إن تاريخ الانفصال بين الذات والموضوع في عملية المعرفة - أو بالأحرى انقطاع العلاقة والوحدة المباشرة بينهما مما أدى إلى ظهور التفكير المجرد - هو في الوقت نفسه تاريخ التطور من التبادل البسيط أو المقايضة إلى الرأسمالية. أضف إلى هذا أن التفكير المجرد قد تطور أيضا مع التطور المتزايد في تجريد التبادل، بحيث أصبح ينظر إلى المنتجات المختلفة في علاقتها بالعنصر المجرد المشترك بينها، أي بحيث صارت قيمتها في عملية التبادل هي الشيء الوحيد المهم، وهو الأمر الذي تم في المرحلة السابقة على الرأسمالية، ثم تزايد وبلغ ذروته في ظل العلاقات الرأسمالية.
44
ولا بد من القول بأن الانفصال الذي تم بالتدريج بين الذات والموضوع لم يجعل التبادل والتفكير قطبين متعارضين أو متضادين، لأن المسألة في الواقع هي مسألة علاقة إنتاج متبادلة بين أشكال الوعي وأشكال الوجود. وتطور المال ودوره في التعامل والتبادل السلعي يوضح هذه المسألة. فقد استلزم التبادل عن طريق المال توحيد القيمة المادية والكمية للأشياء المختلفة في قيمتها الكيفية «ومن ثم تستطيع أشياء غير ذات قيمة نسبية، منها الورق مثلا، أن تعمل كرموز للعملة الذهبية.»
45
أي أن تلك القيمة الكمية تفترض تجريد المنتجات المختلفة. من صفات أو خصائص محددة هي في صميمها صفات أو خصائص كيفية. هذا التجريد والتوحيد قد تم قبل كل شيء في رأس الإنسان، ثم ترتب عليه بعد ذلك من الناحية الواقعية «موضعة» القيمة، أي تجريدها.
في شكل «مال» أو عملة نقية؛ مما ساعد في نفس الوقت على زيادة قدرة الإنسان على التجريد أو التفكير المجرد بعد مساعدتها على نشوئها .
46
يتضح مما سبق أن نوعا معينا من الوعي أو التفكير (وهو التفكير المجرد أو التجريد) هو عنصر أساسي ساهم في تكوين وتطور الرأسمالية التي تمثل في نظر الماركسية آخر مرحلة تاريخية ومنطقية لتطور عملية التبادل السلعي، كما أن هذا الوعي أو التفكير المجرد قد تكون بدوره من خلال تطور عملية التبادل السلعي وبخاصة منذ تطور التبادل عن طريق المال الذي قام عليه تطور العلاقات الرأسمالية والذاتية البرجوازية في ظل هذه العلاقات.
47
Bog aan la aqoon
والمهم في النهاية ألا نرجع هذا التطور الرأسمالي إلى عنصر واحد (العنصر الذاتي، أي الوعي والتفكير المجرد من ناحية، والعنصر الموضوعي أي السلعة والمال والعلاقة الاجتماعية الإنتاجية من ناحية أخرى) لأن علاقة التأثير والتأثر متبادلة بين هذه العناصر جميعا ولا يمكن إرجاع التطور الرأسمالي لواحد منها مستقلا عن الآخر، ولأن تطور الذات الإنسانية وتغيرها قد صاحبه تطور الموضوع وتغيره، وذلك في سياق عملية جدلية شاملة تمخضت عنها أشكال جديدة للفكر وأشكال جديدة للموضوعات. والخلاصة أن الطابع المزدوج لمنتج العمل الذي تحول إلى سلعة، أي باعتباره في نفس الوقت شيئا يستخدم وقيمة، وما ينطوي عليه ذلك من الأشكال المختلفة للقيمة،
48
قد كان هو السبب في ذلك التقابل المشهور في نظرية المعرفة بين الذات والموضوع، بين الفرد والبيئة المحيطة به، وبين الأنا والعالم. وهو تقابل نظري مجرد لم يكن له وجود عندما كانت العلاقة مباشرة بين البشر والطبيعة، وعندما كان في إمكانهم تنظيم عملهم تنظيما اجتماعيا مباشرا بدون توسط عملية التبادل السلعي.
نكتفي بهذا القدر من تحليلات ماركس لجانب واحد من جوانب نظريته عن القيمة لنسأل عن تأثيره على تفكير بلوخ وعن العنصر المشترك الذي تم الإشارة إليه بين الفيلسوفين. لقد اتضح من العرض السابق أن الانفصال بين الذات والموضوع أو الفكر والوجود هو في نظر ماركس مسألة تطور تاريخي وليس حقيقة ثابتة، وأن عملية التبادل السلعي هي المسئولية عن استقلال المنتجات عن منتجيها ومن ثم عن إمكان معرفة «الموضوع» معرفة نظرية عن طريق الذات المقابلة له. هنا أيضا يمكن أن نقول إن بداية تاريخ الفلسفة قد اقترنت بوجود التفكير في ناحية والوجود في ناحية أخرى. وقد تطور هذا التصور مع تطور الفلسفة فأصبح الفكر الخالص في جهة والمادة في جهة أخرى، كما انقسمت الاتجاهات الفلسفية إلى اتجاهات تؤكد الذات على حساب الموضوع أو تؤكد الموضوع على حساب الذات، ومن ثم تكرس الاتجاهات والمذاهب العقلية أو الذاتية في جانب، والمادية أو الموضوعية أو الوضعية أو التجريبية في الجانب المقابل، مع وجود استثناءات تخرج عن هذا التعميم بطبيعة الحال.
وقد سبق القول إن بلوخ ينقد التراث الفلسفي القديم (الكلاسيكي) والحديث ويحاكمه من هذه النقطة بوجه خاص، أي من جهة الفصل بين الفكر والوجود. ومع أن الفلسفة المثالية (التي يغلب فيها الفكر على الوجود) والفلسفة المادية (التي يغلب فيها الوجود على الفكر) قد حاولتا كل على طريقتها أن تقربا بين طرفي الفكر والوجود وأن تقهرا هذه الثنائية العقيمة، فقد بين بلوخ في قراءته لتاريخ الفلسفة ولبعض الفلاسفة الذين اهتم بهم أن الانفصال بين الفكر والوجود ظل هو الطابع الغالب عليهم، كما حاول جهده أن يوحد بين العناصر الإيجابية في الاتجاهين الرئيسيين لتاريخ الفلسفة (أي المثالية والمادية) دون أن ينضم صراحة إلى أحدهما بصورة مطلقة. وسوف يتضح من خلال البحث أن ماديته التي يصر عليها ليست مادية بالمعنى التقليدي الشائع لهذه الكلمة، وإنما هي مادية صوفية ودينية أو مثالية ورومانسية.
إن ماركس وبلوخ يتفقان على شيء جوهري، وهو أن اغتراب الإنسان عن ذاته وعن الطبيعة لن يتوقف حتى يتوقف استقلال الذات والموضوع كل منهما عن الآخر، وحتى تتوقف كذلك إمكانية فكر خالص في ناحية ووجود خالص في ناحية أخرى، والهدف النهائي عند كل منهما هو التوصل إلى «وحدة الإنسان الذي عاد إلى نفسه مع عالمه الذي نجح في تغييره أو تشكيله.»
49
وهذا الهدف النهائي لا يمكن تحقيقه عن طريق التفكير وحده، وإنما يجب أن يرفع أو يلغي استقلال الموضوع عن طريق الممارسة العملية وأن يتم في الواقع. ومن الطبيعي أن يجد بلوخ أسس هذه الممارسة في المادية الجدلية التي يعتبر أنها هي الفلسفة الوحيدة التي يتم فيها التغلب على التضاد بين الفكر والوجود، والعقل والحس، والقبلية والبعدية (أو العقلية والتجريبية) والنزعة الإرادية والنزعة القدرية، وهكذا يتفق النسقان المفتوحان على المستقبل لكل من ماركس وبلوخ اتفاقا جوهريا على أن الذات والموضوع اللذين تم الفصل بينهما يمكن أن يقتربا من بعضهما مع اقتراب كل منهما من نفسه أو عودته إلى نفسه.
ليس هذا العرض السابق - كما تمت الإشارة في البداية - سوى مجرد محاولة لتفسير جانب هام من جوانب تأثر بلوخ بفلسفة ماركس أو على الأقل بجانب واحد منها. أما عن تأثره بالفلسفة الماركسية في مجموعها فهو شيء واضح يفصح عنه قبل كل شيء توجهه الثوري إلى المستقبل. ويمكن القول إن ماركس مهد الطريق أمام بلوخ - الذي تجاوز الماركسية بدوره بل وجعلها تنضوي تحت لواء نسقه الفلسفي - ليقيم «علم الأمل» الذي شيد بناءه على أساس مادي وملأه بمضمون فلسفي بحيث ارتفع هذا الأمل من مستوى العاطفة الذاتية أو الفضيلة الأخلاقية إلى شروط موضوعية محددة، ويحركها وعي ثوري يضمن تحقيق الخلاص في ظل «الجماعة الإنسانية» الحقة التي ستنعم في نهاية المطاف بالسعادة والعدالة والحرية والكرامة والإخاء. (2) مؤثرات فكرية وأدبية
لم تقتصر العوامل الثقافية التي أثرت على بلوخ على الفلاسفة الكلاسيكيين والمحدثين من أرسطو إلى ماركس، وإنما أثر عليه مجموعة من الأدباء والمفكرين المعاصرين الذين ربطته بهم عرى الصداقة، ومن هؤلاء الناقد الأدبي فالتر بنيامين، والفيلسوف أدورنو، والكاتب المسرحي برشت، والمؤلف الموسيقى كورت فايل وغيرهم. ولكن أهم هذه الصداقات - كما سبق القول - هي التي جمعته خصوصا في سنوات شبابه بالفيلسوف المجري جورج لوكاتش (1885-1971م) ولما كان المقام لا يتسع للحديث عن التفصيلات الدقيقة لهذه العلاقات بين بلوخ وبين هؤلاء الأدباء والمفكرين والفنانين - وغيرهم كثير - فسوف نكتفي بإلقاء الضوء على بعضها بالقدر الذي يسمح به سياق الكلام عن أبرز المؤثرات على حياته وتكوينه الفكري، بادئين بأقرب أصدقائه إلى قلبه - على الأقل في سنوات الشباب - وهو لوكاتش. (أ) لوكاتش
Bog aan la aqoon
تقابلا للمرة الأولى في إحدى قاعات البحث التي كان يقيمها فيلسوف الحياة جورج زيميل في برلين، ثم كانت إقامتهما ورحلاتهما معا من عام 1912 حتى عام 1914م في هايدلبرج، واشتراكهما في الحلقات الدراسية التي أقامها ماكس فيبر في هذه المدينة الأخيرة. وقد روى بلوخ أنهما كانا على اتفاق تام في ذلك الوقت، وأنهما حتى عندما كانا يلتقيان بعد أسابيع طويلة كانا يستأنفان الحوار وكأنه لم ينقطع، وكان لا بد في هذه المرحلة من أن يحددا - على حد تعبيره - منطقة خضراء تبين الفروق بينهما حتى لا يتصور الناس أنهما يتكلمان بفم واحد.
وقد جمعهما تأثرهما الشديد «بظاهريات الروح» لهيجل واتفاقهما في فهمها فهما ثوريا، وخاصة في تناولها للموضوعات الأساسية التي تم الإشارة إليها سلفا وهي «الذات - الموضوع - التاريخ». كانت هذه المشكلات حاضرة في ذهن بلوخ عندما بدأ في كتابة مؤلفاته الأولى وهي «روح اليوتوبيا» عام 1918م، وكتابه توماس مونتسر عام 1921م، كما أن هذه الموضوعات نفسها شغلت لوكاتش في كتابه «التاريخ والوعي الطبقي» عام 1923م؛ مما يدل على أنهما انطلقا من نفس المشكلات المعرفية والنظرية، وإن كان الاختلاف على البعد اليوتوبي قد فرق بينهما بعد ذلك. فقد ظل الصديقان على وفاق حتى اندلعت نيران الحرب العالمية الأولى فتوجه لوكاتش إلى المجر والتحق بعد الحرب بالحزب الشيوعي المجري وعمل منظرا للماركسية طوال العشرينيات، بينما توجه بلوخ إلى سويسرا، وعلى العكس من لوكاتش، لم يلتحق بالحزب الشيوعي الألماني، وقد كان لروسيا عشية الثورة فعل السحر على كل منهما، وعندما استولت النازية على السلطة رحل لوكاتش إلى روسيا، ورحل بلوخ إلى براغ، ومن هنا بدأ المسار الفلسفي للرجلين يزداد تباعدا خاصة عندما قام لوكاتش بتبرير الرعب الذي يمارسه الحزب الشيوعي في بسط هيمنته، لقناعته أن الرعب والقهر إجراءان ضروريان لإقامة المجتمع الاشتراكي، بينما تمسك بلوخ - إلى حد الجنون أحيانا! - بالحق والكرامة الإنسانية والحرية الفردية التي يجب ألا يقهرها أي فكر عقائدي. واحتدمت الخلافات بينهما، وكان من رأي بلوخ أن صديقه لوكاتش لم يفهم فكرته عن اليوتوبيا، كما أنه - أي بلوخ - اختلف معه بشدة حول مفهوم الواقعية في الأدب الذي كان لوكاتش يدافع عنه بشدة لأن مثل هذه الواقعية تفتقر إلى البعد اليوتوبي. وتبلور خلافهما على صفحات الصحف والمجلات الثقافية في شكل معارك حادة حول الحركة التعبيرية التي هاجمها لوكاتش بقسوة ودافع عنها بلوخ حتى النهاية، وشكلت هذه المناظرة الفكرية بينهما في عام 1938م أحد الأحداث الهامة في الفكر والأدب الألماني الحديث.
والتعبيرية حركة أدبية ظهرت في ألمانيا حوالي عام 1906م وامتدت حتى أوائل العشرينيات، وقد نشأت في مجال الرسم ثم امتدت إلى الشعر والقصة والمسرح (وقد كانت الأعمال المسرحية الأولى لبرشت من أهم إنجازاتها) وأطلقت صرختها وفزعها من رعب الحرب، وشوقها إلى عالم إنساني جديد يتحقق فيه العدل والكرامة الإنسانية. كانت التعبيرية حركة فنية ثائرة، تجمعت تحت لواء الإيمان بإنسانية جديدة، وحاولت أن تمحو كل أشكال الواقع التي أثبتت الحرب فسادها، وأن تعصف بكل القيم الزائفة في الحياة البرجوازية والسياسية والفنية التي أدت إلى الحرب، أو على الأقل لم تحل دون وقوعها ولم تقف في وجهها. وكان هناك سخط هائل على كارثة الحرب العالمية الأولى، وكانت التعبيرية هي التعبير الفني عن هذا السخط. أراد الفنان أن يشكل العالم من جديد بالرؤية والحماس المتوهج للقيم المطلقة، بالإبداع الحر، بالروح الطليق والكلمة الحية المتمردة على الواقع والمدنية والتقدم العلمي والتقني وكل القيم التي فضحت الحرب كذبها وخداعها.
50
لكن سرعان ما اختفت هذه الحركة ولاذ أصحابها بالصمت أو تشتتوا في المهجر أو سقطوا في الحرب العالمية الأولى أو انسحقوا تحت أقدام الطغيان النازي، واختنق صوتها في أوائل الثلاثينيات، خنقته الأزمة الاقتصادية العالمية، وزحف ذئاب الفاشية وقطعانها الهمجية، واندلاع نيران الحرب العالمية الثانية. وكانت النتيجة أن دفنت التعبيرية حية، وانطفأت شعلتها التي لم تكد تتوهج.
51
أثرت الحركة التعبيرية تأثيرا كبيرا على بلوخ، وانعكس هذا التأثير على كل إنتاجه الفكري، الفلسفي منه والأدبي، فقد أخذ بلوخ من التعبيريين حماسهم وأسلوبهم المتوهج في الكتابة، والتعبير عن الأفكار بلغة الشعر والأسطورة والحكم والأمثال، والاستخدام المفرط للصور المجازية التي تصل إلى حد الغموض في أحيان كثيرة، وهو ما تلمحه بسهولة عين القارئ لمبدأ الأمل؛ إذ كان للنزعة التعبيرية أكبر الأثر على عرض النص الفلسفي من حيث شكل التعبير والأسلوب الزاخر بالرموز والصور الشعرية؛ مما زاد من صعوبة قراءة بلوخ واستخلاص جوهر نسقه الفلسفي. ولعل النزعة الإنسانية للتعبيريين وحلمهم بمجتمع إنساني جديد يتحقق فيه العدل والكرامة الإنسانية - الذي كان منذ البداية هو الهدف والغاية عند بلوخ - هو ما جذبه إليهم، فظل متمسكا بأفكارهم ومدافعا عنهم، وخاض من أجلهم أكبر معاركه الفكرية مع لوكاتش صديق عمره، حتى بعد أن قضى على هذه الحركة تماما ولزم أصحابها الصمت أو انزووا في المنفى أو السجن أو سكتوا إلى الأبد تحت التراب.
وعلى الرغم من أفول التعبيرية واعتبارها الآن جزءا من تاريخ الأدب، إلا أنها تمثل المرجع الألماني الأول للفن المعاصر، كما أن المعركة الفكرية التي دارت رحاها بين لوكاش وبلوخ حول التعبيرية كانت خلافا حول المعنى التاريخي للنزعة الحديثة أو الحداثة
modernism
بصفة عامة.
Bog aan la aqoon