فما كدت آتي على هذه الكلمة الأخيرة، حتى اندفعت في وحشة وجنون أريد دارها، فوجدت الدار قد أقفرت من أهلها، فالتمست الجيران أسألهم عنها، وعن أبيها، فقيل لي: أما الشيخ فقد ذهب إلى المدينة، وأما فتاته فباقية، ولعلها قد مضت تتنزه في الحقول.
فكتبت إليها رسالة أشرح لها الأمر، وأبين، ودسست الكتاب من تحت عقب الباب، وانكفأت شارد اللب، ذاهل الخاطر، عائدا إلى حجرتي، فتهالكت على المرقد باكيا، وجعلت أغالب الدمع الواكف المنهمر فلا أقدر، ورحت أغمغم لنفسي والها ناشجا: سوسن ... سوسن ... إنني أحبك ... ألا صفحا ومغفرة، وتقبلي الشفيع، وارتضي العذير.
ووجدني صديقي «ف» على تلك الحال بعد فترة قصيرة، فبهت مما رأى، وأقبل علي فألقى ذراعه فوق كتفي، وقال: نبئني ما خطبك فإني على الخطب معوان.
فأنشأت في منطق عاثر وبلسان متلعثم، أقص عليه ما جرى، وكيف سقطت الورقة التي تعاهدنا فيها على الرهان مني وأنا لا أدري، فعثرت هي بها، فلفظتني وتولت عني غير مستأنية لشرح، ولا ممهلتي لبيان.
فجعل ذلك الصديق يواسيني ويربت ظهري بيده، ويقول: لا تخف ولا تحزن، فإنني ذاهب إليها هذا المساء فشارح لها حقيقة الخبر إن لم تكن رسالتك قد أدت الغرض أحسن أدائه ...
ولبث بجانبي أصيل ذلك النهار كله، لا يكف عن مواساتي والتسرية عني، حتى أدركنا المساء، فودعني وانطلق إلى غايته.
ولكنه ما لبث أن عاد يقول إنه لم يجدها في دارها، فما كدت أسمع النبأ حتى هجس بنفسي هاجس أليم، وخفت أن يكون هذا النبأ مطلع الأسى ونذير المصاب.
وساورني القلق فلم أطق جمودا في مكاني، ولم أجد روحا إلى النوم أو أجدها وأعرف أين ذهبت.
فخرجت تحت جنح الليل أمشي على غير هدى كأنني شبح من الأشباح هائما في بهرة الظلام على وجهي، حتى رآني الصباح واقفا بباب بيتها ولا يزال الباب موصدا.
فعدت أدراجي إلى حجرتي متعبا واهنا، فالتمست النوم من فرط الإعياء، ورأيت فيما يرى النائم، كأن نورا باهرا قد غمر الحجرة وشبح «سوسن» مطالعي في ثوب أبيض كالضياء، وهي مادة ذراعيها كأنها تناديني، ثم ما لبثت الرؤيا أن اختفت، فصحوت من النوم ولا أزال أسمع كلماتها وهي تقول: إنني أحبك ... ولن تطيب لي الحياة إلا بك ...
Bog aan la aqoon