فوثب صديقي من مكانه فأمسك بتلابيبي ومضى يهيب بي قائلا: ماذا جرى لك، وما الذي أصاب شغاف فؤادك؟ ما كنت والله أحسب الأمر صائرا في يوم وليلة إلى ما أرى الساعة وألمح على صفحة وجهك، أكذا هو الحب من أول نظرة؟ ...
ولقد أصاب صديقي في تسمية ما كان بي «الحب من النظرة الأولى»، لقد كان ذلك كذلك، وكانت النفس به من أول وهلة مفعمة.
رأيت شبح «سوسن» مطالعي في ثوب أبيض كالضياء.
وما هي إلا أيام معدودات حتى وجدتني أقضي كل أيام الفراغ في دار «سوسن»، نلعب حينا الورق، وحينا نذرع البستان النضير متمشيين متنزهين، وفي البستان كانت خميلة من أغصان الشجر، وهناك اعتدنا أن نجلس الساعات في خلوة ساحرة، نتحدث ونستمع إلى خرير النهر الفياض.
وا حزناه! ... إني والله لا أزال إلى الساعة أسمع خرير ذلك الماء الثجاج المتدفع، ولكني أتبين من خلاله نغمة حزينة ورنة أسى، تمزق نياط الفؤاد ...
وفي ذات ليلة، ونحن في مجلسنا ذاك، والقمر يرسل ضياءه الفضي المتراقص المتلألئ فوق صفحة الماء، رحت أتناولها بين ذراعي وأهمس قائلا: سوسن ... إنني أحبك ... يا أغلى النساء ... ألا عديني أنك بالزواج مني راضية.
فهمست هي أيضا بصوت عذب رقيق، ودموع الفرح تتحير في عينيها: لك عندي مثل الذي لي عندك ويزيد، ولن تطيب لي الحياة إلا بك؛ لأنني أحبك من أعماق قلبي، بل لقد أحببتك منذ أول يوم تلاقينا ...
وكذلك جلسنا ساعة كاملة في مكاننا، نتحدث في أمر المستقبل، ونرسم له خططه، ولما اختفى القمر عنا خلف أغصان الشجر وأعالي الدوح، عدنا أدراجنا على مهل إلى البيت.
قلت وأنا أطبع فمي على خدها: طاب ليلك يا سوسن العزيزة، وسأجيء مساء غد لنذهب بالنبأ إلى أبيك معلنين. •••
أواه ... لقد كانت تلك الليلة آخر عهدي بالسعادة الحقيقية، فقد تلقيت ضحى اليوم التالي كتابا منها، ففضضت في لهفة غلافه، وإذا بتلك الورقة التي كتبت أنا وصديقي «ف» فيها العهد والرهان قد سقطت من جوفه، وفي جنة الملتاث المذهوب اللب رحت أقرأ ما كتبت سوسن في تلك الرسالة، فإذا هي تقول: «لقد برح الخفاء وحصحص الحق، فقد عثرت بهذه الورقة فوق أرض الخميلة ... وا فؤاداه! ... ما الذي غرك بي حتى مضيت تلهو بفؤادي وأنت العليم بمبلغ حبي لك، لقد ربحت رهانك! ولكنك أضعت فؤادي ... وداعا ...».
Bog aan la aqoon