87

Jarmalka Naasiga

ألمانيا النازية: دراسة في التاريخ الأوروبي المعاصر (١٩٣٩–١٩٤٥)

Noocyada

ولما كان من المتعذر سرد جميع حوادث اضطهاد اليهود في ألمانيا منذ برز الحزب النازي إلى عالم الوجود ووصل رئيسه إلى مستشارية الريخ، إلى وقت اندلاع الحرب العالمية الثانية، فإنه يكفي أن نسجل الآن حوادث موجات الاضطهاد التي اجتاحت اليهود في كل من ألمانيا والنمسا في شهري أكتوبر ونوفمبر من عام 1938، لا لتبيان ما وصل إليه الطغيان النازي من شدة مريرة فحسب، بل ولأن هذه الاضطهادات المروعة سرعان ما أوجدت مشكلة اللاجئين، تلك المشكلة التي ذهب عدد غفير من اليهود ضحية لها من أوروبا عموما وفي أوروبا الوسطى على وجه الخصوص.

فبعد أن سقطت النمسا في قبضة ألمانيا في مارس 1938 أعلن «هرمان جورنج» في فينا الحرب على اليهود بقوله: «إننا لا نحب اليهود، وهم لا يحبوننا؛ ولذلك فسوف ندخل عليهم السرور بإرغامهم على مغادرة البلاد!» وكان هذا الإعلان بمثابة إنذار لبدء موجة الاضطهاد العظيمة التي سرعان ما أثارت الرعب والفزع في فينا في أبريل من العام نفسه؛ إذ سلط النازيون سيف الإرهاب على أعناق اليهود في هذه المدينة التاريخية القديمة، وكان عدد اليهود بها لا يزيد على 170000، وضاقت السبل في وجه الكثيرين منهم حتى بلغ متوسط من فضلوا الانتحار منهم في كل يوم من أيام هذا الشهر مائة وثلاثين، وظلت موجة الانتحار على شدتها بين اليهود في الشهور التالية، حتى بلغ عدد المنتحرين في يوم من أيام شهر يولية عام 1938 ثمانمائة «800»؛ بل لقد قدر عدد المنتحرين عموما في خلال الشهور الأربعة الأولى من الاحتلال الألماني بنحو سبعة آلاف يهودي. أما الذين لم يلجئوا إلى الانتحار كوسيلة مواتية تخلصهم مما هم فيه من كرب وبلاء، فقد استطاع النازيون أن يبتكروا طرقا منوعة لإفنائهم وإبادتهم، من ذلك تلك الحادثة المشهورة التي رواها «لويس جولدنج

Louis Golding » في كتابه عن «المشكلة اليهودية» في عام 1938، وقد رواها غيره كذلك، وهي تلخص في أن واحدا وخمسين شخصا وضعوا على ظهر سفينة في نهر الدانوب بالقرب من الحدود التشيكوسلوفاكية دون أن يقدم إليهم طعام أو نقود ... وقد استطاع التشيك أن ينقذوهم، وهيئوا لهم مأوى مؤقتا وأمدوهم بالطعام، ولكنهم ما كانوا يجرءون على الترحيب بهم واستضافتهم مدة طويلة أو على الدوام؛ ولذلك عملوا على ترحيلهم إلى هنغاريا، فأعادتهم إلى النمسا، «ليلاقوا العذاب ثانية!» وقد حدث مثل ذلك أيضا لجماعة أخرى، أخرجتهم النمسا من ديارهم ووضعتهم على ظهر سفينة ظلت تسير بهم في نهر الدانوب عدة أسابيع على غير هدى حتى وقفت خارج إحدى الموانئ النهرية الهنغارية! ... وانتهى الأمر بالسماح لهؤلاء المنكوبين بالدخول إلى فلسطين، وكان هؤلاء القلائل - ولا شك - من المحظوظين؛ لأن ألوفا من إخوانهم لم يظفروا بهذه النعمة العظيمة.

أما في ألمانيا؛ فقد بدأت موجة الاضطهاد الكبرى في شهري أكتوبر ونوفمبر من عام 1938 أيضا، وذلك عندما قرر النازيون طرد اليهود نهائيا خارج حدود دولتهم؛ فكان مما حدث نتيجة لهذا القرار أن شرع النازيون يقبضون على اليهود المنحدرين من أصل بولندي المنتشرين في أنحاء الريخ الثالث، وكان أكثرهم لا يزال بملابس النوم الخفيفة عند القبض عليهم وأرغموهم على عبور الحدود البولندية الألمانية سيرا على الأقدام، ومن ورائهم الجنود النازيون بمدافعهم الرشاشة، وقد بلغ عدد هؤلاء المنكوبين 15000 من بينهم ألفان من الأطفال. وفي يوم 29 أكتوبر 1938 كان عدد الذين تركوا وشأنهم من غير مأوى أو ملبس أو مأكل، يضربون في الأرض الفضاء الواقعة بين حدود ألمانيا وبولندة عند بلدة زبونستزين

Zbonszyn

نحو سبعة آلاف نسمة.

وقد نشرت جريدة «نيوز كرونيكل» الإنجليزية في عددها الصادر في 14 نوفمبر 1938 قصة هؤلاء التعساء كما رواها واحد منهم، فقالت:

في الساعة الخامسة من صبيحة يوم الجمعة 28 أكتوبر 1938، أوقظنا من نومنا وألقي القبض علينا ... ولما كانت السجون تعج بمن فيها من اليهود البولنديين؛ فقد أرغمنا مع مئات غيرنا على الوقوف والانتظار في ساحة السجن ينهمر علينا المطر مدرارا، وفي هذا المكان خاطبنا أحد زعماء جنود الحرس

S. S.

وأخبرنا بأنه قد تقرر طردنا وإخراجنا من البلاد، وبأنه سوف يجري ترحيلنا من ألمانيا في الساعة السابعة مساء، ولم يسمح لنا بالعودة إلى بيوتنا. وعلى هذا أرغمنا على مغادرة ألمانيا بما كان على أجسامنا من ملابس ليس غير، أما بقية ملابسنا وكذلك أثاث بيوتنا، وأموالنا، فقد اضطررنا إلى تركها جميعا في ألمانيا، وصادرها رجال الجستابو. ثم نقلنا بعد ذلك إلى عربات السكة الحديدية المخصصة لنقل البهائم، وتذوقنا في هذه الرحلة صنوفا من العذاب وتحملنا آلام الوقوف والجوع والبرد. ثم قطعنا المسافة بين الحدود الألمانية عند «نيو بوشن

Bog aan la aqoon