Alf Layla Wa Layla Fi Adab
الرواية الأم: ألف ليلة وليلة في الآداب العالمية ودراسة في الأدب المقارن
Noocyada
وقد استمرت قصص الجان والسحر والخوارق في الظهور في القصص العربي إلى عصرنا الحديث. ونحن نرى كيف تحدثت روايات وكتب الدكتور طه حسين «شجرة البؤس» و«دعاء الكروان» و«الأيام» عن شيوع خرافات الجن والسحر والأرواح في الريف المصري. وفي «عودة الروح» لتوفيق الحكيم، و«قنديل أم هاشم» ليحيى حقي والثلاثية لنجيب محفوظ، تصوير لشيوع الخرافات حتى في المدينة. ومن العجيب أن الإيمان بالسحر وقوى الجان واستخراج الكنوز المدفونة وتحضير الأرواح قد عاد ثانية إلى الظهور، وراجت معه الكتب التي تتحدث عن تلك الأمور، حتى إنها أصبحت من أكثر الكتب رواجا ومبيعا، فكأنما قد عدنا ثانية في القرن الحادي والعشرين إلى عالم ألف ليلة وليلة ومجتمعها!
أما في أوروبا، فقد تتابعت القصص والروايات التي تعتمد عنصر السحر فيها، إلا أنها كادت تقتصر على قصص الأطفال والناشئة بغرض حث صفة التخيل فيهم. ومن الواضح أن الكثير فيها يماثل ما جاء في القصص العربية. وقد أوضحت الباحثة المصرية ميرفت عبد الناصر - التي تعمل أستاذة للطب النفسي بجامعة كنجز بلندن - حديثا الصلة التي تستبين في قصص هاري بوتر من تأليف الكاتبة البريطانية ج. ك. رولنج وبين الكتابات الفرعونية عن السحر والأساطير المصرية القديمة. وأضيف هنا أن رولنج قد تأثرت أيضا في رواياتها عن هاري بوتر بحكايات السحر والسحرة في ألف ليلة وليلة، وهو الكتاب الأقرب إلى التناول بالنسبة للأطفال والنشء في جميع البلدان، خاصة في أوروبا وأمريكا، ولا بد أن الكاتبة البريطانية قد تعرفت إلى قصصه المترجمة إلى لغتها في العديد من النسخ التي شاعت هناك.
ويرتبط عالم الجن وعالم السحر في ألف ليلة وليلة بالبحث عن الكنوز والأموال المرصودة؛ والمرصودة هنا تعني المخصصة لشخص معين هو القادر على حل طلاسمها واجتياز المصاعب التي تكتنفها من أجل الحصول عليها في نهاية الأمر. وبهذا يدخل أيضا إلى الصورة فكرة القدر والمصير المحتوم. وقد شهدنا المثل الأفضل لكل ذلك في حكاية «الصياد جودر وأخويه» التي لم تنل نصيبها من الشهرة رغم كونها من أفضل الحكايات صياغة وخيالا. كذلك نجد في حكاية علاء الدين والمصباح السحري، الساحر الذي يبحث في أقطار العالم كلها عن الشخص المكتوب له أن يعثر على المصباح السحري المرصود، ولا يجده إلا في الصين في شخص الصبي علاء الدين.
وثمة حكاية أخرى من حكايات ألف ليلة وليلة تعمر بذكر الجان والسحر والسحرة، وهي حكاية «جلنار وبدر باسم»، وتدور حول الملك شهرمان الذي يتزوج من جارية يتضح أنها جلنار البحرية، ابنة أحد ملوك البحر. وهي تصف قومها الذين يعيشون داخل البحر بقولها: «... إنا نسير في البحر وعيوننا مفتوحة وننظر ما فيه وننظر الشمس والقمر والنجوم والسماء كأنها على وجه الأرض ولا يضرنا ذلك، واعلم أيضا أن في البحر طوائف كثيرة وأشكالا مختلفة من سائر الأجناس التي في البر، وأن جميع ما في البر بالنسبة لما في البحر شيء قليل جدا.» ثم تقوم جلنار بأعمال سحرية تستدعي بها أخاها وأمها وأهلها حتى يتعرف عليهم زوجها الملك شهلان. وتمضي الحكاية بعد ذلك لتنتقل إلى الابن الذي أنجبه الملك من جلنار البحرية وهو بدر باسم، وغرامه عن طريق السماع بجوهرة، ابنة الملك السمندل، وهو أحد ملوك الجان الذي يرفض زواج ابنته من بدر باسم، مما يلقي ذلك الأخير في خضم مغامرات مهولة، يذهب في إحداها إلى مدينة كل أهلها من السحرة، وعلى رأسهم الملكة «لاب» التي تسحر محبيها المارقين في هيئة طيور وحيوانات. ويتصارع أصحاب السحر الأسود الشرير مع شيخ مؤمن له في السحر الحميد، وهو ينجي بدر باسم من يد الملكة لاب ويعيده إلى بلاده حيث يتزوج من جوهرة آخر الأمر.
ثم يأتى بعد ذلك - في مجال الخوارق التي تحتوي عليها قصص ألف ليلة وليلة - غرائب الخيال العلمي الذي عالجناه في الفصل الخاص بذلك، ومنه البساط السحري، والفرس الطائر، والمنظار السحري، والتفاحة التي تشفي كل الأمراض، وغير ذلك.
وتمثل الرحلات التي يقوم بها أبطال الحكايات صورة أخرى من صور الغرائبية في الكتاب، ذلك أنهم يشاهدون في رحلاتهم جزرا وأراضي وبلادا غريبة، ويصادفون أشياء خارقة للواقع، لكنها تعبر عن خيال مدهش، هو الذي يجذب القراء إلى تلك الحكايات في المقام الأول مغامرات. ومن الحكايات التي تمتلئ بتلك الأشياء الخيالية العجيبة «حكاية حاسب كريم الدين». وقد جمعت هذه الحكاية جميع عناصر الخوارق والغرائب، تبدأ القصة بدانيال الذي يترك لابنه حاسب أوراق حكمة سرية قبل موته، ثم يعمل حاسب مع جماعة من الحطابين، ويكتشف كهفا مليئا بالعسل، ويعمل زملاؤه في نقل العسل إلى المدينة بينما هو يحرس الكهف أياما عدة، وفي النهاية يغلقون عليه الكهف كيما يتخلصوا منه. وينجح حاسب في الخروج إلى واد به بحيرة وتل عليه تخت مرصع بالجواهر واللؤلؤ. وينام حاسب هناك وحين يصحو يجد المكان عامرا بالحيات، تقودهم ملكة ضخمة الحجم، تكلم حاسب وتحكي له قصتها، التي تبدأ بذكر بلوقيا الذي خرج من بلاده سعيا وراء ملاقاة نبي الإسلام عند مبعثه، ويزور في سفرته عدة جزر يرى فيها الكثير من الغرائب، إلى أن يصل إلى الجزيرة التي بها ملكة الحيات تلك، وبعدها يتوجه إلى بيت المقدس حيث يصادف أحد الحكماء ويدعى عفان، وهو عليم بأسرار الملك سليمان، ويبحث عن أعشاب الخلود كيما يبقى حيا عند مبعث نبي الإسلام. ويذهب بلوقيا وعفان إلى ملكة الحيات كيما تدلهما على تلك الأعشاب، ويأسرانها ويطوفان معها على الأعشاب المختلفة، حيث ينطق كل عشب بخواصه، فيأخذان أعشاب المشي فوق المياه، ويفوتهما أخذ أعشاب الخلود! وحين يصلان إلى عرش الملك سليمان، يحاول عفان أن يحصل على الخاتم فيحترق ويصبح كوما من الرماد. ويعاود بلوقيا ترحاله عبر عدد من الجزر التي يرى فيها العجائب، ومنها النص التالي: «أقبل على جزيرة صغيرة أرضها وجبالها مثل البلور، وفيها عروق الذهب وفيها أشجار غريبة لم ير مثلها، أزهارها كلون الذهب. فطلع إلى الجزيرة وساح فيها حتى المساء، فصارت أزهار الأشجار مضيئة فتعجب لذلك أشد العجب ثم نام حتى الصباح، وعند طلوع الشمس دهن قدميه ونزل البحر السادس وسار فيه حتى أقبل على جزيرة، طلع عليها فرأى جبلين وعليهما أشجار كثيرة وثمارها كرءوس الآدميين وهي معلقة من شعورهم. ورأى أشجارا أخرى ثمارها طيور خضراء معلقة من أرجلها، وأشجار تتوقد مثل النار ولها فواكه مثل الصبر، وكل من سقطت عليه نقطة من تلك الفواكه احترق بها. ورأى فواكه تبكي وأخرى تضحك، وسار حتى رأى شجرة عظيمة فجلس تحتها إلى العشاء وعندئذ طلع فوق الشجرة، فبينما هو على حاله إذا بالبحر قد اختبط وطلع منه بنات البحر وفي يد كل منهن جوهرة تضيء، وسرن حتى أتين تحت الشجرة وجلسن وتسامرن وبلوقيا يتفرج عليهن حتى الصباح فنزلن إلى البحر ...»
هذه صورة من صور العجائب التي يزخر بها كتاب ألف ليلة وليلة، التي أخذت بمجامع قلوب الأوروبيين حين قرءوها فوجدوا فيها خيالا لم يعهدوه من قبل في أي من كتاباتهم. ولا غرو، فمن يقرأ الوصف السابق عن الجزر التي زارها بلوقيا وما رآه فيها، يدرك على الفور الطبيعة الفريدة للعجائب والغرائب التي أتت بها هذه الحكايات وعرضتها أمام القارئ المتلهف على التطواف مع تلك الأخيلة الخارقة للطبيعة.
وقد احتوت تلك الحكاية على روايات عن الكون وغرائبه، وعن خلق الجان والفرق بينهم وبين الشياطين، حين يحكي الملك صخر - أحد ملوك الجان ممن يلتقيه بلوقيا في سعيه - عنها فيقول: «يا بلوقيا، إن الله تعالى خلق النار سبع طبقات بعضها فوق بعض، وبين كل طبقة وطبقة مسيرة ألف عام. وجعل اسم الطبقة الأولى جهنم، وأعدها لعصاة المؤمنين الذين يموتون من غير توبة. واسم الطبقة الثانية لظى، وأعدها للكفار. واسم الطبقة الثالثة الجحيم، وأعدها ليأجوج ومأجوج. واسم الرابعة السعير، وأعدها لقوم إبليس. واسم الخامسة سقر، وأعدها لتارك الصلاة. واسم السادسة الحطمة، وأعدها لليهود والنصارى. واسم السابعة الهاوية، وأعدها للمنافقين. فهذه السبع طبقات. فقال له بلوقيا: لعل جهنم أهون عذابا من الجميع لأنها من الطبقة الفوقانية. فقال الملك صخر: نعم. أهون الجميع عذابا ومع ذلك فيها ألف جبل من النار، وفي كل جبل سبعون ألف واد من النار، وفي كل واد سبعون ألف مدينة من النار، وفي كل مدينة سبعون ألف قلعة من النار، وفي كل قلعة سبعون ألف بيت من النار، وفي كل بيت سبعون ألف تخت من النار، وفي كل تخت سبعون ألف نوع من العذاب. وما في جميع طبقات النار يا بلوقيا أهون عذابا من عذابها لأنها هي الطبقة الأولى، وأما الباقى فلا يعلم عدد ما فيه من أنواع العذاب إلا الله تعالى .. وأما نحن فقد خلقنا الله تعالى من النار وأول ما خلق الله المخلوقات في جهنم خلق شخصين من جنوده: أحدهما اسمه خليت والآخر اسمه مليت. وجعل خليت على صورة أسد ومليت على صورة ذئب. وكان ذنب مليت على صورة الأنثى ولونها أبلق، وذنب خليت على صورة ذكر وهو في هيئة حية. وذنب مليت في هيئة سلحفاة وطول ذنب خليت مسيرة عشرين سنة. ثم أمر الله تعالى ذنبيهما أن يجتمعا مع بعضهما فتوالد منهما حيات وعقارب ومسكنها في النار ليعذب الله بها من يدخلها. ثم إن تلك الحيات والعقارب تناسلت وتكاثرت. ثم بعد ذلك أمر الله تعالى ذنبي خليت ومليت أن يجتمعا ثاني مرة، فاجتمعا فحمل ذنب مليت من ذنب خليت. فلما وضعت ولدت سبعة ذكور وسبع إناث، فتربوا حتى كبروا. فلما كبروا تزوج الإناث بالذكور وأطاعوا والدهم إلا واحدا منهم عصى والده فصار دودة. وتلك الدودة هي إبليس لعنه الله تعالى. وكان من المقربين، فإنه عبد الله تعالى حتى ارتفع إلى السماء وتقرب من الرحمن وصار رئيس المقربين .. ولما خلق الله تعالى آدم عليه السلام أمر إبليس بالسجود له فامتنع من ذلك، فطرده الله تعالى ولعنه. فلما تناسل جاءت منه الشياطين. وأما السته الذكور الذين قبله فهم الجان المؤمنون ونحن من نسلهم وهذا أصلنا يا بلوقيا ...»
كذلك امتلأت حكايات السندباد البحري في رحلاته السبع بالعجائب والخوارق التي تخرج عن المألوف. ففي الرحلة الأولى، هناك الجزيرة التي استراح المسافرون عليها، فيكتشفون في النهاية أنها سمكة بحرية هائلة الحجم، تتحرك حين تشعر بهم فوق ظهرها. وفي السفرة الثانية، يظهر الرخ وبيضته، ويربط السندباد نفسه بقدم الرخ فيطير إلى وادي الألماس واليواقيت. وفي السفرات الأخرى، ثمة عجائب وغرائب، منها جبل القرود، والقوم الذين يدفنون القرين مع من يموت أولا من زوج وزوجة، وحكاية شيخ البحر العجيبة. ولقد كانت قصص السندباد البحري من أهم الحكايات التي اهتم بها القراء الغربيون ونشطت بها خيالاتهم على نحو فاق ما فعلته الإلياذة والأوديسة، رغم المشابهات بين الأوديسة وبعض حكايات السندباد.
ومن النقاد المشهورين الذين حللوا العنصر العجائبي في الرواية، «تريستان تودوروف» ناقد البنيوية المعروف. ففي كتابه المعنون «مقدمة إلى أدب الفانتاستيك» الصادر بباريس في عام 1970م، يحدد اصطلاح الفانتاستيك في القصص بأنه «التردد الذي يستشعره امرؤ لا يعرف سوى النواميس الطبيعية حين يواجه حدثا خارقا للطبيعة.» وهو يتناول بالتحليل في كتابه ذاك عدة مؤلفات تجلو نظريته، منها كتاب جاك كازوت «غراميات الشيطان» ورواية «مخطوط سرقسطة» وأعمال كافكا وبلزاك وإدجار ألان بو وجيرار دي نرفال، وعلى رأس كل هؤلاء ألف ليلة وليلة. وقد تناول بالتحليل التفصيلي حكايات السندباد البحري، وقمر الزمان، والصعلوكين الثاني والثالث، مع إشارات إلى قصص علي بابا وعلاء الدين والأمير أحمد، وكلها من الحكايات التي تتخللها الخوارق والأعاجيب، وتدخل في موضوع كتابه، الفانتاستيك. وهو يرى أن فعل الخوارق في القصص هو التدخل لإصلاح وضع يتبدى فيه عدم توازن من نوع ما في موقف متوازن، أو التدخل لكسر توازن من أجل تقديم حبكة قصصية؛ فالخوارق في الروايات تعمل على تقدم الحدث والحبكة وقيام القصة.
Bog aan la aqoon