Alf Layla Wa Layla Fi Adab
الرواية الأم: ألف ليلة وليلة في الآداب العالمية ودراسة في الأدب المقارن
Noocyada
بين يدي الكتاب
الجذور الأولى
البدايات
أثر ألف ليلة وليلة في الأدب الإنجليزي
أثر ألف ليلة وليلة في الأدب الأمريكي
الترجمات إلى اللغات الأوروبية الأخرى وأثرها
الحكايات الكاملة
القصة الإطار
القصة داخل القصة
الحب العذري الرومانسي
Bog aan la aqoon
الجنس والإيروسية
قصص الشطار والعيارين
الخوارق والعجائبية والواقعية السحرية
حكايات حيل النساء ومكرهن
قصص الخيال العلمي
الرواية البوليسية
لمحات فرويدية في ألف ليلة وليلة
الأحلام
موازنات ومقارنات
ومازال مسلسل ألف ليلة وليلة مستمرا
Bog aan la aqoon
المراجع المستخدمة في الكتاب
بين يدي الكتاب
الجذور الأولى
البدايات
أثر ألف ليلة وليلة في الأدب الإنجليزي
أثر ألف ليلة وليلة في الأدب الأمريكي
الترجمات إلى اللغات الأوروبية الأخرى وأثرها
الحكايات الكاملة
القصة الإطار
القصة داخل القصة
Bog aan la aqoon
الحب العذري الرومانسي
الجنس والإيروسية
قصص الشطار والعيارين
الخوارق والعجائبية والواقعية السحرية
حكايات حيل النساء ومكرهن
قصص الخيال العلمي
الرواية البوليسية
لمحات فرويدية في ألف ليلة وليلة
الأحلام
موازنات ومقارنات
Bog aan la aqoon
ومازال مسلسل ألف ليلة وليلة مستمرا
المراجع المستخدمة في الكتاب
الرواية الأم
الرواية الأم
ألف ليلة وليلة في الآداب العالمية ودراسة في الأدب المقارن
تأليف
ماهر البطوطي
كان يوما ما زلت أذكره من عام 1961م حين قررت على نحو قاطع أن أتخذ الكتابة والترجمة مهنة أساسية لي. كنت أدرس آخر سنة في قسم اللغة الإنجليزية بآداب القاهرة، وقد تشبعت بالمقررات الدراسية، خاصة في تلك السنة، وتأثرت برواية «جيمس جويس»؛ «صورة للفنان في شبابه»، التي قرر بطلها نذر نفسه للأدب والفن والجمال بكل أشكاله. كذلك درسنا «همنجواي» وحياته وأسلوبه الجديد في الكتابة. وكنت أتابع ما يصدر من كتب مهمة خارج مقررات الدراسة، فتأثرت بأدب «ألبير كامي» وفلسفته، وكتاب «اللامنتمي» الذي كتبه «كولن ولسون» وأصبح حديث الأدباء.
وكنت قد بدأت القراءة وجمع الكتب منذ كنت في العاشرة من عمري، فنشأت على كتب «توفيق الحكيم» و«طه حسين» و«نجيب محفوظ» و«يوسف السباعي» وشعر «أحمد شوقي». وبدأت أيضا في جمع الكتب والسلاسل الجميلة التي كانت تصدر في مصر في الخمسينيات، ومنها: «الهلال» و«كتاب الهلال» و «روايات الهلال»، و«اقرأ»، و«كتب للجميع»، وكتب ومطبوعات «كتابي» و«الكتاب الذهبي»، وغير ذلك.
وبعد التخرج في الجامعة، عرفت أن من يريد أن يتخذ الكتابة مهنة، فعليه إجادة لغته العربية إجادة تامة، وكذلك ألا يعتمد في معيشته على مكافآت الكتابة؛ فدرست القرآن الكريم وتدبرت آياته ولغته، وقرأت كتب النحو المتاحة، وما طالته يدي من كتب التراث العتيقة. ولم أبدأ الكتابة إلا بعد أن شغلت وظيفة مناسبة بوزارة التعليم العالي بالقاهرة، تترك لي وقتا كافيا بعدها للقراءة والكتابة. ولما كنت أريد الكتابة في النقد الأدبي، كانت أوائل مقالاتي نقدا وعرضا لما أحببته من الكتاب والأدباء. ثم جاءت الترجمة وأفسحت لها بعض الوقت أولا، ثم زحفت على معظم الوقت بعد ذلك. وكان أول كتبي المنشورة عن «إرنست همنجواي»، ثم رواية «جيمس جويس» التي أحببتها. وبدأت في دراسة اللغتين الإسبانية والفرنسية قبل أن تنتدبني الوزارة للعمل ملحقا ثقافيا في مدريد، حيث قضيت أكثر من أربع سنوات.
Bog aan la aqoon
وبعد عودتي من إسبانيا، قضيت أربع سنوات أخرى بالقاهرة أزود المجلات في القاهرة وبيروت بمقالاتي المؤلفة والمترجمة، قبل أن أتوجه إلى نيويورك للعمل مترجما ثم محررا بالأمانة العامة للأمم المتحدة. وقد عكفت على الكتابة والترجمة عن الأدب المكتوب بالإسبانية من شعر ورواية ومسرحية، حتى أساهم في تشييد جسر ثقافي للقراء العرب إلى تلك الثقافة الثرية. ولكن لم أنس اللغات الأخرى، فترجمت لشاعر الشعب الأمريكي «والت ويتمان» وبعض آثار اللغة الفرنسية، وزاد إنتاجي بعد التقاعد من العمل حتى قاربت أعمالي ثلاثين كتابا.
ولما كانت الكتب الورقية، رغم أهميتها، تذوي وتغيب حروفها بفعل الزمن، فقد رحبت بقيام مؤسسة «هنداوي» بوضع كتبي رقمية على النت لتكون متاحة لمن يريد قراءتها، والمؤسسة بذلك تضطلع بعمل مهم في نشر الثقافة وإتاحتها وحفظها على مر السنين.
بين يدي الكتاب
موضوعات هذا الكتاب هي بحكم الضرورة انتقائية، فعالم ألف ليلة وليلة رحيب رحابة لياليها الألف والواحدة، وكل موضوع عنها يمكن أن يستغرق كتابا بحاله، ويمكن أن يتفرع إلى عدد من الموضوعات الأخرى، كما تتفرع قصصها الإطارية إلى قصص داخلية على نحو مستمر.
وقد تركز جهدي في تلك الأبحاث في عملية تجميع وتوفيق بين أبحاث وكتب عديدة تناولت هذا الموضوع العريض. كما قمت بعرض آراء الباحثين الذين كتبوا فيه في مختلف اللغات، واضعا كل رأي في مكانه الخاص به حسب الموضوعات التي قسمت إليها الكتاب، ولذلك فإن عملي في الكتاب أقرب إلى التصنيف والترجمة والترتيب، أكثر منه تأليفا، عدا بعض الآراء التي تختص بموضوعات محددة مثل علم النفس في حكايات ألف ليلة وليلة، والقصة البوليسية والخيال العلمي، وغيرها. وقد اعتمدت اعتمادا أساسيا على خمسة كتب أساسية هي: (1)
IN THE ENGLISH LITERATURE, ST. MARTIN’S PRESS, NEW YORK, 1988. (2)
ALICE E. LASATYER: SPAIN TO ENGLAND UNIVERSITY
(3)
E. L. RANELAGH: THE PAST WE SHARE, QUARTET BOOKS, 1979. (4)
ROBERT IRWIN, THE ARABIAN NIGHTS, A COMPANION,
Bog aan la aqoon
(5)
MIA I. GERHARDT: THE ART OF STORY-TELLING, A LITERARY STUDY OF THE THOUSAND AND ONE NIGHTS, LEIDEN, E. J. BRILL, 1963.
وقد عرضت أهم ما جاء في تلك الكتب مع الشرح والتعليق والموازنة، وكلي أمل أن تجري ترجمة هذه الكتب إلى اللغة العربية في القريب العاجل، حتى تكون متاحة بكامل ما فيها أمام القارئ العربي، كيما يدرك حجم الأثر الهائل الذي تركه ذلك الكتاب العربي في أعلام الأدب العالمي في كل زمان ومكان.
ويضاف إلى هذه الكتب الأساسية، عشرات من المراجع الأخرى التي رجعت إليها لتقطير بعض ما جاء فيها في مقالات وأفكار هذا الكتاب، كيما أقدمها في صورة سهلة مختصرة إلى القارئ العربي. وقد قرأت تلك المراجع في لغاتها الأساسية التي أعرفها - العربية والإنجليزية والفرنسية والإسبانية - أما الألمانية فقد اضطررت إلى قراءة كتبها مترجمة إلى إحدى تلك اللغات التي أقرأ بها، وقد تنبهت إلى أهمية اللغة الألمانية في دراسات الأدب واللغة المقارنين، إذ أسهم الباحثون الألمان بنصيب وافر في الدراسات المشرقية والعربية على نحو يجعل معرفة تلك اللغة ضرورة هامة.
ومن الأهمية بمكان التأكيد على أن الهدف الأساسي من هذه الأبحاث ليس هو تبيان ما اقتبسه الأوروبيون من حكايات ألف ليلة وليلة وغيرها من القصص العربي، بقدر ما هو ربط الموضوعات بعضها بالبعض الآخر، وإقامة موازنات ومقابلات بين تلك الأعمال الأوروبية ومثيلاتها في الكتاب العربي الشهير، كذلك فقد اتخذت من تلك الموازنات نقطة انطلاق للحديث عن مؤلفات وكتب أوروبية تدخل في نطاق موضوع البحث، بهدف إعطاء القارئ العربي فكرة أوسع وأشمل عن حدود الموضوع، وكيفية تناوله من جوانب مختلفة.
ولما كانت بعض حكايات ألف ليلة وليلة تزخر بشخصيات عديدة وبأحداث كثيرة بالغة التعقيد والتداخل، كان لزاما تناول تلك الحكايات أكثر من مرة، حسب فصول البحث، فهناك حكايات تدخل في نطاق مواضيع قصة الإطار، والقصة البوليسية، وقصص مكائد النساء، مثلا؛ ولذلك سيجد القارئ شيئا من التكرار في الحديث عن تلك القصص؛ إذ إنها تحتوي على عناصر لازمة للنقاش في الفصل الذي يتناوله البحث. وقد بذلت جهدي في تقليص هذا التكرار قدر الإمكان، ولكني أحرص هنا على الإشارة إليه، وأنه مقصود في حد ذاته لتأكيد بعض الأفكار الأساسية التي يهدف إليها هذا الكتاب.
وقد نبع اهتمامي بكتاب ألف ليلة وليلة منذ توفري على دراسة الفن الروائي بصفة عامة؛ إذ نحن نجد في الكتاب العربي كل أنواع القصة قديمها وحديثها، في صورة هي بدائية بطبيعة الحال؛ ففيه كل أنواع السرد، وكل أنواع الخيال، وكل أنواع الواقعية. فمن ناحية الأشكال السردية، فبالإضافة إلى ما ذكرناه عن القصة الإطار والقصة داخل القصة، هناك أيضا السرد المباشر والسرد غير المباشر وتيار الوعي (حكاية النائم اليقظان) ووجهات النظر والمؤلف المتطفل وامتزاج الأنواع الأدبية وتداخلات الزمان والمكان، وغيرها. وفي ألف ليلة أيضا من المواضيع ما جاء بكتابنا عن الرواية البوليسية ورواية الخيال العلمي، بيد أن فيها أيضا ما يمكن اعتباره إرهاصات رواية الأجيال والرواية التاريخية ورواية الرسائل والقصة السيكولوجية والقصة الإيروسية، وغير ذلك، وقد قمت منذ سنوات بترجمة كتاب «الفن الروائي» لديفيد لودج، وفيه خمسون فصلا تعالج الأوجه المختلفة للرواية والقصص، وفي الإمكان تطبيق كل هذه الفصول على حكايات ألف ليلة وليلة، ربما باستثناء الفصل المعنون «التليفون»، برغم إمكانية تطبيقه - بقليل من الخيال - على بعض أشكال الاتصال عن بعد بين بعض شخصيات ألف ليلة! وهذه الموضوعات مادة خصبة للبحث لكل من يهتم بهذا الموضوع من موضوعات الأدب المقارن والأدب الروائي.
وسوف أذكر هنا في سطور موجزة أمثلة ثلاثة تبين مدى ما كانت ألف ليلة وليلة - وما تزال - تتمتع به في الغرب من أهمية، أولها أنها كانت تدرج - في العصر الفيكتوري بإنجلترا - ضمن الكتب العشرة الأكثر انتشارا؛ وثانيها ما ذكره الباحث الرحالة البريطاني دوجلاس سلدن بعد رحلته إلى القاهرة في بداية القرن العشرين، من أن ألف ليلة وليلة بترجمة إدوارد لين هي العمل الكلاسيكي الأجنبي الأعظم بعد الكتاب المقدس؛ والثالث هو اختيار أهم دار لنشر كتب الاقتناء وهي «إيستون برس» الأمريكية ألف ليلة وليلة لإدراجها ضمن أهم مائة كتاب في العالم قاطبة.
وتبقى كلمة عرفان وامتنان لأصدقاء العمر الذين أمدوني بالمشورة والكتب والتشجيع: الأستاذ على كمال زغلول، الدكتور محمد عناني، المستشار أحمد السودة، الأستاذ محمد محمد عتريس، الدكتور ماهر شفيق فريد، فلهم كل شكر وتقدير.
ماهر حسن البطوطي
Bog aan la aqoon
نيويورك، 2005
الجذور الأولى
(1) آثار إسلامية في أوروبا المسيحية
تذكر الباحثة «أليس لاساتير» في كتابها الهام «من إسبانيا إلى إنجلترا» أن من الدلائل ذات المغزى العميق ما حدث عام 1827م في بريطانيا، حين قامت كنيسة إنجلترا بإخراج رفات القديس «كوذبرت» لنقله إلى مكان آخر، ففوجئ الجميع حين وجدوا أن رفات القديس ملفوف في رداء حريري مطرز بكلمات في لغة غير معروفة لديهم، واتضح بعد البحث أنها عبارة «لا إله إلا الله» منسوجة بأحرف عربية بالخط الكوفي المربع، ولم يتضح سر ذلك الرداء وصلته بقديس إنجليزي إلا عام 1931م، حين توفر الباحث «ف. بكلر» على تأصيل العلاقات بين المسلمين والغرب في كتابه «هارون الرشيد وشارل العظيم»، وقد شرح بكلر الأحداث التي بدأت عام 765م، حين أرسل ملك فرنسا «بيبين» بعثة إلى الخليفة العباسي وقتها في بغداد؛ مكثت ثلاث سنوات ثم عادت مصحوبة بجماعة من المسلمين حاملين الهدايا الثمينة والطرف العربية الشرقية، وقد حذا خليفة بيبين، شارلمان، حذو سلفه فأرسل وفدا من ثلاثة سفراء (منهم يهودي يقوم بمهام الترجمة) إلى هارون الرشيد عام 797م، أتبعه بوفدين آخرين عامي 802م و806م على التوالي، وكان هارون الرشيد يرد بإرسال وفوده وبعثاته وهداياه إلى فرنسا، وكان هناك تعاون مستمر بين ملوك فرنسا والخلفاء العباسيين وولاتهم في الأقطار العربية والإسلامية، فكان الفرنسيون يطلبون امتيازات وحماية للحجاج المسيحيين إلى القدس، والتحالف معهم ضد الإمبراطورية البيزنطية المنافسة، خاصة إبان فتنة «الأيقونات» التي قسمت العالم المسيحي وقتها؛ بينما كان الخلفاء العباسيون ينشدون عون الفرنجة في تنافسهم وصراعهم ضد الأمويين الذين تقلدوا سدة الحكم في إسبانيا الإسلامية على يد عبد الرحمن الداخل، وكان من بين الهدايا التي تبودلت بين الطرفين، والتي شملت الحيوانات الشرقية والعاج والسيوف والمشغولات الذهبية وأطقم الشطرنج، رداء حريري سابغ موشى بكتابات عربية زخرفية بخط عربي بديع. وبعد سقوط الإمبراطورية الكارولنجية في فرنسا عام 888م، تم توزيع تلك الطرف الشرقية فيما بين النبلاء الفرنسيين، وأرسل أحدهم - وهو الدوق «هيو» - الرداء الحريري العربي هدية إلى ملك إنجلترا أيامها، لأن الدوق كان يطمع في الزواج من أخت ذلك الملك، وقد أهدى الملك الإنجليزي الرداء - ضمن سبعة أردية أخرى - إلى دير «دورهام» حيث كان القديس كوذبرت مدفونا، وفي عام 1104م، أخرج رهبان الدير رفات القديس، كيما يثووه فيما وصف أيامها بأنه «رداء كنسي ملكي»، وكان هذا هو الرداء الذي ظهر عام 1827م، والذي اتضح أن كلماته هي الشطر الأول من عبارة التوحيد الإسلامية!
وتوجد في المتحف البريطاني الآن قطعة من النقود التي تم صكها عام 774م للملك «أوفا» المعاصر للملك شارلمان؛ وهي قطعة ذهبية كتب على وجهها باللاتينية «الملك أوفا»، وعلى ظهرها العبارة الإسلامية «لا إله إلا الله»، وكانت تلك العبارة العربية تستخدم كرمز فني جميل في كثير من الزخارف في بلدان عديدة، مثلها في ذلك مثل عبارة «لا غالب إلا الله» التي انتثرت في أبهاء قصر الحمراء الأندلسي الشهير وما زالت به حتى اليوم، وتذكر الباحثة لاساتير كذلك، أن الرسامين المشهورين «فرا أنجيليكو» و«فرا ليبو ليبي» قد استخدما أيضا نفس ذلك النوع من العبارات العربية كنوع من الزخارف الفنية - دون معرفة بمعناها أو مضمونها - في تزيين ثياب بعض الشخصيات التي رسماها، ومنها لوحة فرا ليبو المعنونة «تتويج العذراء» المعروضة الآن في متحف أوفيزي بفلورنسا.
وكل هذا دليل على مدى تغلغل الأثر العربي والإسلامي في الأوساط الغربية في العصور الوسطى نتيجة العلاقات المتبادلة بين العالم الإسلامي والعالم المسيحي، في وقت السلم ووقت الحرب على حد سواء. وقد أرجعت الباحثة ذاتها ندرة البحوث في ذلك الموضوع إلى عاملين رئيسين: صعوبة جمع الباحثين بين المعرفة المطلوبة باللغات الأوروبية القديمة: الإنجليزية القديمة والوسطى، والبروفنسالية القديمة، والفرنسية القديمة، والألمانية الوسطى والمتقدمة، ولاتينية القرون الوسطى، وبين المعرفة الجيدة باللغات العربية والفارسية والعبرية وغيرها من اللغات الشرقية التي تلزم للبحث في عناصر الأدب المقارن والتأثيرات المتبادلة. أما العامل الثاني فهو العصبية والنزعات القومية التي تتحيز لوجهات نظر معينة تنحو إلى رفض النظر إلى التراث القومي بوصفه متأثرا بعوامل شرقية، عربية أو إسلامية، خاصة إذا كان الأمر له صلة بالدين أو العقيدة، مثل الهجوم الذي واجهه البروفيسور هارديسون حين خرج بنظريته التي رفض فيها نسبة مسرحيات الآلام المسيحية في العصور الوسطى إلى حوارات السؤال والجواب في اللاهوت المسيحي، ثم تبلورها بعد ذلك خارج نطاق الكنيسة، وإنما أرجع نشوءها جزئيا إلى طقوس المستعربين في إسبانيا الإسلامية. وحين يزعم بعض الغلاة أن سبب تأخر إسبانيا عن ركب الحضارة الغربية بعد عصور النهضة يرجع إلى الوجود العربي فيها زهاء الثمانية قرون، فهم يتجاهلون النهضة الزاهرة التي شهدتها إسبانيا إبان الدولة العربية فيها، حين كانت مدن مثل طليطلة وقرطبة وغرناطة مراكز رئيسية للعلم والمعرفة والمدنية والحضارة، في الوقت الذي كانت مدن الغرب الرئيسية في حالة أشبه بالبداوة. ويرجع الباحثون الموضوعيون سبب عدم لحاق إسبانيا بركب التطور الحضاري الغربي إلى ما حدث بعد سقوط غرناطة وطرد العرب والمسلمين واليهود بعد ذلك من البلاد، وقيام محاكم التفتيش بحرق كل ما وجدته من كتب ومخطوطات عربية وإسلامية، مما أدى إلى هجرة وفرار آلاف من العلماء والأطباء والتجار والصناع والحرفيين، وهو الأمر الذي أثر على هذه المجالات الهامة من مجالات الحياة والتطور الحضاري.
وقد شهدت العصور الوسطى نشاطين حضاريين أساسيين في المراكز المسيحية في أوروبا، أولهما حركة الترجمة الواسعة التي جرت في إسبانيا وصقلية للمخطوطات العربية والإسلامية، وعلى رأسها مركز الترجمة في طليطلة؛ وثانيهما نشوء اللغات المحلية المتفرعة من اللاتينية والجرمانية في بلدان أوروبا.
وقد أقام العرب والمسلمون في إسبانيا دولة مترامية الأطراف دامت زهاء الثمانية قرون، وامتدت دولتهم إلى قبرص ومالطة وكريت، وإلى عدة جزر إيطالية أهمها صقلية وسردينيا، ووصلت غزواتهم إلى وسط فرنسا وفي أجزاء من سويسرا الحالية. وقد بلغت اللغة العربية في زمن ازدهار الحضارة العربية شأوا أصبحت معه هي اللغة العلمية والثقافية العالمية، وأصبح طلاب العلم يتعلمونها ويبرعون فيها، بوصفها لغة دولية
LINGUA FRANCA ، وغدا تعلمها واستخدامها دليلا على الثقافة والرقي.
ولم يقتصر التأثير العربي على الوجود الإسلامي العربي في تلك البلاد، بل تواجد عن طرق أخرى منها الحروب الصليبية التي كان لها أوجه أخرى غير الصراع الحربي والاستيطاني، هو التفاعل الذي قام بين الأفراد والجماعات التي احتكت ببعضها وامتزجت إبان الوجود الأوروبي آنذاك في البلاد التي طاولتها الغزوات الصليبية، وما عاد به هؤلاء الأفراد والجماعات من ذكريات وحضارة وقصص وأشعار وأساطير عرفوها من أهل البلاد التي أقاموا فيها. (2) الدولة العربية في إسبانيا
Bog aan la aqoon
دخلت إسبانيا تحت الحكم العربي منذ عام 711م والذي استمر حتى عام 1492م لفترة تقارب الثمانية قرون، وقد بسط العرب سيطرتهم على معظم الجزيرة الأيبيرية، وتغلغلوا في جنوب فرنسا وبعض المدن التي تقع في سويسرا الحالية، كما أنهم حكموا أيضا لفترات طويلة جزائر إيطالية أهمها صقلية وسردينيا، بالإضافة إلى جزر قبرص ومالطة وكريت، بيد أن الحكم العربي انحصر في القرنين الأخيرين في مملكة غرناطة في الجنوب الإسباني.
وينقسم التاريخ العربي الإسلامي في إسبانيا إلى ستة عصور: (1)
التبعية لولاة أفريقيا الشمالية (711-756م). (2)
إمارة مستقلة ثم خلافة للأسرة الأموية، مركزها قرطبة (756-1030م). (3)
عصر ملوك الطوائف (1030-1090م). (4)
المرابطون (1090-1146م). (5)
الموحدون (1127-1248م). (6)
مملكة غرناطة (1230-1492م).
وقد بلغت الحضارة الإسلامية الأندلسية أوجها تحت حكم الأمويين، حين أسس عبد الرحمن الأول «الداخل» إمارته هناك بعد فراره من المذبحة التي قام بها العباسيون بعد اعتلائهم سدة الحكم ضد سلالة أمراء بني أمية، ونقلهم عاصمة الخلافة من دمشق إلى بغداد. وفي عهد عبد الرحمن الثاني، صدت إسبانيا بنجاح محاولة الفايكنج لغزو البلاد، وكانت هي المنطقة الوحيدة في الغرب الأوروبي التي نجحت في صد غزو الفايكنج. وفي عهد ذلك العاهل، بلغت قرطبة شأوا عاليا من التقدم الثقافي والحضاري تبدى في الموسيقى والشعر والقصص، إلى جانب آداب البلاط وطرز الأزياء، وكلها أثرت في الدول المجاورة لإسبانيا. أما عبد الرحمن الثالث فقد أعلن إسبانيا خلافة مستقلة عن الخلافة العباسية في بغداد واتخذ لقب خليفة عام 921م، وجعل من عاصمته قرطبة أعظم مدينة في أوروبا كلها بوصفها مركزا للعلم والحضارة والفنون. ولمعت في عهده أسماء مثل ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد الذي اهتم بالشعر العربي في إسبانيا الذي تطور على نحو يختلف عن الشعر العربي الكلاسيكي الذي كان يكتب في المشرق العربي. وهناك أيضا «ابن مسرة»، الصوفي الزاهد، وكان أول أندلسي يرحل إلى المشرق - سوريا والعراق - للدرس والتحصيل. وقد أرسى سابقة لعدد كبير من المفكرين الأندلسيين، الذين عاد معظمهم إلى إسبانيا وبحوزتهم مجموعات كبيرة من المخطوطات اليونانية والعربية والفارسية في مختلف العلوم والتخصصات.
وفي عصر الحكم الثاني (961-976م)، كانت مكتبته تضم 400 ألف مجلد، وكان هو الذي رعى كتاب أبي الفرج الأصبهاني الشهير «الأغاني» الذي كان يكتبه في بغداد؛ ذلك أن الحكم كان يريد الحصول على «النسخة الأولى» من الكتاب المخطوط. وبعد ذلك بقليل، جلب «مسلمة المغريطي» إلى الأندلس أعمال الخوارزمي الحسابية والرياضية، ورسائل إخوان الصفاء، وهي الأعمال التي قدر لها أن تقوم بأبلغ الأثر في العلوم بسائر أنواعها، وفي النزعة الصوفية في إسبانيا، ومنها انتقلت إلى بلدان أوروبا المجاورة. وحتى في عصر ملوك الطوائف، نبغ هناك العديد من الشخصيات العلمية والثقافية على رأسهم ابن حزم (994-1064م) الفقيه والعالم الأديب صاحب أهم كتاب في الديانات المقارنة «الملل والنحل»، ومؤلف «طوق الحمامة» الذي كان له أثره العميق في تطور صيغ الحب العذري (الغزلي) وانتشاره في أوساط التروبادور في بروفانس، الذين تأثر شعرهم أيضا بالموشحة والزجل في الأندلس العربي. وظهر أيضا الشاعر ابن زيدون والأميرة ولادة بنت المستكفي. وفيه أيضا اشتهر ابن جبيرول (1021-1070م) الذي ترك أثرا واضحا في الحركة الاسكولائية في العصور الوسطى بكتابه
Bog aan la aqoon
FONS VITAE «نبع الحياة» مترجما عن اللغة العربية إلى اللاتينية والذي كان ذائعا وسط الدارسين في القرنين الثاني عشر والثالث عشر. ورغم أنه كان يهودي الديانة، فقد كان عربي الثقافة، وكان يكتب بسهولة باللغتين اللاتينية والعربية لدرجة أن أحدا لم يكتشف أن مؤلف ذلك الكتاب، الذي كان معروفا باللاتينية تحت اسم
AVICEBRON
هو ذاته ابن جبيرول إلا عام 1846م، بعد أن كان يظن أنه كاتب عربي مسلم. والحقيقة أن ذلك لا يغير من الأمر شيئا؛ فاللغة هي الأساس الثقافي الذي يبين في كتابات المرء، بغض النظر عن الديانة أو القومية.
وفي عصر إسبانيا المغاربية، وهو الاسم الذي يطلقه المؤرخون على عصور المرابطين والموحدين في إسبانيا، شهدت البلاد تقدما في حركة الاسترداد المسيحي، وواكب ذلك تسارع بالجملة في ترجمة الكتب العربية إلى اللاتينية. وفي عصر المرابطين (1090-1146م)، نبغ ابن باجة في مؤلفاته التي ناقش فيها أفلاطون وأرسطو، وترجمت مؤلفاته إلى اللاتينية وأصبحت مادة للدرس في أوروبا الغربية، جنبا إلى جنب مع كتابه «تدبير المتوحد» الذي انتقد فيه مادية عصره وفساده. وفي الأدب، ألف ابن قزمان أزجاله التي ابتدع نمطها وخالف بها النمط الشعري السائد في المشرق العربي وقتها، وتناقلها الناس في الأندلس حتى وصلت إلى التروبادوريين. ونبغ في القصص الفلسفي ابن طفيل، الذي كتب «حي بن يقظان» التي صور فيها إمكانية التوصل إلى العقيدة الإلهية والتجلي الصوفي من داخل النفس على نحو طبيعي. وتذكر «لاساتر» أن مخطوطة عربية لهذا الكتاب اكتشفت في المغرب بعد كتابته بخمسة قرون وانتقلت إلى انجلترا حيث ترجمه إلى اللاتينية إدوارد بوكوك عام 1671م. وقد صدرت ثلاث ترجمات للكتاب إلى الإنجليزية في الأعوام 1674م و1686م و1708م. وقد رحب أتباع مذهب الكويكرز بالكتاب إذ رأوا فيه تأكيدا لمذهبهم في عقيدة النور الداخلي؛ كما أن قصة الشاب الذي يعيش مستقلا في جزيرة مهجورة ويزدهر فيها، قد ألهمت دانييل ديفو - ضمن أعمال أخرى - روايته روبنسون كروزو التي كتبها بعد عشرة أعوام فقط من صدور الترجمة الإنجليزية الأخيرة لحي بن يقظان.
وفي عصر الموحدين، ألف ابن رشد كتبه في التوفيق بين الفلسفة اليونانية والعقائد الإيمانية، مما ضمن لها انتشارا واسعا في العالم الغربي، وأثرت في أفكار توماس الأقويني الذي سار على نفس نهج الفيلسوف العربي. وتعلم الدارسون الأوروبيون من المجادلات الفلسفية والصوفية التي نشأت بين ابن رشد والغزالي. كما كانت كتب الغزالي معروفة لدى الأوروبيين، وأثرت مؤلفاته عن التصوف - جنبا إلى جنب مع الصوفي الأندلسي الأشهر ابن عربي - في متصوفة المسيحية الكبار. وفي مجال الشعر، جمع ابن سعيد الأندلسي مختارات ثمينة من أعمال شعراء عصره ساعدت في تتبع موضوعات الشعر العربي الأندلسي منذ نشأته.
ومع تسارع حركة الاسترداد الإسباني، اكتشف العالم اللاتيني ثروة المخطوطات العربية التي وجدت في المدن المفتوحة وشرعوا في ترجمتها، خاصة في طليطلة، ثم في مرسية وإشبيلية. فبعد أن استولى ألفونسو السادس على طليطلة عام 1085م أصبحت مركزا أساسيا لترجمة الكتب والوثائق العربية إلى اللاتينية، كما تحولت في الوقت نفسه إلى عاصمة للعلم والثقافة يؤمها الدارسون من إيطاليا والإمبراطورية الرومانية المقدسة وفرنسا وإنجلترا. وبعد سقوط قرطبة وإشبيلية في يد فرناندو الثالث في 1236م و1248م، على التوالي، انحصر الحكم الإسلامي العربي في مملكة غرناطة في الجنوب، واستمرت قائمة لمدة قرنين ونصف من الزمان.
وتشبه حركة الترجمة الواسعة النطاق التي بدأت في إسبانيا وصقلية في القرن الثاني عشر، حركة الترجمة التي نشأت في بغداد في منتصف القرن التاسع في عهد الخليفة المأمون في «بيت الحكمة». وفي حين كان الهدف من الحركة البغدادية هو ترجمة الكتب اليونانية والفارسية والهندية إلى العربية والتعليق عليها والزيادة فيها، هدفت مدرسة طليطلة إلى ترجمة تلك الكتب العربية إلى اللاتينية. وكما استعان العرب أحيانا بالتراجمة الوسطاء، أي بالمسيحيين النسطوريين لترجمة اللغة الإغريقية إلى السريانية ومنها إلى العربية، استعان الإسبان في بعض الأحيان باليهود الذين كانوا يقيمون بين ظهراني العرب والمسلمين لترجمة المؤلفات العربية إلى اللغة الرومانسية المحكية (وهي التي أصبحت اللغة الإسبانية بعد ذلك)، ومنها إلى اللاتينية.
ومن بين المترجمين الذين عملوا بنشاط في شمال إسبانيا، يبرز روبرت الكيتوني، نسبة إلى مدينة كيتون، وهو إنجليزي عاش حوالي الأعوام 1110-1160م. وكان مركز اهتمامه علوم الكيمياء والجبر التي ترجم فيها الكثير من المؤلفات. وفي عام 1143م، كلفه بطرس الوقور، رئيس دير كلوني المشهور، بترجمة القرآن من العربية إلى اللاتينية، بالاشتراك مع هرمان الدلماسي. وتعتبر هذه الترجمة أول نقل للقرآن الكريم إلى لغة أوروبية، وتبرهن على أن الترجمة من العربية لم تقتصر على العلوم الأساسية كالهندسة والطب والفلك والنباتات وغيرها، بل شملت العلوم الفقهية والأدبية أيضا. وتدل ترجمة القرآن منذ تلك الفترة المبكرة على المصدر الذي تسللت منه الموضوعات والقصص الإسلامية إلى أوروبا ومنها إنجلترا، نظرا إلى جنسية المترجم. ومن المترجمين المشهورين الآخرين في علوم الفلك والنجوم يوحنا الإشبيلي، وهو يهودي متنصر عمل في طليطلة وإشبيلية، وقدم علماء الفلك المسلمين إلى العالم اللاتيني، ومنه استقى دانتي أسماء هؤلاء - ومنهم الفرغاني - في ملحمته الكوميديا الإلهية.
وقد أدت ثروة المعلومات التي نتجت عن ترجمة العلوم والآداب العربية في أقطار العالم الأوروبي - سواء باللاتينية أو اللغات المحلية التي كانت قد بدأت في التفرع منها - إلى نشوء ما أصبح يطلق عليه «نهضة القرن الثاني عشر». وقد أدت تلك النهضة إلى الإسراع في نشوء الجامعات الأوروبية في باريس ومونبلييه وسالرنو وبولونيا، وأبرزت المفكرين الاسكولائيين مثل ألبرتوس ماجنوس وتوماس الأقويني، الذين كانوا يوفقون بين الفكر والفلسفة اليونانية والتجريب العلمي وبين اللاهوت المسيحي. وقد لعب دير كلوني، الذي أشرنا إليه قبلا، دورا كبيرا في نشر الثقافة والعلم. فبالإضافة إلى ترجمة القرآن والآثار النبوية الإسلامية، بهدف التعريف بها والرد عليها، أشرف الدير على حركة الحج إلى ضريح القديس سنتياجو في بلدة كومبوستيلا في شمال إسبانيا، وهو القديس الذي يفترض أنه قد أدخل المسيحية إلى إسبانيا. وقامت في نفس الفترة رواية أخرى حول ضريح جوزيف الأريماثي (الرامي) الذي يفترض أنه وفد إلى إنجلترا مع الكأس والحربة المقدسين وأدخل المسيحية إلى إنجلترا، وله ضريح يزوره الحجاج في «جلاستونبيري آبى». وفي فترة من الفترات التاريخية الأولى، اختلطت شخصية القديس سنتياجو (جيمس) بجيمس أخي المسيح وأول رئيس لكنيسة أورشليم، مما ألهب حركة الحجيج إلى ضريحه من كل أنحاء العالم المسيحي، وجعلهم يتعرفون على إسبانيا وثقافتها وينقلون ما سمعوه وعرفوه إلى بلادهم بعد عودتهم.
وقد نشأ شعراء التروبادور في تلك الفترة في جنوب فرنسا، وتميز شعرهم بالقافية وبنمط الشعر العذري أو ما يسمى شعر البلاط (وسأسميه مؤقتا الشعر الغزلي)، وهما ظاهرتان كانتا معروفتين منذ زمن في إسبانيا العربية. وكان التروبادور على صلة وثيقة بإسبانيا وتياراتها الثقافية، فقد كان الجنوب الفرنسي في أوقات عديدة جزءا من الشمال الإسباني، وكانت ثمة صلات سياسية - بل وصلات مصاهرة - وثيقة تربط نبلاء بواتييه وتولوز وبورغندي بنبلاء أراغون وقشتالة وقطلونية. وكانت بروفانس نفسها تتبع مملكة أراغون في كثير من الأحيان، إلى أن ضمتها فرنسا إليها نهائيا بعد الحملة الصليبية ضد الألبيجنسيين، وحينها لجأ الكثير من شعراء التروبادور إلى إسبانيا هربا من الاضطهاد. بيد أن أهم الروابط بين التروبادور وإسبانيا هي الروابط اللغوية، فاللغة التي كانوا يستخدمونها في أشعارهم وأغانيهم، البروفانسالية، مرتبطة باللغة القطلونية المستخدمة في شرق إسبانيا. ويرتكز إنكار بعض الباحثين للأثر العربي والإسلامي في الآداب الأوروبية في العصور الوسطى إلى فكرة عدم وجود صلات وروابط فكرية وثقافية بين المسلمين والمسيحيين في ذلك الوقت، وهي فكرة يكفي للدلالة على خطئها النظر إلى كمية الكلمات العربية التي دخلت اللغة الإسبانية ومنها إلى لغات أوروبية أخرى.
Bog aan la aqoon
ففي إسبانيا العربية، تواجدت أربع لغات عاشت جنبا إلى جنب: العربية الفصحى ويستخدمها أهل الأدب والعلوم؛ والعربية الجارية التي تستخدم في الإدارة والمعاملات الحكومية والتجارية؛ واللاتينية التي يستخدمها رجال الكنيسة؛ والرومانسية التي يستخدمها عامة الناس. وحتى القرن الثالث عشر، كانت اللغة الرومانسية تنقسم هي الأخرى إلى لهجات أربع: القشتالية في وسط إسبانيا، والقطلونية في شرقها، والجليقية في الشمال الغربي، والبرتغالية في الغرب. وكان المسيحيون الإسبان متأثرين باللغة العربية وآدابها خاصة الشعر منذ أقدم العصور ، ودليل ذلك المقولة الشهيرة لكاتب مسيحي يدعى ألفارو تناقلتها الكتب منذ عام 854م والتي يقول فيها: «إن شبابنا المسيحيين، برغم تكلفهم اللطف والكياسة وحسن البيان وطلاقة اللسان، إنما كانوا يسترعون الأنظار بحسن هندامهم وحسن تصرفهم فيما يعرض من الأمور، وبما عرف عنهم من حسن الأدب ودماثة الخلق، وبتشبعهم بالبلاغة العربية، نراهم يتناولون كتب الكلدانيين (يعني المسلمين) منهم، ويطالعونها بلهف ويناقشونها في حماسة وغيرة، ويشيدون بذكرها، ويمتدحونها بكل ضروب التنميق في اللفظ وحسن البيان، على حين أنهم لا يفقهون شيئا من جمال الأدب الكنسي، ويحتقرون جداول الكنيسة التي تنساب إليها من الجنة. وا أسفاه! لقد جهل المسيحيون نظم شريعتهم، وأصبحت الأمم اللاتينية لا تعير لغتها اهتماما، حتى لا تكاد تجد في جماعة المسيحيين كافة رجلا من كل ألف رجل يستطيع أن يستفسر عن صحة صديق بعبارات واضحة جلية، وأنت واجد بين جمهرة السوقة والعامة أشخاصا لا يحصى عددهم، يحيطون إحاطة تامة بالعبارات الفصيحة التي خلفتها اللغة العربية في عصورها الذهبية، حتى لقد استطاعوا أن ينظموا القصائد المقفاة - تلك القصائد التي يتجلى فيها أسمى مراتب الجمال، بل كان بعضهم أمهر من العرب أنفسهم في قرض الشعر.» (عن كتاب توماس آرنولد «الدعوة إلى الإسلام» ترجمة الدكتور حسن إبراهيم حسن والدكتور عبد المجيد عابدين والأستاذ إسماعيل النحراوي).
ومنذ بداية القرن التاسع، أصبح المسيحيون في إسبانيا ممن ينتهجون الطرق العربية في الحياة والثقافة يسمون بالمستعربين
MOZARABES ، من لفظة مستعرب أي الذي يتمثل اللغة والعادات العربية. وقد نشأ نوع من الأدب الهجين يسمى الأدب العجمي
ALJAMIADO ، تستخدم فيه لغة رومانسية مكتوبة بأحرف عربية. وقد تم في أوائل القرن العشرين العثور على مجموعة من المخطوطات مكتوبة بتلك الطريقة مخبوءة في أرضية بيت قديم في أراغون درءا لأعين رجال محاكم التفتيش. ومن أمثلة الأدب العجمي كتاب يسمى «قصيدة يوسف»، لغته هي الرومانسية التي كانت مستخدمة في أراغون، ومكتوب بحروف عربية. والقصة مستمدة من القرآن الكريم ومن كتب قصص الأنبياء العربية.
وفي عصر مملكة غرناطة نبغ اثنان من المستعربين الإسبان تركا أثرا بالغا في الأدب الإسباني المقارن، أولهما القس الدومينيكي «رايموند مارتين» الذي كان يتقن العربية والعبرية وكتب مؤلفات في الأخرويات تنبئ عن تأثره بالكتابات العربية في ذلك الموضوع. والثاني هو العالم المشهور «رايموند لول» (1233-1315م) الذي كان يكتب بالعربية والقطلونية في موضوعات الصوفية والأخرويات، وله كتاب عن الحب العذري وآخر عن الفروسية، وكلها من الموضوعات التي كتب فيها العرب في إسبانيا. وكتابه عن الفروسية وطبقاتها موجود بالقطلانية والفرنسية القديمة والإنجليزية الوسطى والاسكتلندية، مما يدل على المدى الذي بلغته تلك المخطوطات في الوصول إلى جميع أنحاء العالم الأوروبي آنذاك وتأثره بها.
ويرجع إلى ذلك العصر ظهور لسان الدين ابن الخطيب الذي أرخ لغرناطة وتاريخها وآدابها، كما أنه كتب مقامات يتخللها الكثير من الأشعار، ويشتهر بجمعه عددا من الموشحات والأزجال الإسبانية الأولى التي كتبت باللغات العربية والعبرية والرومانسية. وقد ظهرت في ذلك العصر أوائل المؤلفات المشهورة في الأدب الإسباني ذات المسحة العربية الخالصة مثل كتاب الكونت لوقانور وكتاب الحب المحمود، واللذين سنتناولهما لاحقا. وتقع فترة حكم ألفونسو العاشر هنا أيضا (حكم في قشتالة ما بين 1252-1284م)، ويسميه المؤرخون ألفونسو الحكيم، بسبب اهتمامه بالفلك والشعر، وإشرافه على ترجمة الكتب العربية وكتابة القوانين والتاريخ. ومن بين الكتب التي أمر بترجمتها، كتاب كليلة ودمنة، وكتاب حيل النساء ومكرهن. وقد ظهر أثر هذين الكتابين في كثير من المجموعات القصصية التي كتبت بعد ذلك باللاتينية وفي اللغات الأوروبية الأخرى الناشئة. ومن الكتب الهامة التي انتقلت عبر ترجمات ألفونسو إلى إنجلترا وفرنسا كتاب «الأزياج الألفونسية»، عن حركات الكواكب، وهو يقوم على كتب الخوارزمي والبطروجي والمغريطي في الفلك، وموجود في مخطوطات فرنسية وإنجليزية تعود إلى أوائل القرن الرابع عشر، مما جعلها في متناول العلماء الذين صاغوا بعد ذلك علم الفلك الحديث. ومن الكتب الهامة الأخرى كتاب «معراج محمد»، الذي يصف إسراء النبي
صلى الله عليه وسلم
ومعراجه في السماوات العلى، وقد عثر عليه في منتصف القرن العشرين في نسخ باللاتينية والقشتالية والفرنسية القديمة. ومن المقدمة، نعلم أنه قد ترجم إلى القشتالية من اللغة العربية مباشرة إبان حكم ألفونسو العاشر الحكيم في عام 1264م. والمخطوط ذاته مودع في المكتبة البودلية بإنجلترا، ولا يعرف سر انتقاله ووجوده هناك، إلا ما يظنه الباحثون من زواج أخت ألفونسو غير الشقيقة إليانور من الملك إدوارد الأول ملك إنجلترا!
أما أعمال ألفونسو الأصلية الشهيرة فهي «أهازيج سانتا ماريا» (الكانتيجات)، وهي حوالي أربعمائة قصيدة تضمها أربع مخطوطات بالموسيقى المصاحبة لها. وأشكال هذه الأنشودات مستمدة مباشرة من الأشكال الأولى للشعر العربي الأندلسي الذي كان شائعا في إسبانيا وقتها. (3) القصص
يقول الباحث «جون إستن كللر» إن الحكاية هي «أعظم إسهام شرقي مفرد في أدب الغرب.» فقد تكاثرت الحكايات القصصية في أشكال مختلفة في أوروبا الغربية فجأة بدءا من القرن الثاني عشر. وقد تم إدراج بعض هذه القصص في مجموعات، انطلقت معظمها من قصة إطارية، وانتشرت أولا عن طريق الرواية الشفوية، على لسان الحكائين والأدباء الدينيين والتجار والعائدين من الحملات الصليبية ومن طرق الحج إلى القدس وسنتياجو دي كومبوستيلا وغيرهما من المزارات الدينية الهامة. وكانت تلك القصص تحتوي على الدوام عنصرا شرقيا، هذا إذا لم تكن منقولة أصلا عن العربية أو الفارسية. ورغم اعتراف النقاد بأثر الحكايات الشرقية في الآداب الأوروبية، فإنهم يجادلون في الاعتراف بإسبانيا بوصفها المعبر الذي انتقلت منه تلك القصص والحكايات إلى دول أوروبا الأخرى كفرنسا وإنجلترا. ولكن الواقع يبين أن عرضا مقارنا لبعض الكتب المصدرية الأساسية للقصص في اللغات اللاتينية والفرنسية القديمة والإنجليزية الوسطى والإسبانية والعربية، يظهر بوضوح أن إسبانيا (ومن بعدها صقلية) كانت هي همزة الوصل في تدفق الحكايات العربية إلى أوروبا.
Bog aan la aqoon
قصص الأمثال
عرفت الأمثولات أو قصص الأمثال بوصفها أسلوبا وعظيا منذ باكورة العصور الوسطى، بيد أنها برزت إلى مكان الصدارة في الخطب الدينية في القرن الثالث عشر عن طريق مجموعتين من كتب الأمثولات، كتاب «المواعظ» الذي وضعه «جاك دي فيتري»، والآخر من وضع «إتيين دي بوربون»، وقد عاشا في منتصف القرن الثالث عشر. وتمتلئ مواعظ دي فيتري بالقصص والحكايات الأمثولية، المستمدة غالبا من مصادر شرقية. ويتضح مدى تأثير المصادر العربية في تلك الحكايات من واقع أن دي فيتري كان من كبار القساوسة الذين رافقوا الحملات الصليبية إلى القدس، وتولى مناصب كنسية في بلاد فلسطين، كما أنه رافق الحملة الصليبية التي بلغت دمياط، وأرسل تقريرا عنها إلى البابا. وقد دخل كثير من تلك الحكايات بعد ذلك في المجموعات القصصية التي جمعت في فترة لاحقة.
وقد انتشرت في ذلك الوقت أيضا أنواع أخرى من القصص، منها قصص الحيوان
BEAST FABLES ، والقصص الشعري الهازل
FABLIAUX ، والمقامات، والقصص الإطارية. وظهر ذلك في مجموعات أوروبية معروفة أشهرها ما يلي:
مرشد الحكماء
وهو كتاب ظهر عام 1110م باللاتينية بعنوان
DISCIPLINA CLERICALIS ، من تأليف طبيب وباحث إسباني يهودي هو الفقيه موسى السفاردي، الذي تنصر وحمل اسم بطرس ألفونس عام 1106م وهاجر من الأندلس إلى إنجلترا حيث بقي هناك حتى وفاته عام 1135م. وقد ساهم ألفونسو في إدخال علوم الفلك العربية إلى إنجلترا؛ بيد أن أثره الباقي يتمثل في كتابه ذاك الذي شاع في العصور الوسطى وأصبح من أهم الكتابات القصصية في أوروبا في القرون الوسطى. وقد وضع ألفونس الكتاب أولا باللغة العربية، ثم ترجمه إلى اللاتينية، ومنها انتقل إلى اللغات الأوروبية الأخرى. وتوجد حاليا 63 مخطوطة من الكتاب في نسخه الأولى.
ويبدأ الكتاب بنفس طريقة المؤلفات العربية؛ بحمد الله والثناء على أفضاله ونعمه، ثم يذكر كيف استقى موضوعات حكايات كتابه من الأقوال الحكيمة التي استمع إليها، ومن الأمثال والقصص والأشعار العربية، ومن حكايات الحيوان. ويقول إنه يسوق تلك الحكايات بغرض تهذيب النفس وكيما يستخدمها الحكماء ورجال الدين في مواعظهم، ومن هنا اسم الكتاب. ويضم الكتاب 34 قصة، وإن كانت هناك قصص تشتمل على أكثر من حكاية واحدة، كما أن البعض يجمعها قصة إطارية، عن أب ينصح ابنه، أو حكيم يعظ تلميذه. ومعظم الحكايات لها ما يقابلها في ألف ليلة وليلة، خاصة حكايات حيل النساء ومكرهن، وحكايات الحيوانات. والآثار العربية والإسلامية تبين في ثنايا الكتاب، من الأسماء إلى الإشارات، وقصص الأنبياء الذين وردوا في القرآن، بل وفيها كثير من الأحاديث والنصائح النبوية، مثل القول بأن يعمل الإنسان لآخرته كما لو أنه سيموت غدا ولدنياه كأنه يعيش أبدا.
وكان أثر هذا الكتاب عظيما وشاملا في القصص الأوروبي، فصدرت بعده مجموعات قصصية عديدة في اللاتينية وفي اللغات الأوروبية المحلية تنهل من نبعه، كما نهل منه أيضا بوكاتشيو وتشوسر كما سنرى بعد ذلك.
Bog aan la aqoon
حكماء روما السبعة
ترجع حبكة هذه القصة إلى زمن بعيد، وظهرت في آداب أمم شتى، بيد أنها لم تشتهر في الآداب الأوروبية الأولى إلا عن طريق نسختها العربية، ومن ضمنها ورودها في قصة شهيرة من قصص ألف ليلة وليلة. والحبكة تتخذ صورا متعددة، ولكنها تنحصر في حيل النساء لإغواء رجل يرغبن فيه، ثم التنصل من تلك الرغبة وإلصاقها بالرجل حين لا يستجيب ذلك الرجل لطلبهن. وظهر ذلك في قصة الأخوين الفرعونية، وكتاب السندباد (وهو غير قصة السندباد البحري المعروفة)، وكتاب خداع النساء، والسبعة وزراء، والحكماء السبعة، وجزء من توتي نامة الفارسية، ثم أساسا في ألف ليلة وليلة. وهي قد وردت في ألف ليلة في حكاية الملك وولده والجارية والوزراء السبعة، حيث تتهم الجارية ابن الملك ظلما بمحاولة إغوائها، والحقيقة هي العكس، بينما الابن في صوم إجباري عن الكلام لمدة معينة لا يستطيع دفاعا عن نفسه، فينبري حكماء الملك ووزرائه بإقناعه ببراءة ابنه عن طريق قص حكايات مكر النساء وحيلهن. وقد انتقلت تلك القصص إلى اللغات الأوروبية أكثر ما انتقلت عن طريق ترجمة إسبانية لمجموعة منها ظهرت باسم «مكايد النساء وحيلهن» وهو الكتاب الذي أمر الدوق «فدريك» أخو ألفونسو الحكيم بترجمته من العربية إلى الإسبانية عام 1253م.
وتجدر الإشارة أيضا إلى نشأة تلك الحبكة أيضا حول قصة النبي يوسف مع زليخة امرأة العزيز. وهي رغم ورودها في كتب العهد القديم، لم تبرز في الحكايات الشعبية إلا بعد تناولها في صورتها العربية، حيث ذكرت في القرآن الكريم، وفي كتب قصص الأنبياء، ثم صاغها الحكاة والمؤلفون العرب في صورة أدبية شيقة. وقد ظهرت في عدة صور في إسبانيا العربية، بل ويوجد نص لها مكتوب باللغة العجمية، أي الإسبانية الناشئة مسطرة بحروف عربية، لاستخدام الموريسكيين الذين بقوا في إسبانيا بعد انتهاء الحكم العربي بها. وقد حقق العلامة منندث بيدال ذلك النص وأصدره بتعليقات ودراسات ضافية هامة.
مرشد الحياة الإنسانية
وهو كتاب صدر باللاتينية بعنوان
DIRECTORIUM VITAE HUMANAE ، عبارة عن ترجمة عن العربية لكتاب «كليلة ودمنة». وقد صدر الكتاب العربي عام 750م، ونقله ابن المقفع عن الفارسية، ويقال إنه من تأليفه لا ترجمته. وهو يضم مجموعة من القصص والحكايات الخرافية على لسان الطيور والحيوانات، وتنتهي دوما بأمثلة ومواعظ أخلاقية ترشد الملوك والحكام - والإنسانية عامة - إلى طريق الحكمة والصواب في الحياة والتعامل مع الناس والأحداث. وكانت تلك القصص ذائعة على ألسنة الرواة في إسبانيا قبل صدورها في الكتاب المشار إليه عام 1251م. وكثير من تلك القصص وارد بشكل أو بآخر في ألف ليلة وليلة، مما سبب لها انتشارا أوسع بين أوساط المهتمين بالقصص ونقله إلى اللغات الأوروبية.
قصص روما
وهو من أشمل الكتب وأشهرها ويضم مجموعة كبيرة من الحكايات والأمثولات والحكم والمواعظ، تم تصنيفه باللاتينية وصدر في أواخر القرن الثالث عشر باسم
GESTA ROMANORUM . ورغم اسمه، فمحتوياته معظمها عربي، ألبست غطاء أوروبيا قروسطيا؛ لاستخدام النبلاء والسادة الإقطاعيين في ذلك العصر وتثقيفهم وتسليتهم في نفس الوقت. وتضم المجموعة قصصا كثيرة مما سبق ظهوره في الترجمات السابقة للكتب التي ذكرناها، وبالطبع فقد احتوت على الكثير مما ورد في كتاب ألف ليلة وليلة. ومن تلك الحكايات: الرجل الذي يقتل كلبه ظنا منه أنه قتل ابنه بينما هو دافع عنه، وقصة العجوز التي تتوسط بين حبيب والمرأة التي يعشقها باستخدام حيلة الكلبة التي تبدو وكأنها تبكي، وقصص عن خداع النساء لأزواجهن، وقصة الصديقين اللذين يقبلان التضحية بحياتهما في سبيل الصداقة، وغيرها من الحكايات الموجودة في ألف ليلة.
بيد أن أغرب ما في هذه المجموعة الفريدة، قصة مستلهمة من القصص القرآني، وهي تحكي عن عابد من الزهاد يرى من كهفه مالكا لقطيع من الأغنام يقتل الحارس ظلما ظنا منه أنه أهمل الحراسة، فيثور على ما اعتبره عدم عدالة من السماء، فيرسل اليه الله ملاكا في هيئة رجل، يصحبه فيرى منه أفعالا تخالف الظاهر؛ فهو يقتل من يبدون أبرياء ويكافئ من هو شرير. وفي النهاية يشرح الملاك للزاهد الحكمة الإلهية من وراء تلك الأفعال، وهو ما لا يمكن للإنسان بعقليته القاصرة أن يدرك ما وراءها. وهذه القصة هي بالطبع مأخوذه عن قصة موسى وفتاه والخضر، الواردة في سورة الكهف. وقد ترجم القرآن الكريم أول ما ترجم في إسبانيا، وكانت سوره وآياته معروفة فيها بطبيعة الحال. وقد تأثر الشاعر الإنجليزي المعروف ألكساندر بوب بهذه القصة الواردة في المجموعة، وكان يظن أنها من أصل إسباني.
Bog aan la aqoon
كتاب الحب المحمود
وهو بالقشتالية من تأليف كبير الأساقفة «خوان رويث» عام 1330م. والكتاب عبارة عن مجموعة من القصص السردي نثرا وشعرا، بعضه ديني وعظي وأكثره سخرية ومزاح. وقد حوى كل شيء، من الكلام العلمي، إلى أحاديث الحب وقصص الحيوانات والخرافات. والراوي يمر بكل التجارب، فهو آنا الفاشل في غرامياته، وأحيانا المحب الجسور، وطورا الضحية المكلوم. والمؤلف يشرح في مقدمة الكتاب الفرق بين الحب المحمود، الذي هو هبة من عند الله، والحب المجنون، وهو الحب الشهواني الدنيوي. وهو قد وضع الكتاب ليبين للقارئ شرور الحب الدنيوي، ولكنه يضيف أنه أيضا يبين له كيف يسلك طريقه في هذا الميدان، حيث إن معظم الناس ينغمسون في ذلك العالم الدنيوي!
ويشرع المؤلف في سرد أخبار غرامياته، التي بدأها في شبابه مع سيدة أترعته بقصص الحكايات والخرافات ولكنها رفضت حبه لها. ثم يرسل خوان رويث أحد أصدقائه للتوسط له لدى سيدة أحبها، فيحصل الصديق عليها لنفسه! وهكذا يفشل في حبه مع عدد من الفتيات، فيظهر له إله الحب في أحلامه ليشرح له سبب إخفاقه ويبين له كيف ينجح مع النساء، مضمنا شرحه الكثير من القصص والحكايات الخرافية. ويستعين البطل بخدمات عجوز تتوسط له لدى حبيبته الأرملة، ولكنه يخفق معها أيضا. ويسجل المؤلف بعد ذلك مغامراته مع أربع فتيات في جبال السييرا، ويمتلئ هذا الفصل بالأزجال الشعرية على النسق الأندلسي العربي. وبعد عودته إلى المدينة، يستأنف خوان رويث محاولاته في الحب والغرام، مع إحدى الراهبات التي لا تبغي سوى الحب الأفلاطوني، فيرغب عنها إلى إحدى العربيات، التي تتيح للمؤلف استخدام ما يعرف من اللغة العربية الدارجة التي يوردها في ذلك الجزء من مغامراته.
والكتاب مزيج من تأثيرات متعددة، يبرز فيها الأثر العربي، حيث نجد ملامح الشخصية البيكارسكية التي ظهرت مع مقامات الحريري والهمذاني، والأزجال التي ظهرت أول ما ظهرت في الأندلس، ثم القصص والحكايات وخرافات الحيوانات، التي ورد الكثير منها في ألف ليلة وليلة. وصور التودد إلى النساء وإغوائهن، والاستعانة بوسيط من العجائز، كله مأخوذ من قصص ألف ليلة وليلة التي كانت شائعة أيام خوان رويث على ألسنة الحكائين في كل مكان.
الكونت لوقانور
وضع هذا الكتاب - الذي يعتبر من درر الأدب الإسباني المبكر - خوان مانويل (1282-1348م). والكتاب يسمى أحيانا «كتاب باترونيو» وأيضا «كتاب الأمثولات». وهو يمثل حلقة من حلقات الاندماج بين الثقافتين الإسلامية والمسيحية التي تمثلت في أوائل المؤلفات في الأدب الإسباني. فكثير من قصص ألكونت لوقانور مأخوذ عن أصول عربية، ولا غرو، فقد كان خوان مانويل عليما بالعربية ويقرأ بها، بل ويتضمن كتابه بعض العبارات العربية الدارجة مكتوبة بحروف لاتينية.
والكتاب يماثل كتاب كليلة ودمنة، في أنه عبارة عن نصائح ومواعظ قصصية يتلقاها ألكونت لوقانور من معلمه ومرشده باترونيو. فكل مرة يسأل ألكونت سؤالا، يرد عليه المعلم بقصة، ينهيها بالعظة منها في «قفلة» شعرية. وحكايات الكتاب مستوحاة من القصص العربية التي شاعت في إسبانيا والتي تضمنتها الكتب التي ذكرناها آنفا. ومن أشهر قصص الكتاب «حكاية المعتمد ملك إشبيلية مع زوجته الرميكية»، التي تصور عدم رضا المرأة مهما فعل زوجها لتلبية رغباتها. وكثير من تلك القصص لها مقابلها في ألف ليلة وليلة، بعضها صريح النسبة، وبعضها مغطى بطبقة إسبانية مسيحية محلية. فنحن نجد فيه قصة الثعلب (وهي هنا ثعلبة) والغراب، والملك ووزيره، والملك وأولاده الثلاثة، وقصة الابن الذي أراد أن يختبر إخلاص أصدقائه له ... إلخ . كذلك تكثر القصص المتعلقة بالعرب والمسلمين في المجموعة، مما يشي بتأثيرهم في الجو الثقافي الذي كان سائدا هناك آنذاك.
الديكاميرون
والمؤلف هو جيوفاني بوكاتشيو الذي عاش في إيطاليا في الفترة من 1313م إلى 1375م، وتلقى مصادر ثقافته عن طريق المؤلفات اللاتينية، ثم تعرف على بترارك وتأثر بدانتي. وقد أصدر عدة كتب قبل أن يقدم على تأليف كتابه الأساسي، الديكاميرون. والكتاب عبارة عن حكايات متعددة تلقى ضمن قصة إطارية، سنذكر تفاصيلها في فصل القصة الإطار. والواقع أننا سنعرض في هذا الكتاب كثيرا للديكاميرون، فهو يدخل في اختصاص أكثر من فصل من فصول كتابنا. وسنتعرض هنا لموضوعات قصصه التي تماثل حكايات وردت في ألف ليلة وليلة وغيرها من الكتب ذات الأصل الشرقي، وإن كان مؤلف الكتاب لم يطلع على الحكايات العربية ذاتها، فإنه كان أليفا بها عن طريق انتقالها شفاهة وحكاية من إسبانيا إلى البلاد الأوروبية المجاورة ومنها إيطاليا. فقصص الديكاميرون تمتلئ بمغامرات الحب والجنس مثل قصص ألف ليلة، وتزخر بتصوير نفاق الكثير من رجال الدين وتهالكهم على الملذات الدنيوية، والخدع التي تقوم بها بعض النساء ومكرهن واحتيالهن إلى الوصال مع من يحببن بشتى الطرق والوسائل. وأكبر دليل على الأثر العربي في الديكاميرون، القصة التي روتها «فيلومينا» في اليوم الأول عن «ملخي صديق» اليهودي وصلاح الدين الأيوبي؛ وتحكي فيها كيف احتاج صلاح الدين إلى الحصول على تمويل من اليهودي الثري، فاستدعاه من الإسكندرية وسأله: أي دين من الأديان الثلاثة - اليهودية والمسيحية والإسلام - هو الدين الصحيح؟ وأدرك اليهودي الماكر أنها مكيدة من السلطان، فحكى له قصة الخاتم الثمين الذي كانت إحدى الأسر العريقة تتوارثه من قديم الزمن، وكان عاهل الأسرة يعطيه لمن يعتبره أحكم أبنائه. ويصل الخاتم إلى أب له ثلاثة أبناء، لم يكن يفضل واحدا منهم على الآخرين، فلما حضرته الوفاة أمر بصنع خاتمين مشابهين تماما للخاتم الثمين بحيث لا يمكن التفريق بينهم، وأعطى خاتما لكل واحد من الأبناء على حدة. وبعد وفاة الأب، فوجئ الأولاد الثلاثة بأن مع كل واحد منهم الخاتم الثمين، ولم يكن في مستطاع أحد أبدا التعرف على الخاتم الأصيل من بين تلك الخواتم الثلاثة. وأنهى اليهودي قصته قائلا: وهكذا أقول لك يا مولاي إن نفس الشيء ينطبق على النواميس الثلاثة التي منحها الرب لشعوبه الثلاثة، فكل واحد منهم يعتبر نفسه الوريث الشرعي للدين الإلهي، وأن دينه هو الدين الصحيح، ولكن - كما هو الحال مع الخواتم الثلاثة - تظل الحقيقة غير معروفة. ويدرك صلاح الدين أن الرجل قد تخلص بحكمته من مغبة الرد، فضحك وأطلعه على حاجته إلى المال، ورحب اليهودي بإقراضه ما يريد. وقد رد السلطان بعد ذلك ما أخذه من المال، وقرب إليه اليهودي الحكيم الذي أصبح من خلصائه.
ومن الواضح أن بوكاتشيو ما كان له أن يؤلف قصة كهذه من نسج خياله، بل هو قد أثبتها وطورها بعد أن قرأها أو سمعها شفاهة من أفواه الرواة باللغة التي يعرفها. وكان الكثير من الحكايات التي أتى بها العائدون من الحملات الصليبية تتعلق بصلاح الدين الأيوبي وعلاقاته بالأوروبيين وتتغنى بصفاته الحميدة وفروسيته الكريمة، ولا شك أن هذه واحدة منها.
Bog aan la aqoon
وهناك القصة الخامسة من اليوم الأول، وتحكي عن افتتان ملك فرنسا فيليب لي بورني بزوجة المركيز الإيطالي دي مونفرات، فيذهب إليها في غياب زوجها بهدف إغوائها. وتفطن السيدة الشريفة لغرض الملك، فتعمد إلى الحيلة بأن تقيم له وليمة تقدم له فيها أطباقا متتابعة كلها من الدجاج. ولما يتعجب الملك من ذلك، ويسألها ألا يوجد في بلدهم سوى الدجاج دون أن يكون فيهم ديك واحد، تجيبه بأن دجاجاتهم تشبه النساء، فرغم اختلاف امرأة عن الأخرى اختلافات يسيرة، فالنساء تتشابه فيما بينها. ويدرك الملك القصد من وراء كلام الزوجة، فيعف عنها ويتركها في حالها. والقصة ترد بنفس الشكل في ألف ليلة وليلة، في رداء عربي صميم، تقع أحداثها ضمن دورة حكاية الملك وولده والجارية ووزرائه السبع، في قصة تحمل عنوان «حكاية الملك وزوجة وزيره»، وفيها تقدم زوجة الوزير إلى الملك الطامع فيها تسعين صحنا، «فجعل الملك يأكل من كل صحن ملعقة ، والطعام ألوان مختلفة وطعمها واحد. فتعجب الملك من ذلك غاية العجب ثم قال: أيتها الجارية، أرى هذه الأنواع كثيرة وطعمها واحد. فقالت له الجارية: أسعد الله الملك، هذا مثل ضربته لك لتعتبر به. فقال لها: وما سببه؟ فقالت: أصلح الله حال مولانا الملك إن في قصرك تسعين محظية مختلفات الألوان وطعمهن واحد. فلما سمع الملك ذلك الكلام خجل منها وقام من وقته وخرج من المنزل ولم يتعرض لها بسوء.» ويخشى زوج المرأة أن يكون الملك قد عبث بزوجته، فيحادثه عن طريق الرمز، عن دخول الأسد إلى أرضه، فيطمئنه الملك بقوله إن الأسد لم يطأ أرضه، فيعرف أن زوجته طيبة صالحة.
والقصة واردة قبل ذلك في القصص القرآني المتعلق بالنبي داود عليه السلام، وقصص الأنبياء للثعالبي، الذي يقص قصة زواج داود من امرأة أورياء قائد جيوشه، وقصة الخصمين اللذين تسورا المحراب ليقصا على داود خلافهما بشأن الأخ الذي لديه تسع وتسعون نعجة ثم يطمع في النعجة الواحدة التي يمتلكها أخوه، رغم عدم اختلافها في شيء عن بقية النعاج. والمثل والعبرة واضحان في القصة.
ثم هناك القصة السابعة من اليوم الثاني، ويحكي فيها بوكاتشيو عن سلطان بابل (بغداد؟) وابنته «ألاتيل» ذات الجمال الأخاذ الذي يفتن كل من رآه أو سمع به. ويخطب ملك الجرف (في شمال أفريقيا؟) ابنة السلطان، ولكن السفن التي تقلها إليه من ميناء الإسكندرية (!) تجنح تحت وطأة العواصف إلى جزيرة ميورقة. ومن هنا، تبدأ مصائب الأميرة المسلمة، إذ لا يراها أي رجل إلا ويفتتن بجمالها. وهكذا يتعاقب محبو ألاتيل عليها، ويقتل الواحد منهم الآخر في سبيل الفوز بها، بل وتقوم الحروب بين المدن الإغريقية في سبيل الحصول عليها. ونجد هنا التصوير المعهود للعلاقات بين اليونان وبيزنطة، وبينهما وبين ملوك الإسلام، على النحو الذي تصوره ألف ليلة خصوصا في «حكاية الملك عمر النعمان». وتتقلب الأحداث بالأميرة المسلمة في البلاد المسيحية، إلى أن يراها أحد معارف أبيها السلطان ويعود بها إلى الإسكندرية «حيث كانت الأمة المصرية كلها في حزن لفقدها.» وبناء على نصيحة صديق أبيها الذي أنقذها، تخفي عن الجميع ما لاقته من معاملة في غربتها، وتزف ثانية إلى ملك الجرف، الذي يجدها عذراء كما هو المعهود في أميرات الشرق عند زواجهن! ويبدي بوكاتشيو في تلك الحكاية جهلا كبيرا بجغرافية المدن الإسلامية، فيخلط بين بابل والإسكندرية، وإن كان يبدي معرفة بالمسلمين وعاداتهم وعقائدهم كما كان يراها المسيحيون في عصره، وهو ما يدعو للاعتقاد بأنه قد استقى تلك القصة من حكايات عربية متواترة، منها القصص المشابهة لها في ألف ليلة وليلة.
وثمة قصتان أخريان تجري أحداثهما في تونس. إلا أن أغلبية الحكايات تتعلق بالنساء وحيلهن في التوصل إلى من يحببن، وهي نفس التيمة التي تتغلغل في ثنايا حكايات ألف ليلة وليلة. بل إن هناك القصة الرابعة من قصص اليوم السابع في الديكاميرون، وهي تحكي عن الزوج الذي يضبط زوجته وقد تسللت أثناء الليل للقاء عشيقها، فيغلق الباب حتى لا يدعها تدخل ثانية عند عودتها. وتتوسل الزوجة لزوجها كي لا يفضحها ويفتح الباب لها، فلما أيأسها، تلقي حجرا ثقيلا في البئر لتوهم الزوج بأنها ألقت بنفسها فيه. ولما يخرج الزوج ليستطلع ما حدث لزوجته، تغافله الزوجة وتدلف إلى داخل البيت ثم تغلق الباب من دون زوجها، وتصيح شاكية للجيران من سوء معاملة زوجها لها وبقائه طوال الليل بالخارج مع عشيقاته! ونفس هذه الحبكة واردة بحذافيرها في ألف ليلة وليلة. وربما يكون بوكاتشيو قد أخذها من مجموعات القصص المترجم إلى اللاتينية من قصص ألف ليلة وغيرها من الكتب العربية والشرقية.
كتب القصص الإنجليزية
وقد وجدت القصص اللاتينية التي سبق ذكرها طريقها آخر الأمر إلى اللغة الإنجليزية القديمة والوسطى. فبالإضافة إلى ترجمة الأعمال السابقة، ظهرت مجموعات من الحكايات المكتوبة أصلا بالإنجليزية، عكست في معظمها الصلة مع الأدب الناشئ في أوروبا والذي تستبين فيه ملامح التراث العربي الإسباني وقتها. وقد اشتهرت من بين تلك المجموعات الكتب التالية: «الصفاء»
و«اللؤلؤة»
THE PEARL
و«السير جاوين والفارس الأخضر»
SIR GAWAIN AND THE GREEN KNIGHT ، وهي كلها كتب نهلت من معين الحكايات والأساطير والرومانسات الأندلسية بعد أن غلفتها بطابع غربي مسيحي به الكثير من قصص الكتاب المقدس والأساطير الكلتية وتيمات الكأس المقدسة وما تفرع عنها من قصص وحكايات.
Bog aan la aqoon
وفيما بين عامي 1371-1372م، ألف «جوفروا دي لا تور» كتابا بالإنجليزية الوسطى عنوانه «كتاب فارس لتور لاندري»، وهو مجموعة من الأمثولات والحكايات الأخلاقية في قصة إطارية، يماثل كتابي مرشد الحكماء والكونت لوقانور السابق الإشارة إليهما. والمجموعة تحكي أيضا حكايات النساء ومكرهن، وقصص الحكمة على أفواه الحيوانات، بعد أن صبغ المؤلف كل ذلك بصبغة إنجليزية قروسطية مسيحية في تصويرها، وإن كان معظمها إعادة صياغة لحكايات عربية ذاعت في وقتها في إسبانيا العربية وانتقلت إلى أوروبا ومنها إلى إنجلترا عن طريق مجموعات الكتب اللاتينية، وعن طريق الحجاج والعائدين من الحملات الصليبية.
وحوالي عام 1390م، يصدر الكاتب المعاصر لتشوسر «جون جاور» كتابه «اعترافات العاشق»
CONFESSIO AMANTIS
الذي لا يزال موجودا منه الآن حوالي أربعين مخطوطا. والكتاب يدور حول الحب العذري أو الحب الغزلي، وينقسم إلى ثمانية كتب يتعلق كل منها بقصص إحدى الخطايا السبع. وكثير من تلك القصص إعادة صياغة لقصص ظهرت في مجموعات قصصية أخرى بل وفي حكايات كانتربري، وكذلك يستمد المؤلف حبكاته من مصادر كلاسيكية أخرى. والنبع العربي الأندلسي - وهو يظهر هنا في صورة إسبانية - واضح في بعض تلك القصص، مثل قصة بترونللا الحكيمة في الكتاب الأول. ففي تلك القصة، يسأل الملك ألفونسو ملك قشتالة أحد منافسيه - السيد بدرو - ثلاثة أسئلة. وتقوم ابنة السيد بدرو بالرد نيابة عن أبيها، فتظهر مدى معرفتها الواسعة بالعلوم والفنون، إلى درجة أن يفتتن الملك الإسباني بها فيتزوجها وينعم على أبيها. ومثل هذه القصة ومواقفها تتكرر كثيرا في ألف ليلة وليلة، كحكاية الجارية تودد. وكون قصة جاور تدور في إسبانيا وتصور ملكها ألفونسو، يلمح إلى الأصل العربي الشفاهي لحبكتها.
أما قصة «سير جاوين والفارس الأخضر» فهي حلقة من قصص الملك آرثر والكأس المقدسة. وقد أرجع النقاد شخصية الفارس الأخضر إلى التراث الشعبي الكلتي، وإلى طقوس الربيع الوثنية، والى أساطير الزرع والحصاد. وتضيف «لاساتير» إلى ذلك تأثير شخصية «الخضر» العربية الإسلامية، التي ذاعت في إسبانيا عن طريق ترجمات القرآن الكريم والتعليقات عليه، ثم كتابات الصوفية خاصة ابن عربي الذي ذكره في «الفتوحات المكية»، وكذلك ظهوره في الكثير من القصص العربي مثل قصة الإسكندر. ولكن أوضح الأمثلة على معرفة الأندلس بشخصية الخضر، هو تكرار ظهوره في قصص ألف ليلة وليلة؛ فقد ورد ذكره في «حكاية تاج الملوك والأميرة دنيا» و«حكاية أبو محمد الكسلان» و«مدينة النحاس» و«مغامرات بلوقيا» و«عبد الله بن فاضل وأخويه». وكل ذلك ضمن انتشارا واسعا لفكرة الخضر والقصص والأساطير التي نسجت حوله، في إسبانيا التي عرفت قصص ألف ليلة وليلة شفاهة منذ دخلها العرب والمسلمون.
حكايات كانتربري
عاش تشوسر - أبو الأدب الإنجليزي - في الفترة بين 1340م و1400م، وعمل في خدمة عدد من النبلاء والأمراء الإنجليز، ثم دخل في خدمة الملك نفسه عام 1367م، وكان من بين مهامه الترفيه عن البلاط الملكي بالقصص والأشعار والموسيقى، ولكنه عمل في وظائف هامة أيضا، وكلف بعدة مهام خارج إنجلترا. وقد تم إيفاده إلى عدة بعثات دبلوماسية في فرنسا وإيطاليا، حيث تعرف على الآثار الأدبية في تلكما البلدين، واطلع على الأعمال الفرنسية المبكرة، وأعمال دانتي وبترارك في إيطاليا، ويقال إنه التقى هناك ببوكاتشيو. كذلك تورد الوثائق بعثة مبكرة له إلى إسبانيا، في مملكة «نبره». وقد مكنت رحلات تشوسر إلى الدول الأوروبية المجاورة لإسبانيا - ولإسبانيا ذاتها في بعض الأقوال - من تعرفه على مجموعات القصص والأشعار والرومانسات التي دخلت من الأدب العربي الأندلسي إلى تلك المؤلفات، علاوة على معرفته الوثيقة بكتاب بطرس ألفونس «مرشد الحكماء» الذي سبق ذكره والذي كتبه مؤلفه في إنجلترا، وكتاب «اعتراف العاشق» لجاور، وهما من الكتب التي يستبين فيها العنصر العربي والشرقي بوضوح. وقد كتب تشوسر عدة مؤلفات هامة، منها «برلمان الطيور» و«ترويلوس وكريسيدا» و«أسطورة النساء الفضليات»، ولكن العمل الذي خلد ذكره هو «حكايات كانتربري» الذي كتبه مؤلفه تباعا خلال سنواته الأخيرة.
وكما في قصص الديكاميرون، تحتوي قصص «حكايات كانتربري» على الكثير من قصص خدع النساء ومكرهن، واحتيالهن بكل الطرق إلى وصال عشاقهن، وهذه «التيمة» هي من التيمات الرئيسية في ألف ليلة وليلة، ووردت في الكثير من حكاياتها (بالإضافة إلى القصة الإطارية الأساسية التي تتعلق بخيانة زوجتي الملكين شهريار وشاه زمان)، لعل أهمها قصة ابن الملك محمود صاحب الجزائر السود، الذي كانت زوجته - وهي ابنة عمه في نفس الوقت - تخونه مع عبد أسود، ثم تسحر زوجها حين كشف خيانتها بأن جعلت نصفه حجرا ونصفه بشرا. وسوف نعود إلى هذا الموضوع بالتفصيل في الفصل المخصص له.
كذلك تضم حكايات كانتربري الكثير من القصص التي تفضح نفاق بعض رجال الدين الذين يتظاهرون بالورع والتقوى كي يقضوا حاجاتهم الشخصية وشهواتهم، مثل قصص الراهب الجوال وبائع صكوك الغفران. وثمة حكايات في هذا الكتاب تماثل تماما حكايات موجودة في ألف ليلة وليلة، مثل حكاية الفارس الذي يروي قصة شابين يحبان نفس الأميرة ويقتتلان على الفوز بالزواج منها. كذلك قصة الغراب الذي ينم لسيده عن خيانة زوجته له، وهي قصة ترددت مرتين في ألف ليلة. وبعض القصص في حكايات كانتربري ينتهي بموعظة وعبرة، مثل عبرة قصة ناظر الضيعة حين يقول في نهاية قصته: «وعلى ذلك ينطبق المثل القائل: من يبذر الشر لا ينبغي أن يجني ثمرة الخير، والمخادع لا بد أن يخدع.» وكثيرا ما يعلق صاحب الخان على القصص التي يحكيها الحجاج بعبارات تشرح مفادها وتبين العبرة والدرس منها. قارن هذا بالعبارة التي تتردد دوما في ألف ليلة «... حكايتك حكاية عجيبة لو كتبت بالإبر على آماق البصر لكانت عبرة لمن اعتبر.» وهناك أيضا ما جاء في خاتمة قصة «حكاية التاجر أيوب وابنه غانم وابنته فتنة» هكذا: «فلما أصبح الصباح أمر الخليفة أن يؤرخ جميع ما جرى لغانم من أوله إلى آخره وأن يدون في السجلات لأجل أن يطلع عليه من يأتي بعده فيتعجب من تصرفات الأقدار ويفوض الأمر إلى خالق الليل والنهار.» ويمكن أيضا مقارنة نهاية حكايات كانتربري بنهاية معظم حكايات ألف ليلة. فبعد أن يقص رجل القانون حكايته في كتاب تشوسر، يقول: «وهكذا عاشوا جميعا في أعمال البر والفضيلة ولم يقترفوا إثما، حتى جاء الموت وفرق بينهم وبين الحياة.» وطبعا هذه العبارة هي صدى للعبارة المشهورة في ألف ليلة بتنويعاتها المختلفة مثل «ولم يزالوا في أرغد عيش إلى أن أتاهم هادم اللذات ومفرق الجماعات.»
ويذكر الدكتوران مجدي وهبة وعبد الحميد يونس في مقدمة ترجمتهما العربية لحكايات كانتربري ما يلي: «وما من دارس لحكايات كانتربري أو متذوق لما تحكيه من أهداف وما تصوره من شخصيات إلا ويتذكر على الفور حكايات ألف ليلة وليلة، وهي التي عرفت في أوروبا وإنجلترا بأنها «الليالي العربية»
Bog aan la aqoon
ARABIAN NIGHTS . ولا ريب في أن هذه المجموعة عرفت واشتهرت في أوروبا قبل تشوسر بأمد غير قصير، وأنها اقتبست أو ترجمت وحدات منها إلى الآداب الإسبانية والفرنسية والإنجليزية وغيرها. «والمصدر الشعبي للحكاية يفرض على المؤلف المعروف أو المجهول أن يعتمد على المأثور من المعتقدات التي يؤمن بها الإنسان. ويعد رجل الدين شخصية بارزة ومؤثرة من شخصيات هذه الحكايات. والعقلية الشعبية تنقل صورة الكاهن القديم مع شيء من التطور إلى الذين يتخذون الدين حرفة لهم في الحياة. وفي حكايات كانتربري نماذج واضحة تصور هذه الأنماط، التي تتشابه بالكهنة في الحضارات القديمة. وفي ألف ليلة وليلة حكايات شخوصها من تلك الأنماط. وأي تحليل لها يكشف، على الرغم من اختلاف الديانتين - الإسلامية في ألف ليلة وليلة، والمسيحية في حكايات كانتربري - التماثل في مصير تلك الشخوص. ونموذج رجل الدين له قدرات خارقة، وله سلوك يمتاز به، فهو غامض يظهر غير ما يبطن، ويستعين بالحيلة إلى جانب المكانة الدينية، التي جعلته يكاد يحتكر العلم الظاهر والخفي، وهو يملك، في تصور العامة، أن في سلطته أن يؤثر في القوى الخفية، وأن يحقق كل ما يريد أن يحققه لمن يؤمنون به.»
ويستبين أثر حكايات ألف ليلة وليلة في حكايات كانتربري أكثر ما يستبين في أربع قصص: حكاية الفارس؛ حكاية رجل القانون؛ حكاية ابن الفارس؛ حكاية المتعهد (حسب الترجمة العربية). ففي حكاية الفارس، تتلبس تيمة الأخوين اللذين يعشقان نفس الفتاة من أول نظرة مسحة كلاسيكية، تنقل الحكاية إلى أثينا واليونان. وتدور حبكتها حول قرار الملك أبي الفتاة - الأميرة إميلي - أن يعطيها زوجة لمن يفوز في مسابقة فروسية تقام بين الأخوين أركيتي وبالامون- وهذه تيمة مألوفة في أكثر من قصة بألف ليلة، وإن كان السباق يأخذ فيها أشكالا متنوعة. وقد ربط نقاد الأدب المقارن بين هذه الحكاية وقصة عمر بن النعمان في ألف ليلة، التي تتناول علاقات بين ملك في دمشق «قبل خلافة عبد الملك بن مروان» وبين ملوك بيزنطة، وابنين لذلك الملك أحدهما عربي والآخر من زوجة بيزنطية. والحكاية من أطول حكايات ألف ليلة وليلة، وتزخر بالعديد من المحالفات والمنازعات بين بلاد العرب وبيزنطة، وبها الشخصيات المشهورة: إبريزة والعجوز ذات الدواهي وعمر النعمان وولداه شركان وضوء المكان.
وحكاية رجل القانون تقع حوادثها في بلاد الشام، حيث ترتبط بالتجارة مع روما، ويتناقل الناس جمال ابنة الإمبراطور المسماه كونستانزا، حتى إن سلطان الشام يهيم بها غراما عن طريق السماع بأوصاف حسنها (والحب سماعا تيمة أخرى في حكايات ألف ليلة وليلة وقصص الحب الرومانسي). ولا يجد ذلك السلطان - كيما يفوز بزواج الأميرة - إلا أن يوافق على التحول إلى دين الإمبراطور. وهنا يسير تشوسر نفس مسار شخصيات ألف ليلة الذين يتحولون عن دينهم ليفوزوا بقلوب أحبائهم، ولكن كل على هواه، فعند تشوسر تتحول الشخصيات إلى النصرانية، وفي ألف ليلة يتحولون إلى الإسلام. بيد أن والدة السلطان عند تشوسر لا ترضى عن مسلك ابنها، وتضمر الانتقام من ابنها وعروسه التي دعته إلى تغيير دينهم، فتقضي على الجميع في وليمة الزفاف، وتترك كونستانزا وحيدة في قارب يتجه بها إلى الجزر البريطانية، حيث تصادفها أحداث وتقلبات جديرة بتلك التي تحدث في قصص ألف ليلة وليلة. وترد في القصة ألفاظ عربية تنم عن معرفة تشوسر بأصل تلك القصص، إلا أنه يصبغها كما ذكرنا بصبغة مسيحية غربية خالصة.
وفي حكاية المتعهد، نرى القصة التي ترددت في الكثير من المجموعات القصصية العربية واللاتينية المنقولة عن العربية، وهي أصلا كذلك في ألف ليلة وليلة، وهي قصة الطائر الذي يكشف خيانة الزوجة، وهو عند تشوسر غراب أبيض يربيه الأمير فيبوس ويعلمه الكلام. ويكشف الغراب للأمير طبيعة زوجته الشريرة وخيانتها له مع أحد عشاقها مما يحمله على قتلها. ولكن الأمير يغضب أيضا على الغراب فيغير لونه الأبيض إلى اللون الأسود، وهي عادة تشوسر في إدخال الأسطورة في ثنايا قصصه. (4) الرومانسات
يعتبر اصطلاح الرومانس من أكثر الاصطلاحات الأدبية واللغوية غموضا واختلاطا؛ إذ إنه ينطبق على كثير من الأشكال والأنواع الأدبية التي تطورت منذ القرون الوسطى. وسأورد فيما يلي بعض التعريفات له كما وردت في المعاجم والمراجع الأساسية: «... هي رواية أو قصة شعرية أو نثرية ظهرت في القرون الوسطى، موضوعها المغامرات الفروسية والهوى العذري، وروحها عاطفية وخيالية. وهذه القصة الخيالية اعتاد العلماء تقسيمها أقساما ثلاثة: شعرية، ونثرية، وآرثرية. وميزوا هذا القسم الأخير عن القسمين الآخرين بتسمية خاصة لكثرة (ما ورد) من القصص حول الملك آرثر. كما اعتاد العلماء التمييز بين (الرومانس) والرواية النثرية معتبرين الثاني منها (رومانس) خاضعة لقواعد المسرحية من حبكة ورسم شخصيات وتناسب أجزاء وتسلسل في السرد من البداية إلى النهاية.» (معجم مصطلحات الأدب للدكتور مجدي وهبة).
ويشير نفس المعجم السابق إلى أن نفس الكلمة تطلق على مجموعة اللغات التي انحدرت من اللغة اللاتينية في أوروبا. وهي ثالثا تطلق على «نوع من القصائد الغنائية القصصية التي شاعت في إسبانيا وخاصة بعد الحروب التي نشبت بين الإسبان وملوك الطوائف في الأندلس. وأغلب هذه القصائد يدور حول مآثر الفرسان الإسبان ومغامراتهم الغرامية مع أميرات الأندلس».
وقد زاد من اختلاط هذا المصطلح، ما جاء بعد ذلك من مصطلحات الرومانسية (الرومانتيكية) ومصطلح الرواية الفرنسية التي أصبحت تدعى
ROMAN ، ناهيك بما يتعلق بالاسم مما يخص روما ورومانيا والاسم الذي اختارته الغجر لأنفسهم وهو أيضا «روما»!
وقد ظهرت أول أمثلة هذا النوع الأدبي في فرنسا في أوائل القرن الثاني عشر، مختلطة بالملاحم وأناشيد المآثر
CHANSONS DE GESTE
Bog aan la aqoon
التي كانت ذائعة وقتها. وكل هذه الأنماط الأدبية قد تولدت من الأدب - بكل أنواعه - الذي كان موجودا في إسبانيا العربية الإسلامية. ويرجع الباحث الإنجليزي «توماس وورتون» جميع الرومانسات الأوروبية إلى إسبانيا العربية. فهو يوسع من افتراض أن إسبانيا القروسطية قد نشرت المعارف الأدبية إلى جانب المعارف العلمية والفلسفية المعترف بها. ومن بين عشرات الرومانسات المتبقية من العصور الوسطى، تبرز الأمثلة التالية:
رومانسة الإسكندر
وهي من أشهر الرومانسات الأوروبية ذات الأصول العربية والتي استمدت مضمونها من كل من الكتاب اليوناني المصري المنسوب لكالستينس، ومن القصص القرآني عن ذي القرنين، الذي أسهب بعض مفسري القرآن الكريم في وصفه وإسناد الوقائع إليه بما يؤكد أن المقصود به هو الإسكندر الأكبر. والرومانسات الأوروبية القروسطية عن الإسكندر تنسب إلى «ألبيريك دي بريانسون» و«ألكساندر دي برنيه» الفرنسيين. وتدخل عناصر عربية وشرقية إلى نسخ قصص الإسكندر حين تحكي عن ترحاله في مناطق آسيا بحثا عن نبع الحياة الذي يهب من يستحم فيه الحياة الأبدية؛ وفي جهة ما تهرب سمكة من تابع الإسكندر وتتسرب إلى ينبوع قريب، فيقفز التابع وراء السمكة فينال الخلود، فقد كان ذلك هو نبع الحياة الأبدية الذي يبحث عنه القائد العظيم وإن لم يستفد منه، فالأسطورة تقول إن واحدا فقط - هو أول من تغمره مياه النبع - هو المستفيد بالحياة الأبدية. وتمضي القصة لتقول إن ذلك التابع أصبح يسمى «الخضر»، الذي ينبت الزرع الأخضر من تحت قدميه، والذي مقدر له أن يعيش حتى يوم القيامة. وواضح أن عنصر هذه القصة مأخوذ من أحداث موسى عليه السلام وصاحبه، المذكورة في سورة الكهف، ومن تعليقات مفسري القرآن الكريم القدامى على تلك السورة التي يذكر فيها ذو القرنين أيضا، وهو الذي قال عنه المفسرون إنه هو الإسكندر الأكبر. وقد تخللت التفاسير القرآنية - التي دخلتها الكثير من الإسرائيليات من تفاصيل الأحداث التاريخية والقصص - قصص ووقائع عديدة عن حياة الإسكندر المقدوني كتبها معلقون فارسيون وشعراء ملاحم كالفردوسي ومؤرخون كالطبري، وكلها تردد قصة نبع الحياة وكيف ناله الخضر وعجز الإسكندر عنه.
وقد تلاقت في إسبانيا الأندلسية جميع العناصر المتعددة لأسطورة الإسكندر الأكبر، اليونانية والسريانية والفارسية، واتخذت صبغة عربية أصيلة، أخذ عنها من أخذ من واضعي القصص والرومانسات الأوروبية، بعد أن خلعوا عليها ما يناسب قوميتهم ودينهم، واطرحوا عنها الجوانب الإسلامية والقرآنية التي وردت في كثير من المخطوطات العربية التي تناولت القصة. وقد بقي من القصة العربية شخصية الخضر، التي ظهرت بعد ذلك في رومانسات أوروبية أخرى ملتبسة بفارس في أساطير الكأس المقدسة يدعى الفارس الأخضر.
ومن بين مخطوطات القصة العربية الأصلية، نشر المستشرق الإسباني الكبير إميليو غرسية جومز مخطوطا كاملا عن الإسكندر وغزواته في فارس، في كتاب ثمين قدم له بدراسة قيمة عن الموضوع، وألحق به النص العربي الكامل للمخطوط.
فلوار إي بلانشفلير
وهي رومانسة فرنسية أولى تدور حول موضوع شرقي، عن الحب الذي يدور بين فلوار وبلانشفلير منذ الطفولة، وحبكة القصة عربية بحتة في ثوب غربي مسيحي، تحكي عن قتال بين جماعة من المسلمين والمسيحيين، يأسر فيه المسلمون سيدة تلتحق بخدمة زوجة ملك إسبانيا الأندلسية. وفي إسبانيا، تلد ابنة تدعوها بلانشفلير (قارن أسماء الأزهار في ألف ليلة: ورد الأكمام، والملك زهر شاه، وريحانة، وغير ذلك)، في نفس اليوم الذي تلد فيه الملكة المسلمة ولدا يسمى فلوار. وينمو الطفلان معا، ويرضعان من الأم المسيحية، ويقعان في حب أحدهما الآخر. ولكن الملك والملكة لا يرضيان عن ذلك الحب بالطبع، فيبيعان بلانشفلير سرا، ويشيدان قبرا فارغا يوهمان ابنهما أنه قبر حبيبته التي ماتت (والقبر المزيف تيمة متكررة في بعض حكايات ألف ليلة). وحين يعلم فلوار ذلك يمرض ويشارف الموت، فيضطر الأبوان أن يخبراه بالحقيقة، فيرحل الابن بحثا عن بلانشفلير. ويعثر عليها بعد الكثير من التجوال ويجدها جارية في حريم أمير بابل (أي بغداد أيام الخلافة العباسية) ويرشو الخدم كيما يدخلاه إلى القصر مختفيا في سلة ورود ضخمة. وحين يكتشف الأمير العربي الأمر، يحكم على العاشقين بالموت، ولكن الحب الغامر بين فلوار وبلانشفير، الذي يتبدى في طلب كل منهما أن يموت قبل الآخر، يدفع الأمير إلى العفو عنهما والقبول بزواجهما. والقصة تحفل بالجو الشرقي وطرائفه وعجائبه ، كما أن الحبكة نفسها مأخوذة من قصص ألف ليلة وليلة، وإن فات الصائغ البروفسالي للحكاية - وهو يضفي الطابع الغربي المسيحي إليها - كثيرا من الهنات، مثل امتناع الزواج بين فلوار وبلانشفير بحكم أنهما أخوان في الرضاعة. وقد يكون ذلك هو السبب الأصلي لمعارضة الملك والملكة في زواجهما في أول الأمر.
أوكاسان ونيكوليت
وهي مثال واضح آخر للرومانسة الفرنسية في القرون الوسطى التي استمدت موضوعاتها وشكلها من حكايات وأغاني المقامات العربية وقصص ألف ليلة وليلة التي كانت تلقى وتنشد شفاهة على السامعين في حلقات متقطعة. وما من شك في أن مؤلف هذه القصة الشعبية التي تجمع بين الشعر والنثر هو من قبيل مؤلفي التروبادور البروفنساليين الذي ألبس حبكته العربية ثيابا فرنسية مسيحية؛ فمن المعروف اليوم أنه اختار اسم نيكوليت من الاسم نيقوليس المستمد من اسم بلقيس العربية ملكة سبأ، وأن أوكاسان هو الصيغة الفرنسية للاسم العربي أبو القاسم، والقصة ذاتها ترداد لتيمات واردة في حكاية الأمير أنس الوجود في ألف ليلة وليلة.
والرومانسة الفرنسية تدور حول أوكاسان، ابن أحد النبلاء من حكام إقليم بروفانس الفرنسي، الذي يهيم حبا بنيكوليت الأسيرة المسلمة التي جلبها معه أحد أتباع الحاكم في غزوة من غزواته. بيد أن الأب يحظر على ابنه الزواج من حبيبته، ويأمر بإلقاء نيكوليت في السجن. ويمرض الحبيب، ويمتنع عن مشاركة أبيه في الحرب ضد النبلاء الطامعين في أرضه إلى أن يقطع على نفسه عهدا بالسماح له بلقاء حبيبته إذا ساعد في المعارك. بيد أن الأب يحنث بوعده، ويلقي بابنه في السجن، ويتهدد حياة نيكوليت فتهرب إلى الغابات ويشاع أنها هلكت هناك. ويطلق الأب سراح ابنه أوكاسان محاولا تعزيته عن حبه، غير أن العاشق يخرج سعيا للبحث عن نيكوليت ويعثر عليها في خاتمة المطاف. ويأوى العاشقان إلى قلعة أسطورية حيث يعيشان ثلاث سنوات في سعادة غامرة، إلى أن يغزو المسلمون المنطقة ويأسروا نيكوليت وينقلوها معهم إلى قرطاجة حيث يتعرف ملكها عليها باعتبارها ابنته التي كان الفرنسيون قد أخذوها أسيرة من قبل. ويصل أوكاسان إلى بلده بعد ذلك، فيجد أن أباه قد توفي وأنه قد أصبح حاكما للإقليم من بعده. وترحل نيكوليت إلى فرنسا طلبا لحبيبها متنكرة في زي منشد أغان جوال، ويلتقيان في النهاية، حيث يعيشان «في تبات ونبات»، ونكاد نقول «إلى أن أتاهما هادم اللذات ومفرق الجماعات!»
Bog aan la aqoon
والحبكة العربية في الرومانسه الفرنسية ظاهرة الوضوح، وهي تتردد في الكثير من حكايات ألف ليلة وليلة، وتمزج، مثلها، بين عالم الواقع وعالم الخيال الذي يصل أحيانا إلى الفانتازيا الخالصة. وحتى التقسيم والشكل في الرومانسه، يتبع تقسيم الليالى العربية، إذ يبدأ كل مقطع بأرجوزة شعرية، يأتي بعدها سرد للأحداث التي وقعت، بادئا دوما بسطر يكاد يكون ما معناه «يقول الراوي يا سادة يا كرام!» كما أنها تحفل بالطرائف ذات الأصل العربي، مثل الموقف الذي يقول فيه أوكاسان إنه لا يحب الذهاب إلى الفردوس لأنه لن يجد هناك إلا القسس والبؤساء والموجوعين، بينما ستزخر جهنم بالأدباء والفرسان والجميلات الناهدات، وحيث ستكون هناك حبيبته نيكوليت!
رومانسات الملك آرثر والكأس المقدسة
تعتبر شخصية الملك آرثر وما حيك عنها من قصص وحكايات وملاحم وأساطير، أحد أهم وأبرز الموضوعات التي شملتها الرومانسات التي اختلطت فيها الصور والموتيفات العربية والإسلامية بأشد الموضوعات غربية ومسيحية، مما يشكل أحد أغرب تلاحم وتداخل فيما بين القصص والأساطير الغربية والعربية. ويتفرع عن «الدورة الآرثرية»، كما أصبح يطلق على كل ما يمت مباشرة لشخصية الملك آرثر، عدة موضوعات أساسية هامة، منها الكأس المقدسة، ومغامرات برسيفال، وقصة يوسف الرامي، وغيرها كثير.
ورغم أن الملك آرثر شخصية أسطورية إنجليزية، فقد وضعت قصصها وحكاياتها في فرنسا، وأول من قام بذلك الكاتب الفرنسي التروبادوري «كرتيان دي تروا»، الذي أدخل قصة الغرام بين زوجة آرثر «جنفييف» والفارس «لانسلوت»، على طريقة حب البلاط الغزلي، الذي يمزج الهوى العذري بالحب الجسدي. ولما كانت قصص الملك آرثر تتعلق كلها بالفروسية والفرسان، ومنها قصة فرسان المائدة المستديرة، كان من الأساسي لأبطال تلك القصص الخدمة في الحروب الصليبية. ومن هنا جاء الاتصال بين وقائع تلك القصص والرومانسات وبين العناصر العربية والشرقية فيها. وقد مزج واضعو تلك الرومانسات الصور السحرية والغرائب والخوارق التي خبروها في الشرق وحكاياته، بالأساطير والتراث الشعبي الكلتي، فأنتجوا مزيجا رائعا من الطلسمات والقصور الشامخة والعذارى الفاتنات والرياض الفواحة، مما يشيع في تلك القصص. وقد ازدهر ذلك النوع من الأدب عن طريق اللقاح الثقافي الذي أتى من الثقافة العربية، وأثرت الأفكار الصوفية عن مثاليات الفروسية، فظهرت واضحة في فرسان الملك آرثر وأعمالهم.
وتمثل الكأس المقدسة رمزا أساسيا في الرومانسات القروسطية. وقد بدأ الحديث عن الكأس بطريقة عامة، ولم يتم ربطه بالكأس التي شرب منها السيد المسيح في العشاء الأخير إلا بعد ظهور قصة يوسف الرامي
JOSEPH OF ARIMATHIE ، وهي رومانسة فرنسية - لها صورة إنجليزية أيضا - تحكي قصة هذه الشخصية الغامضة التي وردت في أناجيل العهد الجديد. والأناجيل تذكر يوسف الذي من الرامة - مدينة يهودية - الذي طلب جسد المسيح من بيلاطس كيما يدفنه حسب التعاليم الدينية. ولا تذكر الأناجيل شيئا آخر عنه. والرومانسة من وضع «روبير دي بورون» حوالي عام 1190م، ويحكي فيها كيف سجن يوسف الرامي بعد ذلك لمدة عشرين عاما كانت الملائكة خلالها تقوم بإطعامه وحفظه، وبعد تحرره يرحل إلى إنجلترا ومعه الكأس المقدسة التي يفترض أنه حصل فيها على قطرات من دماء المسيح، وقام بتأسيس أول كنيسة في إنجلترا ودعا الناس إلى المسيحية هناك. ولا يعرف أحد من أين أتى دي بورون بقصة يوسف الرامي تلك، ولكن بعض الباحثين يربطون بينها وبين ذهاب القديس سنتياجو إلى إسبانيا لدعوة أهلها إلى المسيحية بنفس الشكل، ويرون أن قصص الحجاج الذين يتوجهون إلى مدينة سنتياجو دي كومبوستيلا شمال إسبانيا حيث ضريح القديس سنتياجو، هي التي وراء ابتكار قصة مماثلة عن القديس الذي أدخل المسيحية إلى إنجلترا، والذي يقال إنه مدفون بكنيسة جلاستونبيري حيث يحج الناس إلى قبره هناك. وقد كتب راهب الكنيسة «جون جلاستونبيري»، مخطوطا في القرن الرابع عشر عن قصة يوسف الرامي. وتذكر الباحثة «مارجريت مري» في بحثها المعنون «العناصر المصرية في رومانسة الكأس المقدسة» (وتقتبسها أليس لاساتير في كتابها) أن القصة بها إشارة إسلامية عجيبة الشأن، ترد باللاتينية، وتقول «وكان مع يوسف في تابوته المثوى فيه قارورتان إحداهما بيضاء والأخرى فضية، مليئتان بدم وعرق النبي يسوع.»
ومن المدهش العثور في نص كتبه راهب مسيحي على نعت للمسيح بأنه نبي، وهي صفة لا يطلقها عليه إلا المسلمون أو بعض الطوائف اليهودية.
ولما كان ظهور قصص الكأس المقدسة ويوسف الرامي قد تواكب مع حركة الترجمة الكبرى التي قامت في إسبانيا لنقل المعارف العربية إلى اللغات المحلية، والتي شارك فيها عدد كبير من أتباع الديانات المختلفة ممن كانوا يتقنون اللغات المطلوبة، فإن وجود مثل تلك الإشارات الإسلامية والعربية في متون الكتب، ليس غريبا.
ومن العجيب استمرار قصص وأساطير الكأس المقدسة إلى يومنا هذا، مع صدور الرواية التي أصبحت الأكثر انتشارا «شفرة دافنشي» لمؤلفها «دان براون»، حيث يلعب لغز الكأس المقدسة دورا أساسيا في أحداثها، وفيها أيضا أسرار ومعميات ذات أصول عربية.
بارسيفال
Bog aan la aqoon
وقصة بارسيفال هي قلب قصص الدورة الآرثرية. وقد يعجب القراء من إدراجها ضمن المؤثرات العربية الأندلسية وقصص ألف ليلة وليلة، وسبب ذلك العجب هو الطابع الجرماني الأصيل الذي اتخذته منذ وضع فاجنر أوبراه الشهيرة على تلك القصة من قصص الفروسية القروسطية. بيد أن الرومانسة التي وضعها «وولفرام فون إيشنباخ» عن بارزيفال (وهي الصيغة الألمانية لبارسيفال) فيما بين 1197م و1215م، فيها الكثير من الإشارات العربية التي استمدها من الترجمات الأوروبية للكتب العربية، التي تسببت في نشوء ما يسميه الباحثون الآن بنهضة القرن الثاني عشر. ورغم أن إيشنباخ يعترف في كتابه أنه اعتمد في مصادره على كرتيان دي تروا، فمن الواضح أنه لم يكن مصدره الوحيد، خاصة في الفصلين الأولين، والفصول الثلاثة الأخيرة من كتابه. فالفصلان الأولان من كتاب إيشنباخ يقصان مغامرات أبي بارزيفال المسمى جاموريه وزواجه من ملكة مسلمة في شمال أفريقيا أنجب منها ابنا أسماه «فيريفيز». وفي نهاية الرومانسة، يعتنق الابن النصرانية، ويتزوج من عذراء الكأس المسيحية، ويرحل إلى الهند. وهناك يصبح ابنه هو الشخصية الأسطورية «برستر جون »؛ مثلما يصبح أحد أبناء بارزيفال «لوهنجرين». وهكذا يضم إيشنباخ في رومانسته الكثير من خيوط أسطورة بارزيفال ويضفرها في عقدة محبوكة الصنع.
ويذكر إيشنباخ أيضا من مصادر قصته، بالإضافة إلى كرتيان دي تروا، شخصا يدعى كيوت البروفانسي، الذي حصل معرفته في طليطلة من المخطوطات التي ألفها «فليغيتانيس الوثني» (وفي تلك الفترة، كانت صفة الوثني تطلق على العرب واليهود). وقد كان إقليم البروفانس الفرنسي مرتبطا ثقافيا - وسياسيا أحيانا - بقطلونيا وأراغون الإسبانيتين. وكتاب إيشنباخ يختلف عن كتب الكأس المقدسة الأخرى بتناوله قصص الحب التي يتعرض لها أبطاله، وبوصف الكأس وصفا مغايرا، وإدراجه الكثير من المعارف والمعلومات العلمية في صلب قصته، وكل ذلك يشير إلى مؤثرات إسلامية عربية أندلسية. وأحداث رومانسة إيشنباخ تقع في أوروبا وآسيا وأفريقيا، في حين تقع أحداث الرومانسات الأخرى في بريطانيا. وتتردد في الرومانسة أسماء ومواقع ومدن ذات أصل عربي واضح. كما أن أوصاف الحب الذي يقوم بين الأبطال يغطي كل أنواع الحب التي كانت معروفة في الأندلس بالذات والتي ذكرها ابن حزم بالتفصيل في كتابه «طوق الحمامة»، وقصص الحب والعشق والهوى التي أبرزتها حكايات ألف ليلة وليلة. ففي الكتاب قصص الحب ذات المسحة الصبيانية (أوبيلوت وجوان)، والحب الحسي (جوان وأنتيكوني) والحب قبل رؤية الحبيب (جراموفلانز وإتونجي) والحب الزوجي (بارزيفال وكوندويرامورس). وتقرر «لاساتير» أن صور الحب في رومانسة إيشنباخ عن بارزيفال هي صور أندلسية أقرب منها صورا فرنسية أو ألمانية. ومن الاختلافات البينة أن الكأس قبل رومانسة إيشنباخ كانت كأسا أو وعاء أو طبقا، أما في إيشنباخ فهي حجر تقوم على خدمتها خمس وعشرون عذراء ويحرسها سلك عسكري يدعى التمبليزين. وثمة حمامة تقوم كل جمعة حزينة بوضع قطعة بسكويت على الحجر. وهناك فارس جريح ذو صلة بالقلعة الموجود بها الكأس، وأرض يباب، وهو يتفق في هذا مع نسخ بارسيفال الأخرى.
ومن أبرز الصور العربية في بارزيفال إيشنباخ، شخصية امرأة تدعى «كوندري»، عارفة بكل علوم عصرها، لغوية وعالمة وساحرة. وتقول عنها الرومانسة «كانت الفتاة ذات ثقافة عريضة حتى إنها تتقن جميع اللغات، اللاتينية والعربية والفرنسية. وكانت عالمة بآداب اللياقة واللهجات وعلوم الهندسة، وتعرف كذلك علوم الفلك. كان اسمها كوندري، ولقبها الساحرة». وفي الفصل السادس عشر، نرى الكثير من معرفة كوندري، حين تعدد أسماء الجواهر والمعادن، وبعضها بالاسم العربي له، ثم تعدد الكواكب السبع، وتسميها كلها باسمها العربي، ومنها زحل والمشتري والشمس والقمر. وتذكرنا كوندري على الفور بالجارية تودد، في ألف ليلة وليلة، التي تعي كل العلوم والمعارف وتستعرضها أمام الخليفة في سهولة ودقة واقتدار. ويبرز السؤال: من أين استقى إيشنباخ معلوماته العربية تلك؟ وهو قد أرجع معرفته بالأمور والمصطلحات العربية في رومانسته إلى «كيوت» و«فليغيتانيز»، بيد أنه هو نفسه لا بد وأن يكون قد عرف بعضا من الرسائل العلمية الإسبانية العربية التي كانت متداولة أيامها في الأوساط المثقفة، أو اتصل بشخص يكون قد قرأها في أصلها العربي، أو عن طريق أحد أفراد التروبادور الذي عرفها عن طريق القصص والحكايات العربية التي استقوها من الأندلس.
وفي الفصل التاسع من بارزيفال، هناك مقطع طويل يشير إلى الصلة بين العرب وبين مغامرات الكأس المقدسة. ففيه يقول المؤلف إن «كيوت» قد عثر في طليطلة على أول مصدر من مصادر تلك المغامرة متمثلا في مخطوط عربي مهمل، من وضع فليغيتانيس، العالم سليل سليمان الحكيم. «وكان بوسع فليغيتانيس الوثني (العربي) معرفة كيف تغرب النجوم وتطلع ثانية والمدة التي تستغرقها كل نجمة في الدوران قبل أن تصل ثانية إلى نقطة البدء. وترتبط مصائر البشر بدورات النجوم. ولقد رأى فليغيتانيس الوثني بعينيه في كوكبة النجوم من الأشياء ما عجز عن التعبير عنه. وقال إن هناك شيئا يدعى الكأس المقدسة قرأه بوضوح في الكوكبة. وقد تركه رهط من الملائكة على الأرض ثم طاروا إلى حيث توجد النجوم.»
ورغم أن المؤلف وصف فليغيتانيس بأنه إسرائيلي من سلالة سليمان، فبوسعنا تفسيره أيضا بالعربي، من إطلاق صفة «الوثني» عليه، إذ إنها هي الصفة التي كان يطلقها إيشنباخ على أي شيء عربي، مثل إطلاقه على اللغة العربية اسم اللغة الوثنية! وقد دعت تلك الفقرة المثيرة من الرومانسه الباحثة «لاساتير» إلى البحث عن الشخصية التي دعاها المؤلف باسم فليغيتانيس، الذي لا بد أن يكون من العاملين في مجال الفلك وعلم النجوم والذي ترجمت أعماله في إسبانيا وفرنسا وصقلية قبل قيام إيشنباخ بوضع رومانسته. وقد استخلصت الباحثة أن فليغيتانيس هذا لا يمكن إلا أن يكون «الفرغاني»، الفلكي العربي المشهور. وهي تذكر أنه كان هناك اثنان يحملان الاسم اللاتيني «الفرغانوس»، وإن كان الأرجح أن المقصود هو الفلكي أبو العباس أحمد بن محمد بن كثير الفرغاني (المتوفى عام 863م)، الذي عمل في رعاية الخليفة المأمون في بغداد. وقد قام يوحنا الإشبيلي بترجمة كتابه «علوم الفلك» إلى اللاتينية عام 1137م، وترجمه جيرار الكريموني مرة أخرى عام 1172م. وكلا المترجمين عملا في طليطلة، وانتشرت ترجمتاهما انتشارا واسعا في كل أنحاء أوروبا حيث لا تزال توجد مخطوطات عديدة منها. وللفرغاني كتب أخرى في العلوم، اعتمد دانتي على أحدها وهو الذي ترجم إلى اللاتينية بعنوان
LIBER DE AGGREGATIONIBUS STELLARUM ET PRINCIPIIS CELECTIUM MOTUUM ، في كتابيه
VITA NUOVA
و
CONVIVIO ، حيث يذكر دانتي الفرغاني بالاسم في الكتاب الثاني. وترى «لاساتير» أنه من المهم القيام بمزيد من الدراسة لكتب ومخطوطات الفرغاني للتوصل إلى مفاتيح صلته بموضوع مسيحي صميم مثل موضوع الكأس المقدسة، وذلك بعد أن أشار إيشنباخ بوضوح إلى تلك الصلة العربية البينة في رومانسته عن الكأس المقدسة.
تريستان وإيزولت
Bog aan la aqoon