Alf Layla Wa Layla Fi Adab
الرواية الأم: ألف ليلة وليلة في الآداب العالمية ودراسة في الأدب المقارن
Noocyada
ومن يكون هذا الصانع الأمهر سوى «توماس ستيرنز إليوت»، الذي - إلى جانب جيمس جويس وغيره - أصبح من رواد الحداثة في الأدب، برغم كونه - على حد قول لويس عوض - شاعرا رجعيا وناقدا رجعيا!
وقد تحدثت مع صديقي الدكتور ماهر شفيق فريد - الكاتب والمترجم الأمهر، والمرجع العربي في إليوت - عن إليوت وألف ليلة وليلة، فأبدى انزعاجه الشديد لذلك الموضوع، رغم أن الأمر هو قبل كل شيء أمر موازنة ومقارنة وليس أمر تأثر وتأثير قد لا يكون له محل في المقام الأول. وعلى ذلك فسوف أقتصر هنا على ترجمة مقالة «جون هيث-ستابس» القصيرة عن الموضوع، وهي التي اختتمت كتاب البروفيسور كراكشيولو الذي اعتمدت عليه أساسا في موضوع ألف ليلة وليلة والأدب الإنجليزي، والمقال بعنوان: «ملك الجزر السوداء وأسطورة الأرض الخراب»: «سوف نذكر القارئ - دون الدخول في تفاصيل مجموعات سردية متشابكة - أن تكملة قصة الصياد والجني هي حكاية الملك الشاب صاحب الجزر السوداء. وتتعلق تلك الحكاية بسلطان يخرج في طلب ما يبحث عنه، فيصادف أولا بحيرة مليئة بسمك أبيض وأحمر وأصفر وأزرق، ثم يعثر على قصر مهجور به هذا الملك المسحور، الذي وقع ضحية زوجته الساحرة الشريرة التي حولت نصفه الأسفل إلى رخام أسود. وكان الملك قد فاجأ زوجته مع عبد أسود كريه، فأشهر عليه السيف وتركه معتقدا أنه قد قتله، ولكنه كان حيا وإن لم يعد قادرا على الحركة أو الكلام. وقد أقامت الزوجة ضريحا في القصر ادعت أنه لابن عم لها، وأودعت فيه عشيقها لترعاه. ولما يثور الملك الزوج على ذلك، تعرف هي من أوقع بعشيقها فتسحره إلى حجر من وسطه إلى أسفله. وحولت كذلك مملكته إلى جبال أربعة بينهم بحيرة سحرت فيها سكان المملكة إلى السمك الذي سبق ذكره: السمك الأبيض هم المسلمون، والأحمر الزرادشتيون، والأصفر اليهود، والأزرق المسيحيون. ويعمل السلطان على مساعدة الملك المسحور، فيقتل العبد ويرغم الملكة الشريرة على فك السحر عن زوجها الملك الشاب وإعادة المملكة وسكانها إلى حالتهم الطبيعية. وتعيد الساحرة الملك إلى حالته الأولى برش ماء عليه من قارورة صغيرة. ويتم التخلص من العبد الأسود والملكة الساحرة.»
ويبدو لي أن هناك بعض التشابه المثير للاهتمام بين تلك الحكاية وبين الرومانسات الأوروبية في العصور الوسطى التي تتناول الكأس المقدسة. ففي تلك الرومانسات، يمر البطل بالأرض الخراب، مملكة الملك الصياد. وكان ذلك الملك قيما على أثرين مقدسين: الكأس المقدسة (وهي الكأس التي استخدمها المسيح في العشاء الأخير، والتي استخدمت بعد ذلك لتلقي دمه وهو ينزف على الصليب)، والحربة التي طعن بها الحارس الروماني جانب المسيح. ونتيجة لخطأ ارتكبه الملك، تحل عليه المصائب، فقد طعنته الحربة المقدسة في فخذيه فأصبح مقعدا لا يستطيع حراكا. وفي الوقت ذاته، ضرب البوار مملكته فأصبحت أرضا خرابا. ويتمكن البطل - عن طريق استخدام الصيغة الشعائرية الصحيحة - من إعادة الملك إلى طبيعته الأولى ورد الخصوبة إلى أرض بلاده.
وقد ألمحت جيسي م. وستون، في كتابها «من الطقوس إلى الرومانس» (وقد أصبح الكتاب مشهورا بوصفه قد ألهم ت. س. إليوت تركيبة قصيدته «الأرض الخراب») إلى أنه يمكن إرجاع هذه الأساطير المسيحية إلى أنماط طقوس الخصب ما قبل المسيحية، من النوع الذي افترضه كتاب فريزر «الغصن الذهبي» وعلينا أن نفترض وجود مرحلة بدائية من الثقافة تتركز فيها تلك الرمزية في شخص الملك المقدس، الذي يحكم بناء على علاقته بالإلهة التي تضفي أيضا الحياة على أرضه. وتكفل خصوبة الملك المستمرة خصوبة الأرض، وحين تضعف خصوبته، لا بد من قتله وإحلال آخر محله. وهذا الآخر لا بد من اعتباره نفس الملك وقد ولد من جديد أو ابتعث حيا. وهكذا فنحن نجد في الشرق الأدنى القديم مفهوم الإله الذي يموت، سواء كان آتيس أو أدونيس أو أوزوريس. وهو حبيب الإلهة أو زوجها أو ابنها، وهي التي تحزن حين يموت مع موت السنة وتفرح عند عودته مع عودة الخصب في الربيع. وقد ألمع «روبرت جريفز» في كتابه «الإلهة البيضاء» - إذ أقام تحليله على أساطير عدد من الثقافات المختلفة - إلى نمط توزع فيه الإلهة حبها بين قرينين، إله السنة الذاهبة، وإله السنة القادمة، حيث ينتصر ويخسر كل منهما مرة بالتناوب في صراع شعائري.
فإذا نظرنا إلى الموضوع من ذلك الجانب، فبوسعنا أن نرى في الملك الصياد، وفي تحول ملك الجزر السوداء إلى حجر، رموزا واضحة، إلى حد كبير، للعجز الجنسي الذي يؤدي بدوره إلى انتقال العجز إلى أرضهما. وفي القصة العربية، تصبح الإلهة هي الملكة الشريرة التي تنقل حبها إلى قرين جديد يثخن بالجراح وتحزن هي عليه كالحزن على أدونيس وأوزوريس. وفي قصص الكأس المقدسة، يبدو أن الإلهة تتمثل في «الصبية الشوهاء» التي تظهر في الكثير من تلك القصص كرسولة الكأس أو حاملته، والتي يتوحد قبحها مع جدب الأرض الخراب. ولا شك في أن قيام الملكة في القصة العربية برش الماء يعكس طقسا من طقوس در المطر؛ وقارورتها غير ذات شأن بالمقارنة بالكأس المقدسة. وقد كان المعلقون المسيحيون مترددين نوعا ما في رؤية رمزي الأنثى والذكر في الكأس المقدسة والحربة، على التوالي. أما أنا فلا أرى ما يزعج في الفكرة التي تنادي بأن رموز وهب الحياة الإيجابية لثقافة في دورها البدائي يمكن أن تلبس قيما جديدة وتصطبغ بصبغة روحية في سياق ديني أكثر علوا.
ويمثل السلطان أو الفارس الذي يخرج ساعيا، الملك الجديد أو الذي يولد ثانية والذي يعيد الخصب إلى الأرض اليابسة. وفي كلتا القصتين، لا يحل السلطان ولا الفارس محل الملك، كما نظن أنه يفعل في الأسطورة الأصلية؛ بل هناك في الحكاية العربية ما هو عكس ذلك، حيث يقوم السلطان الساعي في خاتمة المطاف بتبني ملك الجزر السوداء.
وأعتقد أنه لا بد من اعتبار أن كلا من قصص الكأس المقدسة والحكاية العربية يستمدان من أصل مشترك. فكل منهما يتضمن ملامح يفتقدها الآخر، وإذا اجتمعا معا يلقيان الضوء على نمط الطقوس الأسطورية المفترضة. وتعتقد جيسي واطسن أن النمط الطقوسي الذي لمسته وراء قصص الكأس المقدسة قد جلبه إلى الغرب التجار الفينيقيون في الأزمنة المبكرة، بيد أن هذا الرأى يجب اعتباره اليوم تبسيطا للأمور. فعلى وجه الخصوص، ليس هناك دليل حقيقي على أن تجار القصدير الفينيقيين قد وصلوا إلى بريطانيا على وجه الإطلاق. ومع ذلك، يمكن أن تكون فينيقيا القديمة، حيث راجت عقيدة الإلهة البحرية «أترجاتيس» أو «درسيتو»، هي نقطة البداية لكل تلك الأساطير.
ولقد قيل كثيرا بطبيعة الحال إن قصص الرومانسات الغربية في القرون الوسطى قد تضمنت مادة ذات أصل عربي. وكثيرا ما حدث ذلك، بيد أن العناصر الرئيسية في أساطير الكأس المقدسة تعود فيما يبدو القهقرى إلى الأعراف الكلتية. وواقع أن المملكة التي يحكمها الملك في القصة التي نشير إليها هنا تسمى الجزر السوداء، يفتح إمكانية هامة: هل لدينا هنا حالة قصة غربية تهاجر ناحية الشرق؟ هل يمكن أن تكون الجزر السوداء بأي حال هي إنجلترا واسكتلندا وأيرلندا - التي كان وجودها معروفا - ولو من بعيد - لدى الجغرافيين العرب؟»
وتجدر الإشارة أيضا إلى ما ذكره الباحث كراكشيولو من تأثر إليوت بجوزيف كونراد واهتماماته العربية والبوذية، مما دعاه إلى وضع اقتباس من رواية كونراد قلب الظلمات لقصيدته «الأرض الخراب»، قبل أن يحذف عزرا باوند الاقتباس. وقد ذكر ستيفن سبندر في كتابه عن إليوت أن إليوت قال له إنه كان يفكر - وقت كتابته للأرض الخراب - في اعتناق البوذية.
ونشير أيضا إلى أن إليوت قد كتب وهو في السادسة عشرة من عمره قصة قصيرة عنوانها «قصة حوت» بها أصداء مماثلة لرحلة السندباد البحري الأولى، إذ إنها تدور حول بحارين غرقت سفينتهما وعاشا فوق ظهر حوت هائل الحجم!
Bog aan la aqoon