وما يكاد يصل إلى المدرسة ويجدها قد امتلأت بالأشباح المقرورة من أمثاله التي تبحث عن الشمس؛ فالشمس ليست مثلهم تلميذة في مدرسة. إنها لا تصحو ولا تضيء صباح الشتاء إلا في العاشرة أو ما بعدها. ما يكاد يصل وما تكاد المدرسة تفتح ذراعيها، وتضم تلك المجموعة الضخمة من الفتيان، وما تكاد جدرانها تهب من رفادها الطويل الوحيد، وتشارك الطلبة مرحهم، وتردد لهم أصوات زعيقهم وضحكاتهم، ويتلمظ حصى الفناء منتشيا وهو يستقبل الأقدام الصغيرة الشابة ويلثمها وقد طال شوقه إليها. وما تكاد الأشجار تهفهف بأوراقها وتشقشق سعيدة بجري الطلبة حولها وجذب شعورها وأغصانها، ولا تتألم حتى حين يحفرون أسماءهم عليها، ما يكاد الطلبة يحسون أنهم كائنات حية لها أماني ورغبات وأحلام وأحاديث، ما يكاد هذا يحدث حتى يدق الجرس؛ تتم. تتم. تتم.
وفي الحال تهمد الحركة وتخرس الألسنة وتتجمد الرغبات؛ إذ ما يكاد الجرس يدق حتى يغلق الباب؛ باب لا بد ضخم متين كأبواب السجون. وما يكاد الباب يغلق حتى يفطن الطلبة إلى وجود السور؛ سور لا بد عال هو الآخر، ومزود بالأسلاك الشائكة إن أمكن.
ومع دقة أخرى من الجرس يزحفون صوب مكان الطابور مطأطئي الرءوس، وقد تضاءلت أمانيهم وانكمشت، وأصبح الواحد منهم مجرد تختة أو دواية أو قلم بسط رخيص عليه أن يكتب ويكتب ولا ينقصف سنه أبدا.
تلك التمتمات الثلاث تعني أن اليوم الدراسي قد ابتدأ، وويلهم من اليوم الدراسي حين يبتدئ! حتى الجرس الذي يبدأ به اليوم جرس كالح قديم عليه صدأ أزرق، وله بلبلة أضخم من حجمه واقفة في وسطه كما تقف اللقمة في الزور، حتى صوت الدقات يخرج وفيه من الأنين أضعاف ما فيه من رنين، أنين يعلوه الصدأ هو الآخر؛ صدأ أزرق كالح كئيب.
حتى الفراش الذي يدق الجرس لا بد أن يكون عجوزا خطير الملامح، ولا بد أن يكون له شارب كث يخيف، ولا بد أنه يحس أنه نابليون زمانه أو إسرافيل عصره وأوانه، ولا بد له ساعة أخطر من أية ساعة في الدنيا هي التي تحرك عقاربها المدرسة كلها؛ ولهذا لا بد لها من مخلاة سوداء صغيرة يضعها فيها مبالغة في الحرص عليها، ولا بد أن تجده واقفا تحت الجرس ينتظر ممسكا بالساعة محدقا فيها، حريصا عليها في يده كل الحرص، وكأنها قنبلة زمنية إذا حركها ستنفجر. وقبل أن يحين الحين يقبض على سلسلة الجرس؛ سلسلة لا بد قديمة أو موصولة بدوبارة، ثم تأتي اللحظة فيجذب السلسلة، يجذبها بتؤدة وتقل وكأنه يفرغ الحكمة العليا في تمتماته الثلاث.
وأول ما يسمع بعد الجرس من الأصوات هو: اخرس. بطل كلام.
وبهذا الأمر تقطع كل صلة للطلبة بأنفسهم ويخرسون، ويبدأ المدرسون الذين يفتشون على الطابور في الكلام، ويخرج كلامهم طازجا على الصبح ومنتقى بعناية، بحيث لا تندس بينه أبدا كلمة حلوة، يفرغون فيه كل ضيقهم باليوم الذي أصبحوا فيه مدرسين، وبالمهنة الصعبة التي اختاروها لأكل العيش، وينتقمون من مشاكل الكادر والأمس وشتائم الحماة ومرض الطفل وارتفاع أسعار الصوف.
ثم يظهر الناظر.
يطل على الطابور الصامت بوجه لا صباح فيه ولا خير، يحدق في الطلبة فيموت الطلبة، وفي المدرسين فينكمش المدرسون، وفي الصمت فيقشعر الصمت.
ولا بد أن تكون لدى الناظر مفاجأة لا بد لها من مقدمة شتائم طويلة، ثم حديث عن النظام مثلا، وكيف أنك لكي تدخل الجنة، إذا أردت دخول الجنة، فعليك أن تبدأ السير في الطابور بالساق اليمنى، وأن تسير اثنين اثنين، وكيف أنه لكي تحل مسألة الجبر لا بد أن ترتب ملابسك بنفسك في دولابك الخاص ، وكأن لدى كل طالب ملابسه الخاصة، بل دولابه الخاص.
Bog aan la aqoon