الكنز
الحالة الرابعة
المحفظة
الناس
الوجه الآخر
داووود
مارش الغروب
ليلة صيف
أليس كذلك
المستحيل
Bog aan la aqoon
التمرين الأول
الكنز
الحالة الرابعة
المحفظة
الناس
الوجه الآخر
داووود
مارش الغروب
ليلة صيف
أليس كذلك
Bog aan la aqoon
المستحيل
التمرين الأول
أليس كذلك
أليس كذلك
تأليف
يوسف إدريس
الكنز
عبد العال مخبر بوليس طويل أسمر، وعلى ظهر يده اليمنى سمكة فمها مفتوح، وذيلها مشقوق، وعلى عينها نقطة.
عبد العال مخبر، ومع هذا فله عيلة وزوجة أحيانا تناكفه، وأحيانا ترضى عنه، وأحيانا يحلف عليها يمين الطلاق، ونادرا ما يقع اليمين.
ولعبد العال ماهية عشرة جنيهات بما فيها كل ما ناله، وما لم ينله من علاوات.
Bog aan la aqoon
وعبد العال سعيد جدا بحكاية المخبر. إذا ركب الأتوبيس وجاء الكمسري قال: «بوليس.» وأحس بأهميته وهو يقول بوليس، والناس يرمقونه ويضربون له بعيونهم السلام.
وعبد العال مثل كل الناس يحلم بالمستقبل. وهو لا يحلم حلما عاديا مثل أن يصبح ضابطا أو مساعد حكمدار. هو في الحقيقة يحلم أن يكون وزيرا للداخلية. يا سلام! يصحى الواحد، ويلاقي نفسه وزيرا له عربة وله حاجب، ويقف على باب منزله عسكري على الأقل بشريطين. بسيطة! وليست على الله ببعيدة؛ فالذي خلق الأرض والسموات من العدم، ألا يمكنه أن يخلق من العسكري وزيرا؟ ثم لماذا لا يخلق منه وزيرا وهو دونا عن رفاقه يجيد القراءة والكتابة، ويرطن أحيانا بألفاظ إنجليزية، ويلتهم الصحف ويعرف كوريا، ويستطيع أن ينطق اسم همر شولد صحيحا.
وعبد العال من مدة كان معه تحقيق وسين وجيم؛ فقد اشترك مرة في ضبط واقعة، واستلم هو المضبوطات وأمضى بذلك. وبعد أيام جردت الأحراز فوجدوا حرزا ناقصا، وجاءوا بعبد العال وسألوه وأنكر، وألحوا في السؤال وأغلظوا وتلجلج. وشك فيه الضابط وهدده بالتفتيش. ورأى عبد العال من عينيه أنه ينوي حقا تفتيشه، وحينئذ مد يده في جيبه وأخرج منها الحرز المفقود.
وكان الحرز هو الدليل المادي في القضية؛ فقد كان شيكا مزورا، شيكا بمبلغ مائة ألف جنيه أتقن تزويره.
واستغرب الضابط، وفتح محضرا وراح يسأل. وتوقف عند السين التي تقول: لماذا احتفظت بالشيك المزور معك؟ لم يستطع عبد العال أن يدلي بسبب واضح.
وهمهم وغمغم، وقال كلاما فارغا كثيرا لم يقنع الضابط، ولم يقتنع به هو.
وفي آخر النهار عاد عبد العال من القسم منهوكا محطم القوى. عاد وقد خصم من مرتبه نصفه، ونقل من المباحث، وأنذر بالفصل.
عاد وهو حزين ساخط، ومع ذلك كانت في أعماقه طراوة رضا وسعادة؛ فلا أحد قد فطن إلى أنه كان قد احتفظ بالشيك المزور ليستخرج له صورة فوتوغرافية طبق الأصل، صورة كلفته كثيرا، ودفع فيها خمسة عشر قرشا.
ومضى اليوم، ومضت وراءه أيام، وذهب حزن عبد العال وسخطه، ولكن بقيت صورة الشيك المزور.
وللآن لا تزال أسعد لحظات عبد العال هي تلك التي يهرب فيها من زحمة الناس ويختلي بنفسه، ويطمئن إلى أن أحدا لا يلحظه أو يراه، ثم يخرج حافظة نقوده بعناية، ويستخرج من جيب مخصوص منها صورة الشيك، ويحس بالرعد في أذنيه والتنميل في أطرافه، وهو يرى شعار البنك والحروف المطبوعة، ثم وهو يقرأ الجملة الخالدة ويلمس عليها بأصابعه:
Bog aan la aqoon
ادفعوا لحامل هذا مبلغ ألف جنيه مصري لا غير.
ويستمر يحدق في الشيك حتى تهجمع الزوابع التي في جوفه، ثم يطويه بعناية ويعيده إلى جيبه الخاص في المحفظة ويتنهد، وكأنما قد انتهى من اعتراف أو صلاة، ثم يعود هو في بطء إلى الناس وزحمتهم، يعود كما كان عسكريا طويلا وأسمر، وعلى ظهر يده اليمنى سمكة فمها مفتوح، وذيلها مشقوق، وعلى عينها نقطة.
الحالة الرابعة
انتهى العشاء وهب الدكتور مازن كي يقوم بنوبتجيته في الاستقبال. كان عشاء بيت الامتياز سخيفا في ذلك المساء كعادته كل مساء، كان مكونا من بطاطس مفروض أنها محمرة، ولم تكن لا محمرة ولا مسلوقة ولا شيء من هذا القبيل، إنما كتل لزجة متراصة من مادة البطاطس يفصلها زيت رخيص، ثم أرز باللبن، أو بطاطس باللبن، أو حجارة وحصى و«زلط» باللبن، كله ماشي، وكله لا يقيم أود مخلوق. كان العشاء محنة يضطر إليها الأطباء الذين لا يملكون سوى مرتباتهم، وحتى لا يملكونها كلها فجزء غير قليل منها يذهب إلى عائلاتهم التي رأت المر كي تنفق عليهم، وتجعلهم في نهاية الأمر أطباء «قد الدنيا». أما الدكتور مازن، فلم يكن يحفل بالعشاء أو بالغداء، أو حتى بطعام بيت الامتياز كله. كان أبوه أحد كبار الأطباء في وزارة الصحة، ومن صغره وهو يذهب إلى المدرسة في عربة ويعود في عربة. وحين كان في كلية الطب لم يره زملاؤه الطلبة أبدا إلا ثمة شيء جديد قد أضيف إليه، قد يكون جاكتة، وقد يكون في أحلك الأحوال منديل صدر جديد. وكان العمل بالنسبة للدكتور مازن شيئا مهما حقا. اليوم الذي يأخذ نوبتجيته فيه كان يسبقه إعداد أيما إعداد؛ فلا بد أن يتفق مع اثنين من زملائه «الغلابة» على أن يأتوه ليسلوه في وحدة نوبتجيته. ويختارهم مازن بعناية؛ فأحدهم لا بد يجيد رواية النكت ويخلق من التفاهة فكاهة، والآخر لا بد أن يكون عليما ببواطن الأمور يحدثه حديث العارف عن الأسرار الرهيبة التي تدور داخل جدران المستشفى، وعن الزملاء الأطباء وعلاقاتهم الخفية مع الممرضات والحكيمات، وعن الفضائح. ثم لا بد أيضا من إعداد للعشاء؛ فقبل الثامنة يرسل عبد الغني فراش بيت الامتياز إلى جروبي أو الإكسلسيور ومعه قائمة معدة ومنتقاة بعناية لعدد كبير من الساندويتشات. ثم لا بد آخر الأمر من إحضار عدد من المجلات المصورة الأمريكية والفرنسية، تحتوي على عدد من الوجوه والأجساد الجميلة يكفي للتفرج عليها ليلة بأكملها. كان لا بد من إعداد هذا كله في يوم النوبتجية؛ حتى لا يحس مازن بأي سأم أو ملل. ومع كل هذه الاحتياطات، ولو فرض ووقع المحال، وأحس بشيء من الملل والسأم، فهناك التليفون، وهناك ثلاث فتيات وامرأة متزوجة تملك أجمل صدر في جاردن سيتي، مستعدات أن يقضين معه الليلة في كلام ودردشة وفكاهات.
هبط الدكتور مازن إلى الممر الطويل، وكل شيء على أتم ما يرام؛ البالطو أبيض ونظيف ومكوي، والبنطلون الأبيض حده كحد السيف، والسماعة معلقة في صدره يلمع معدنها، والحمام الدافئ الذي أخذه بعد إغفاءة الظهر يخدر وجهه، ويجعل من خلاياه دوامات صغيرة تدور بها السعادة. كل شيء حتى شكله كان قد ألقى نظرة طويلة على نفسه في مرآة التسريحة الحكومية الحادة في بيت الامتياز، واطمأن - كعادته - إلى الصورة التي سيكون عليها حين يراه الناس. جسده طويل رياضي لا انبعاج فيه، وسنواته لم تتعد الخامسة والعشرين، ووجهه أبيض حليق ناعم جميل، والشعر موزع توزيعا أنيقا على رأسه. أربعة أخماسه تتموج إلى اليمين، والخمس الباقي يستكين إلى اليسار، ولا تنفر منها شعرة واحدة.
كان الممر طويلا قد حل الفساد في بعض مصابيحه، فانطفأت تنتظر الاستمارات ومصلحة المباني لاستبدالها، وكان النور يتسرب إلى الممر من الأقسام التي على يمينه وعلى يساره، فيضيء الممر بنور شاعري رقيق. وكان البالطو الأبيض يحف حفيفا خافتا كلما اصطدم بساقيه الطويلتين السائرتين، والكولونيا تدفع ببرودة ذات رائحة جميلة إلى ذقنه، وكان جيب البنطلون على صغره يضيق بباقي الورقة ذات العشرة الجنيهات، والدنيا في نظره لحن جميل كأنغام الكمان في رقصة شهرزاد.
وكان يلقي التحيات ذات اليمين وذات اليسار، تحيات المساء كان يلقيها من أنفه إلى تلميذات الأقسام الساهرات. وكان دقيقا في إلقاء تحياته؛ فهو يعرف أنه جميل وغني ومن عائلة، وأن التلميذات لا بد يحلمن به وبابتسامة منه، ولكنه أعرف الناس بالبيئة التي ينشأن فيها، ويقبلن منها إلى المستشفى تدفعهن الحاجة لأكل العيش والعمل، وإهدار سيرتهن على الألسنة والأفواه؛ ولهذا لم يفكر أبدا في مصاحبة إحداهن أو حتى في التحدث معها. كان حديثه مع الواحدة منهن لا يستغرق لحظات، وكله «حديث عمل» لا يزيد كلمة ولا ينقص كلمة، ولكنه لم يكن يحب أن يبدو متكبرا في نظر الناس، وكان عليه أن يحييهن، ولكنها لا بد أن تكون تحية مضبوطة لا تغري بالألفة، ولا تهبط بمستواه، ولا ترتفع بمستواهن.
مضى في الممر المظلم الحالم يلقي بتحيات المساء بإيماءاته، ويحس أن الناس كلهم لا بد في مثل دقته ونشاطه، وأن الوجود لا يستحق مليجراما واحدا من التعاسة، والحياة لو أخذت هكذا سهلة بسيطة بلا أحقاد أو تعقد لما أصبح للناس في الدنيا مشاكل.
ووصل إلى قسم الاستقبال. كان زبائنه كثيرين في تلك الليلة، وكانوا ينتظرونه لا بد من قبل أن تغرب الشمس. وعلى الرغم من كل شيء فالدكتور مازن كل يحب نوبة المساء. كانت بالنسبة إليه فترة مستحبة لا تتملكه فيها عصبية النهار، ولا يقاسي من كثرة المرضى الذي يقفون أمامه في طابور لا أول له ولا آخر، ويقبلون إلى المستشفى مع الفجر.
وتصاعدت الهمهمات من الجمع الصغير لمقدمه، ولم يكن قد تمعن فيهم، أو حتى ألقى إليهم تحية المساء. اكتفى بالتفاتة سريعة يعرف بها كم عددهم، وكان واضحا أنهم أكثر من العدد الذي وجده في النوبة السابقة، وأحس لهذا بنوع من الزهو. وحين وقف أكثرهم، وأفسحوا له الطريق، ودلف من بينهم تحفه التحيات والدعوات من الجانبين ملأه يقين بأهميته، ودون وعي أمسك بوق السماعة بأصابعه، وازداد إحساسا بضرورته، وشخط في التمورجية العجوز؛ فقد وجد مقبض الباب لا يلمع، وبقايا بصاق عالقة بالحائط، وأسرعت المرأة بأعوامها الخمسين تجري ويطرقع قبقابها على البلاط، وتزيل البقايا، وتلعن المرضى وقذارتهم.
Bog aan la aqoon
ودخل الدكتور مازن إلى غرفة الكشف، وكعادته أمر التمورجية بالوقوف على الباب والحيلولة دون دخول أحد إلا لبناء على أمره وطلبه.
وانبعج الكرسي وهو يحتويه، وأمر بفنجان قهوة - سكر شوية - وأكد على التمورجية وتوعدها إذا لم تأت القهوة «سكر شوية»، ومضى يقلب صفحات مجلة «ومن» ويتوقف لدى كل صفحة.
وأخيرا جاء الفرج حين دق الجرس، وأشار للمرأة برأسه دون أن ينطق حرفا.
ودخلت الحالة الأولى تجأر. وقبل أن تنطق كان قد عرف كل شيء، وكتب في التذكرة حقنة تداوي المغص، كان يعرف أنها غير موجودة، وأنها نفدت من الأجزخانة، ولا زال طلبها من الوزارة جاريا، وكان يعرف عن ظهر قلب ألفاظ المحاورة التي سوف تدور بعد قليل بينه وبين المريض حين يعود إليه خالي الوفاض من الدواء، والتي يعلم أيضا أنها تنتهي في العادة بطرد المريض وإدخال آخر.
ودخلت الحالة الثانية والثالثة.
وكان لا يزال مستغرقا في المجلة يتحقق في صورة ممثلة فرنسية ترتدي «مايوه» مصنوعا من جلد رأس فهد، وبه ثقوب مكان العينين والفم، والثقوب تظهر أجزاء من جسدها، ويخفي الجلد أجزاء، وهو منفعل يحاول أن يشغل خياله ليجد ما وراء الجلد أو يخمنه، كان كذلك حتى دخلت الحالة الرابعة.
ولم يتنبه ولم يعد من الوديان التي كان يمرح فيها خياله، ثمة سؤال صغير مضى يشغله؛ ترى أهي حالة مغص أو تسمم؟ وكالعادة مضى يسأل دون أن يعنى بسماع الجواب: اسمك إيه؟ وعاوزة إيه؟ وبيوجعك إيه؟
ولم يعتدل إلا حين خبط عسكري كان واقفا أمام مكتبه، خبط قدميه في سلام عظيم، وقدم له أوراقا كثيرة يحتويها دبوس واحد.
ومر الدكتور مازن على الأوراق مرور الكرام؛ إشارات ومكاتبات مكتوبة بسماجة لا طريف فيها ولا جديد، ولم يقرأ منها ولا فهم حرفا.
وتطوع العسكري بالشرح، وقال إن الحالة التي يستصحبها امرأة مراقبة ليس لها منزل تراقب فيه؛ ولذلك تقضي الليل في القسم، وقد أبلغت الليلة أنها مريضة و...
Bog aan la aqoon
ولم يدعه يكمل هذه السخافات. أشار إليه أن يصمت، وتطلع إلى المرأة بحب استطلاع حقيقي. لم يكن في حياته قد رأى امرأة مسجونة أو حتى مراقبة، وكان يعتقد أن الواحدة منهن لا بد مجرمة طويلة عريضة تفوح منها القوة، وينضج جلدها شراسة، ولها عين وقحة لا يطفئها الرصاص، وأخرى فيها دهاء الثعالب وسم الأفاعي.
ودهش! فأمامه وعلى الأرض المصنوعة من بلاط كانت تجلس المرأة وقد ضمت أجزاءها الناحلة، ووضعت رأسها بين ركبتيها، بينما راحت عيناها الخابيتان تطلان إليه في وهن القطة الجائعة المتعبة.
وأصيب بخيبة أمل؛ كانت المرأة دودة صغيرة قد التفت حول نفسها لا قوة فيها ولا جبروت، ولا شراسة فيها ولا غدر، ولا يصدر من عينيها إلا استسلام ذليل.
وهز الدكتور مازن كتفيه بعدم اكتراث، وقد فشل في إقناع نفسه بإجرام الدودة التي أمامه. وارتسم على شفتيه الاحتقار. وبنفس الاحتقار هز لها رأسه، وأشار لها بيده أن ترقد وهو يحس في قراره نفسه باشمئزاز مفاجئ.
وحدق برهة في جسدها الأصفر الشاحب، وفي بطنها الذي يتموج الجلد المشوه فوقه، وفي يديها الموضوعتين تحت رأسها، وقد أغلقت عينيها وكأنها في سبات عميق، وكثر اللعاب في فمه وهو يطيل تحديقه.
ولو كان في النهار لما حفل بالكشف عليها، ولكنه الليل ومزاجه المعتدل، وهكذا أخذ يستمع إلى أنفاسها، ويعد نبضات قلبها، وهو حريص كل الحرص على لم معطفه؛ حتى لا يلامسها أو يحف بثيابها.
وسألها في فتور وهو يأمرها بإدارة فمها بعيدا عنه: لماذا سجنوها؟
وكان وهو يسألها يعرف أنها ستنكر وتصر على براءتها، وعلى أنها مظلومة مضطهدة، كلهم مجرمون كذابون، يقتلون القتيل ويمشون في جنازته، ولكن المرأة قالت في هدوء، قالت في هدوء غريب: مسجونة بحشيش.
وخلع الدكتور مازن السماعة عن أذنه كمن لسعه معدنها، وعبر جسدها بنظرة واحدة، وتطلع إليها، ثم عاد إلى كشفه وهو مضطرب يكاد يخاف.
وقال لها: كحي!
Bog aan la aqoon
فكحت. وانهجي! فنهجت. وصرخ فيها أن تتنفس بعمق ففعلت.
وانتهى الكشف.
وحين كانت الممرضة تصب فوق يده الكحول ليطهرها، مع أن يده لم تكن قد لامست المرأة، ولا علقت بملابسها، وكان يفرك يديه ضيقا بهؤلاء الناس الحمقى الذين لا يجدون إلا الإجرام وسيلة لقتل أنفسهم.
وقال لها في تشف وكأنه يعاقبها، ويحس بالارتياح وهو يعاقبها: إنت عيانة!
فقالت وهي ترتدي ملابسها وتتثاءب الكلمات: بإيه يا بيه؟
وضايقته الطريقة التي سألته بها. إن هؤلاء الناس لا يحسون. إن كلمة المرض كلمة مرعبة تبعث القشعريرة في الأوصال، فكيف بها تتلقاها دون أن تتحرك لها ساكن؟ ضايقته الطريقة فقال: إنت عندك سل.
قالها وهو مقدر أنها ستشعل النار في رماد تلك المرأة فتنتفض وتصرخ، وتتوب عن لهجتها المتثائبة، وتبكي وتلطم وجهها على الأقل، ولكنها أجابت وكأنها تحلم وتريد إغاظته: طب مانا عارفة.
وهم برش الكحول في وجهها وعينيها، ولكن هدوءها أعداه، وتراخت يده القابضة على الزجاجة، وتراخت معها أعصابه، وجلس على الكرسي، وأشعل سيجارة، وبدأ ينظر إلى المرأة من جديد. إنه بالتأكيد ليس أمام حالة أخرى ليكش فيها وترتعد خوفا وهلعا. إنه أمام مريضة من نوع جديد لا يفلح معها تهويشه، ثم إنها مريضة بالسل.
ومع أنه طبيب إلا أن خوفه من السل ومرضاه كان لا يقل عن خوف غيره من الناس. وقال لها في لهجة رقيقة نوعا: وعرفت ازاي؟
وبانت لها سنة صفراء تلمح في فمها وابتسمت، أجل ابتسمت، وجهها الأصفر كالكهرمان تداخلت فيه أجزاء وتقلصت أجزاء، وأفلح في رسم ابتسامة، وقالت إنه ليس أول طبيب يراها، والمرض له قصة؛ فهو قد داهمها في السجن في الأيام الأولى من سجنها.
Bog aan la aqoon
وعبثت أصابعه بالسيجارة، وضغط عليها بعصبية، وكانت سحب الدخان قد حملها الهواء بعيدا، فبدت المرأة واقفة أمامه نصف مستندة إلى الحائط، وكلامها ينساب في هدوء غريب محير، وملامحها لا تنفعل لكلامها كأنما هي تتحدث عن كارثة أصابت إنسانة أخرى.
وتحت وقع حديثها المنخفض اللين ترعرعت رغبته في معرفة حكايتها. لم يكن هذا طبعه؛ فهو لم يتعود أبدا أن يأخذ ويعطي مع أحد من مرضاه، ولكنه لم يستطع المقاومة، ونسي نفسه والمرضى المنتظرين، وسألها في طفولة أن تحكي قصتها.
ولم تعتدل أو تتنحنح أو تصطنع التذكر، إنما وهي نائمة صاحية، والكلمات تجهضها شفتاها، فتخرج ميتة لا حرارة فيها ولا انفعال، مضت تقول: يا خويا ولا حكاية ولا حاجة ... أنا أصلي م الفيوم، وأوعى ألاقي نفسي شايلة الشاي مع أبويا في الموقف. ولما مات المرحوم بقيت أعمل أنا الشاي، وحبني جدع سواق، وحبلت، وسقطتني مرات أبويا. ولما ضاقت الفيوم في وشي جيت مصر. مصر أم الدنيا، هئ، هئ، هئ! جيت مع سواق، ومن سواق لسواق اتبدل على الموقف لحد ما اتلميت على واد نشال بقى ياخد علي فلوس، وعلمني الصنعة. أهه قلمك البالكر أهه، حسيت بحاجة؟ هئ، هيء! والنبي نفسي أبوس شفايفك الحلوين الحمر دول. يوه ما اطولشي عليك خدني الواد في قمته وتحبست مرة، وطلعت وراقبوني وتفتكر سكت؟ بقيت أنشل برضك، وتاجرت في الحشيش كمان، وبقيت أكسب ومعلمة قد الدنيا. وليا رجالة، ومشيت مع العسكري اللي كان بيراقبني ، واتمسكت أنا وهوه، وآدي أنت شايف أهي عيشة اللي يحب النبي يزق.
كانت تتكلم كمن يحلم، غير حافلة بمن يسمع كلامها أو مقيمة وزنا للطبيب وسماعته ومعطفه، ولا حتى ملقية بأي اعتناء إلى العسكري الواقف بجانبها منتصبا كماسورة العادم. وكما بدأت في هدوء انتهى كلامها في خفوت حتى سكتت.
وطوال الحكاية كان وجه الطبيب كشاشة العرض تتغير عليها الألوان وتتبدل. كان يسمع أشياء خطيرة تقال هكذا بسهولة، وكان وجهه يحمر ويصفر كالعذراء حين تمتد إليها يد جريئة، وتعبث بأقدس ممتلكاتها وقيمتها. وكانت المرأة تعترف بكل شيء دون حياء أو خجل كأنها أستاذة تحاضر في علم النفس.
ورغم كل ما اعتراه وأذهله، فقد كان عليه أن يقول شيئا يبدد به الانتظار الصامت الذي ساد الحجرة، فسألها وهو يقهقه ولا يدري لماذا يسأل، أو لماذا يقهقه: وانت، مالكيش أهل؟ مالكيش أهل؟
فقالت وهي تريح رأسها على الحائط: ليا. - إيه؟ - بنت.
وعاد يسأل وهو لا يدري لماذا يسأل: ليه ... إنت اجوزتني، ولا ...
فقاطعته وهي تسبل عينيها: وح تفرق إيه لما تكون بنت العسكري ولا المعلم. أهم الاتنين أزفت من بعض.
ومضى في أسئلته التي كان يلقيها من وراء عقله: والبنت فين دلوقت؟
Bog aan la aqoon
ولمح أولى دلائل الحياة في بريق لمع من عينيها، وهي تقول: في المدرسة. - إيه؟ - بتروح المدرسة، وبتطلع الأولى ... دي بنت شاطرة قوي تعجبك. - وبتصرفي عليها منين؟ - ربك ما ينساش عبيده.
وسألها وقد انتابه بعض الضيق: ومودياها المدرسة ليه؟ إنت ناقصة؟
وازداد البريق في عينيها الخابيتين وهي تقول: عايزاها تطلع دكتورة.
وأعقبت إجابتها بسرب من الضحكات الخليعة الميتة.
وتمتم في سره: جتك نيلة.
وفي نفس الوقت عثر على السبب الذي من أجله كان يردد أسئلته التي بدت له سخيفة لا معنى لها، ولا ليس وراءها طائل. كان عقله حتى تلك اللحظة يضرب أخماسا في أسداد، ويفكر فيما يفعله من أجلها، فهو لا يستطيع إدخالها المستشفى؛ فليست هناك أسرة خالية، ولا يستطيع رفع الرقابة عنها؛ فليست له السلطة، وليس لها بيت.
وقلب الأوراق التي أمامه بيد غير مستقرة، وتمتم وكأنما يحدث نفسه: طب وح اعملك إيه بس؟
وفوجئ بصوتها الهادئ يخترق حيرته كاليد الجريئة العابثة، ويقول: لا تعمل لي ولا أعمل لك. اديني الأجازة وخلاص.
وحملق فيها وكأنه يرى شبحا من الأشباح. وبدا له كأن المرأة مارد سيبتلعه، وأحس بضيق، وتبدلت لهجته فجأة، وأظلمت ملامحه، وقال: طب اخرسي انت.
وأمسك بالقلم، وحركه في الهواء مرات قبل أن يكتب الجملة التي لا يملك غيرها:
Bog aan la aqoon
حضرت وعمل لها اللازم، وتحتاج لإجازة من المراقبة قدرها عشرة أيام.
وخطت ناحيته متمايلة في ضعف، والتقطت البقية الباقية من سيجارته الثالثة التي كانت ترقد على الأرض، وأخذت نفسا ثم أخرجت دخانا كثيرا عاليا، ورنت منها ضحكة خافتة وهي تقول: مش برضه عشرة أيام يا دكتور؟
وكان أمامه رد واحد؛ أن يصفعها، ولكنه خجل؛ فليس هناك سبب واحد معقول يتيح له صفعها، وسكت، وقالت وهي تأتي على الأنفاس الأخيرة من السيجارة: والنبي لطلع فاطمة دكتورة حلوة زيك كده، والنبي.
وكادت تسترسل لولا النظرات النارية التي تفجرت من عينيه، فقالت: سبتك بعافية بقى.
وفي هدوء بطيء ذهبت إلى الركن، وأخذت منه صرة ملابسها، وخرجت منحنية على نفسها وبقايا السيجارة تحرق أصابعها الجافة، وذرات الدخان تشيعها.
وخبط العسكري الذي يحرسها قدميه في سلام صاخب، وأخذ الأوراق ومضى.
وجلس الدكتور مازن صامتا، وقد توقف تفكيره، وثمة غيظ يخنقه وإحساس بالخوف؛ خوف ميت بليد يزحف عليه من حيث لا يدري ولا يعلم. وتحسس بلا وعي سماعته وزرر البالطو، ثم خبط المكتب فجأة بقبضة يده حتى قفز قلمه وسقط على الأرض، وانقصفت سنه.
وجاءت التمورجية العجوز على الخبطة، ولم يكد يراها حتى انفجر وراح يعيد توبيخها لقذارة المقبض والبصاق العالق بالحائط. ولم يكتف بهذا، بل أقسم أنه سيكتب مذكرة للمدير لخصم ثلاثة أيام من مرتبها.
المحفظة
من الساعة الثامنة وسامي يجلس على ذلك الكرسي الصغير في ركن الحجرة، وأمامه المنضدة والكتب والواجبات والجداول، وأمامه فوق هاته جميعا المشكلة الكبيرة الضخمة التي كان قد حدد ليلتها بالذات ليحلها.
Bog aan la aqoon
إنه لم يعد يستطيع، فليست هذه أول أو ثاني مرة. له شهر وهو يتفق مع صلاح وعبد المنعم على الذهاب إلى السينما، وفي كل مرة: غدا، أجل غدا. خلاص يا سامي، خلاص يا صلاح، الساعة تلاتة أمام شباك التذاكر، الساعة تلاتة. ثم يأتي الغد ولا يذهب. لا يستطيع الحصول على الشلن، ولا يستطيع حتى أن يري صديقيه وجهه ليبدي لهم عذره. وهذه المرة من أسبوع وهو يحاول. إن «المصروف» الذي يتناوله بين كل آن لا يكفي، والمطلوب خمسة قروش. قال لأبيه إنه يريد كراسة، وقال مرة ورق أشغال، ولم يحصل على ثمن لهذا أو لذاك. حاول مع أمه بلا فائدة. كلما ألحف عليها رفعت كفيها إلى السماء، وطلبت من الله أن «يسبك» ما معها من نقود على عينيها إن كان معها نقود.
ما هي حكاية هؤلاء الناس؟ إنه ما طلب منهم أبدا نقودا وأعطوه. دائما والله ما معنا. وأبوه، أبوه بطوله وعرضه وكرشه الودود وأصابعه الغليظة، أبوه كله لا يتورع عن القسم أمامه بأغلظ الأيمان أن ليس معه ولا «خردة». وهل هذا معقول؟ أمعقول أن أباه مفلس تماما كما يحاول أن يفهمه؟ أبدا! غير معقول بالمرة. إنه قادر على كل شيء، إنه يستطيع أن يفعل أي شيء، فقط لو أراد. أليس هو الذي أدخله المدرسة بعدما دخل الأولاد كلهم ورفضت أوراقه هو؟ أليس هو الذي أقسم يومها أن لا بد من دخوله في اليوم التالي، وغاب عن المنزل طيلة ما بعد الظهر، وأدخله في اليوم التالي؟ إنه يستطيع أن يفعل المستحيل. مرضت أخته، كانت أمه تقول إنها ستموت، وكانت تبكي، وكان سامي يبكي، وكان أبوه هو الوحيد الذي لم يبك، والذي قال إنها لن تموت، وهو الذي أخذها إلى الحكيم واشترى الدواء، ولم تمت سامية. أبوه هذا القادر على كل شيء قال له أمس وأول أمس واليوم أيضا إنه مفلس. حدثه سامي عن اتفاقاته السابقة مع صلاح وعبد المنعم واتفاقه ذاك، وضحك أبوه الطيب وقال: خليك لأول الشهر . وأكثر من الطلب وأكثر أبوه من القسم: والله ما معي يا بني. وهل هذا معقول؟ بيتهم كله إذن ليس فيه شلن؟ إنهم يضحكون عليه. إنهم يظنونه طفلا صغيرا من السهل خداعه. إنهم لا يعنيهم أبدا ذهابه إلى السينما ولا يقدرون قيمته؛ لأنهم لم يجربوها ولم يذهبوا إليها. إن المسألة بالنسبة إليهم ليست خطيرة. إنها ليست كمرض سامية. ويعتقدون أنه غر أبله يكفي أن يقسموا أمامه لكي يصدقهم؟!
لقد أحكم التدبير وكل لحظة معدة إعدادا دقيقا في رأسه. سيحصل على هذا الشلن بأسهل مما كانوا يتصورون. أيعتقد هؤلاء الناس أنه لا يعرف محفظة أبيه ومكانها وضخامتها وما تحتويه؟ أحسبوه مغفلا إلى هذا الحد؟
الساعة العاشرة. أبوه وأمه وإخوته كلهم نائمون في الحجرة الثانية. إنه لا يخاف من أحد سوى أبيه. أمه لا تستيقظ أبدا في الليل. أبوه هو الذي توقظه كل حركة مهما بلغت تفاهتها. عليه أن ينتظر قليلا حتى يطمئن إلى أنهم جميعا قد استغرقوا في النوم إلى آذانهم.
وأراد أن يقضي الوقت في حل مسألة الحساب الباقية من الواجب، ولم يستطع. كان «ثمن الشراء» يقفز أمامه ويصبح «ثمن البيع»، وكان يضع «العلامة العشرية» على يمين الرقم، فإذا بها تساهيه وتتسلل وتصبح على يساره. ونفض يده من المسألة، وراح يتأمل كالتائه محتويات الحجرة التي يذاكر فيها هو وأخته، والتي يأكلون فيها أيضا، ويستقبلون الضيوف، وتناله الصفعات أحيانا.
وانتبه إلى نفسه على صوت يأتي من الخارج، وأصاخ أذنيه. كان بيتهم كالقبر لا يسمع فيه خرير الماء القليل الذي يتسرب من الحنفية، وسرسعة الصراصير في المطبخ. وكان الحي بأكمله ساكنا سكونا أبديا لا يقطعه سوى ذلك الصوت؛ صوت وحيد متهدج كأنما يعزي الناس على خيبتهم.
وأدرك سامي بعدما تسمع قليلا أنه صوت المذيع يقول نشرة الأخبار.
ودق قلبه.
لقد حانت الساعة.
وغادر مكانه على أطراف أصابعه. واحتار أيطفئ نور الحجرة أم يبقيه؟ يبقيه. إنه خائف والنور يونسه. وتوقف في الصالة الصغيرة التي تفصل حجرتي شقتهم. أبوه يشخر، عظيم!
Bog aan la aqoon
وتقدم من باب حجرة النوم وأدار «الأكرة». الباب يزيق كلما فتح. عليه إذن أن يفتحه ملي بملي. ها هو قد أصبح في الداخل. الظلام ثقيل، إنه لا يرى شيئا المرة. ماذا حدث لعينيه؟ شعاع واحد يتسرب من الباب الموارب. أبوه يشخر. أخته تقرض مثل الفأرة على أسنانها كعادتها حين تنام. إنه يرتعش. لماذا يدق قلبه هكذا؟ إذا لم يهدأ سيوقظ أباه بدقه الملعون. ولماذا كل هذا العرق؟ تقدم يا ولد! تقدم!
وتقدم سامي أكثر في منتهى الحذر. السرير الذي يرقد فيه والداه وأخته على يمينه، أخوه الصغير يرقد على «الملة» التي يشاركه فيها. الدولاب بعد خطوات قليلة على يساره. عليه أن يزحف بقدميه حتى لا يسهو ويصطدم بأخيه النائم ويصرخ وتكون الكارثة. كف عن الدق أيها القلب اللعين. شخر يا أبي شخر. ارفع من صوتك هذا الذي طالما أرق نومي.
وحدث أن توقف فجأة عن الشخير، وتوقف قلب سامي هو الآخر.
ولكن أباه عاد وجذب نفسا عميقا مصحوبا بشخير أعمق. نعم، هكذا، هكذا يا أبي أرجوك.
ملمس الدولاب الناعم كالحرير أصبح يحسه. ها هي قبضته المكسورة، عليه ليفتحه أن يمسك المقبض بقوة، ويرفع «الضلفة» إلى أعلى قليلا ثم يجذبها بسرعة، هكذا جرب أن يفتحها في النهار دون أن تحدث صوتا.
وفتح الدولاب.
وأصبحت الملابس المعلقة داخله في متناول يده. كان لديهم شماعتان، أمه قد أخذت شماعة بأكملها لملابسها وقاسمت أباه في الأخرى. ولم يكن عسيرا عليه أن يفرق بين الشماعتين؛ فملمس بدلة أبيه الخشنة واضح، والرائحة التي تنفثها البدلة واضحة أيضا، إنها رائحة أبيه، إنه يعرفها فطالما شمها وهو يعانقه، وطالما شمها في «جاكتته» القديمة التي يرتديها وهو يذاكر حتى لا يبرد.
بحث في أول جيب صادفه. ليس فيه سوى المنديل مكورا، وأشياء في قاعة تستقر كحبات الرمل، ولم يجد في الجيب الآخر شيئا.
وكان سامي يتوقع هذا؛ إذ ليس من المعقول أن يضع أبوه نقودا في جيوبه الخارجية. النقود في المحفظة، في الجيب الداخلي. ورغم هذا بحث - من قبيل الاحتياط - في الجيب الصغير الذي توضع فيه «الفكة». كان خاويا تماما. ليس هذا فقط، بل لم يجد له قاعا أبدا!
وأحس بشيء من الرهبة وهو يدخل يده في الجيب الداخلي. ودق قلبه بعنف حين عثرت أصابعه على المحفظة، وحين استخرجها من الجيب أحس بشيء داخل نفسه يشتمه ويلعنه، وأجفل، ولكن المحفظة كانت قد أصبحت في يده، وكانت ثقيلة سميكة، لها رائحة خاصة مقبضة.
Bog aan la aqoon
وارتبك.
كانت الخطة التي وضعها منذ الأمس تنتهي بحصوله على المحفظة، ثم، ثم ماذا يفعل؟
وفي سرعة كان قد أدرك أنه من المستحسن أن يأخذها إلى الحجرة الأخرى، ويأخذ منها القروش الخمسة، يأخذها من «الفكة»، فأبوه قطعا يعرف عدد النقود الورق، أما «الفكة» فإنه لا يعرف عددها، ولن يلحظ غياب خمسة قروش منها.
وتسلل خارجا. وتقلبت أمه وغمغمت وهو يمرق بين ضلفتي الباب، ولكن الموقف كان قد دبغ أعصابه، فلم تعد تهزه أصوات أو غمغمات. وما كاد يصبح في الحجرة الأخرى حتى أغلق الباب وجر الكنبة ووضعها خلفه، وجهز حكاية يقولها لأبيه إذا صحا وضبطه محكما إغلاق الباب على تلك الصورة.
وجلس أخيرا على نفس الكرسي الذي دبر عليه الخطة، ووضع المحفظة أمامه. كانت شيئا ضخما كبيرا في حجم الكتاب المجلد وكأنها محفظة بنك، وكانت من النوع القديم الأجرب الكالح. وكان يعرف أن أباه يضع الفكة في جيبها الرئيسي الطويل، وفتحها بسرعة ومد يده داخلها ولم يجد شيئا. وقلبها وظل يرجها وسقط منه شيئان: نص فرنك ممسوخ معضوض لا بد أنه كان لازقا في طياتها. والشيء الآخر كان غريبا عجيبا؛ «زلطة» سوداء صغيرة مفلطحة شكلها لذيذ. ماذا يفعل أبوه بتلك الزلطة؟ ولماذا يحافظ عليها ويضعها هكذا في أعماق المحفظة؟ أفيها سر؟ وهل يتقي بها العفاريت؟ أو يستعين بها على جلب النقود إلى المحفظة؟
ولم يلبث أن ترك الزلطة وأمسك بالقرشين، قرشان؟ كل ما معه من فكة لا يتعدى «النص فرنك»، وليته نصف فرنك صالح للاستعمال، إنه يشك كثيرا من إمكان تداوله.
ما هذه المصائب؟ كل ما توقعه يصفي على قرشين؟!
وأخرج سامي كل ما في باقي جيوب المحفظة من أوراق، وتفحصها جميعا بنظرة واحدة سريعة. ولمح من خلال الكومة التي أصبحت أمامه عشرة قروش تكاد تزهق روحها من كثرة ما تراكم فوقها. وكان من المستحيل أن يصدق أنها كل ما في المحفظة من نقود. لا بد أن البقية يحتويها ظرف من تلك الظروف؛ إذ كثيرا ما رأى أباه يضع فيها الأوراق الخضراء والصفراء.
ومضى يفتح الظروف ويستخرج محتوياتها. كانت رغبته العارمة في العثور على الشلن هي التي تدفعه أول الأمر إلى فض المظاريف والبحث بينها، ولكن بعد لحظات غلبه حب الاستطلاع على أمره. كانت تلك أول مرة يتاح له فيها أن يطلع على مكنون محفظة أبيه، وعلى ما فيها من أوراق لا بد أنها مهمة جدا، لها أهمية غير عادية، وإلا لما احتفظ بها داخل تلك الحوصلة الجلدية. كثيرا ما رأى المحفظة وهي خارجة داخلة إلى جيب أبيه، وهي مفتوحة ومطوية، وهي في مكانها المعتاد، ثم وهي ترقد تحت «المخدة» أحيانا. كثيرا ما ألحت عليه الخواطر والهواجس تخمن ما تحتويه وتدفعه إليها دفعا، ومحتوياتها كلها أمامه الآن، فأية فرصة ذهبية جاءته من السماء!
لم يكن يفهم ما يقرؤه تماما، ولكنه كان مسرورا قلقا؛ ذلك النوع الغريب من القلق البهيج الذي يعتري الإنسان كلما أتيحت له معرفة سر من الأسرار بطريقة محرمة.
Bog aan la aqoon
وجد خطابا من خاله، يتكلم فيه عن ميراث، وعن مبلغ، ويسلم فيه عليه. ترى لماذا لم يبلغه أبوه السلام؟ ثم ما تلك الأوراق الصدئة المهرية التي لا تسمن ولا تغني من جوع؟ إن حبرها من نوع أسود قديم لم يره أبدا، وخطها حلو، وهذا الشيء المرسوم عليه مئذنة وقبة. قد صار زواج فاطمة بنت عبد الله، من تكون؟ أتكون أمه. لا بد ولا بد أن يكون إبراهيم منصور أباه. وهذه الورقة الحمراء؟ إدارة الغاز والكهرباء؟ نرجو عند الرد ذكر رقم 284، إيه ده؟ وإذا مش عارف إيه سنقطع التيار. ما هو ذلك التيار الذي سيقطعونه وبأي شيء سيقطعونه؟ وهذا الظرف المكتوب عليه «قطعة من كسوة الكعبة الشريفة، هدية من العبد الفقير إلى الله تعالى الحاج مبارك محمد حسن»، قطعة القماش السوداء هذه التي في الظرف من الكعبة؟! ياه! إن رائحتها صعبة، أمسك ذاك أم عنبر؟ هي السبب إذن في تلك الرائحة المقبضة التي تنبعث من المحفظة؟
وكان ممكنا أن يظل سامي مستغرقا في نشوة الاضطراب الخفي تلك، ولكنه وفي خضم ما كان فيه وعت أذنه صوت السلام والراديو يذيعه وختم به برامج السهرة.
وفي الحال عاد إلى نفسه مضعضع الحواس، وكأنما ضبط متلبسا، وأصبح همه في اللحظة التالية أن يعيد الأوراق كلها إلى ما كانت عليه بنفس ترتيبها ونظامها؛ حتى تبدو وكأن لم يمسسها بشر. وفي الحق كانت مهمة صعبة، ولكنها انتهت. وبقيت العشرة قروش راقدة أمامه على المنضدة منطوية على نفسها كالخرقة البالية. لم يرجعها إلى المحفظة، وكذلك لم يدسها في جيبه. وكان عليه أن يقرر أمرا من الاثنين، ولم يكن القرار سهلا. إذا أخذها لا بد ستنكشف السرقة، وإذا تركها فقد آخر أمل في الوفاء بالميعاد والذهاب إلى السينما.
والعجيب أنه لم يفكر في واحد من الأمرين، كان قد أفاق من النشوة التي أتخم بها حب استطلاعه، وامتلأت نفسه بالحنق الشديد. كيف لا يعثر إلا على عشرة قروش مهرأة، ونص فرنك ماسح معضوض؟ هذا الأب الضخم الطيب الذي يصنع المعجزات ولا يقف أمام مقدرته شيء، كيف لا يكون معه سوى مبلغ تافه كذلك؟
هذه خديعة هذا ضحك من نوع آخر عليه. لماذا لم يعمل حسابه؟ لماذا لم يكن في المحفظة مبلغ كبير كما توقع؟ أين صرف النقود؟ أين الماهية؟
وامتدت يده الغاضبة ودست العشرة القروش في جيبه. سوف يذهب إلى السينما بخمسة ويصرف الخمسة الأخرى. يأكل «بغاشة» و«جيلاتي» كما يأكل كل الأولاد، وليكن بعد ذلك ما يكون. وهو ما له؟ وما ذنبه إذا كانوا يرسلونه إلى المدرسة ولا يعطونه نقودا؟ وإذا سألهم ضحكوا عليه وأقسموا أن ليس معهم، وإذا فتشهم لم يجد سوى ورقة صغيرة بالية.
وحتى وهو في طريقه إلى حجرة النوم ليعيد المحفظة إلى الجيب الداخلي، كانت خطواته لا تزال تحفل بالاستنكار والغضب. وحين فتح الباب وجد كل شيء كما كان؛ أبوه يشخر وأخته تقرض أسنانها والظلام مخيم.
ولم يأخذ حذره هذه المرة ويقفل الباب وراءه؛ إذ لم يعد يهمه وهو في قمة الغيظ ما يحدث. ودلف وراءه من الباب المفتوح شعاع باهت من النور أضاء الحجرة قليلا وسقط على وجه أبيه.
وألقى عليه سامي نظرة وكأنما ليصب عليه جام غضبه، ولكنه تسمر في مكانه، وظل يحدق فيه كالأبله. كانت رأس أبيه منزلقة من فوق «المخدة»، ومثنية على كتفه، وكانت عارية وقد سقطت عنها الطاقية التي يرتديها وهو نائم، وكان شعره خفيفا مشوشا تلمع من تحت صلعته، وكان فكه مدلى وفمه مفتوحا، والشخير يتصاعد منه في غير انتظام. وسامي دائما كان يرى أباه في النهار ضاحكا أو مبتئسا، راضيا أو ساخطا، ولكن ملامحه على أية حال كانت دائما فيها قوة وصحة وحياة تجعل أباه يبدو كالأسد الأليف الذي يوحي مرآه بالثقة، ولحظتها ورأسه منزلقة، وفمه مفتوح، وشعره مهدل مشوش، وملامحه متراخية مستسلمة، لحظتها رآه طيبا جدا، وغلبانا جدا. ليس هذا فقط، بل إن محفظته الكبيرة الضخمة ليس فيها كلها سوى قروش عشرة، وزلطة، ونص فرنك.
ظل سامي واقفا في مكانه يحدق في أبيه وكأنه يراه لأول مرة. كان من كثرة ما تعود رؤيته قد ألفه، وألف أن ينظر إليه كأبيه، وإذا به الآن يراه وكأنه ليس أباه، وكأنه قد أصبح إنسانا مستقلا عنه، رجلا آخر، غريبا، طيبا، غلبانا، منفصلا عنه تماما، له جسد ورأس وساق قد انكشف عنها ثوبه، وبدت ضامرة مليئة بالشعر.
Bog aan la aqoon
وأحس بألم حاد ينتشر في نفسه، وشيء يريد خنقه، ثم أحس برغبة عارمة في البكاء، ثم أحس أنه يود أن يلقي كل ما بنفسه، ويندفع إلى الرجل الغلبان أمامه يعانقه ويضمه بشدة ويقبله، ويقبل فمه المفتوح الطيب ذاك، وذقنه النابتة الخشنة، وعيونه المغلقة في استسلام.
ولم يكف أبوه طوال الوقت عن الشخير. يستريح وجهه لحظة، ثم تخرج الأصوات من أنفه وفمه. أصوات ممدودة غلبانة هي الأخرى، تكاد تقسم وتقول: والله ما معي ولا أمتلك.
لم يضحك عليه أبوه إذن ويخدعه، وهو ليس كما ظن سامي قادرا على كل شيء. إنه نائم، مستسلم، وطيب، ولم يكن يخدعه.
وتململ الأب واضطرب شخيره.
وتحرك سامي والأحزان تملؤه، وأغلق الباب، وأخرج القروش العشرة من جيبه ودسها بغير حماس في المحفظة، ثم أسقطها في الجيب الذي كانت فيه.
وبعدما أطفأ النور في الحجرة الأخرى رقد بجوار أخيه على «الملة».
وكان يحب تلك الفترة التي يرقد فيها وينتظر النوم؛ إذ كان يحلم فيها بالقلم الأحمر الذي رآه في المكتبة والخمسين من خمسين في الإنجليزي، أو يفكر في الحيلة الجديدة التي عليه أن يبتكرها ليحصل على قرش في الصباح.
ولكن أفكاره طوال الوقت لم تغادر الرجل الراقد غير بعيد عنه فوق السرير، وثمة إحساس كبير يملؤه، وكأنه كان يستند إلى جدار، وإذا بالجدار ينهار من خلفه ويتركه مستندا إلى الفراغ.
وكلما استعاد مشهد ملامحه ومحفظته أحس وهواتف خفية تنبثق في صدره وتهيب به أن يفعل شيئا. لا بد أن يملأ محفظته بالنقود، بمئات الجنيهات، لا بد أن يجلب له كنزا، لا بد أن يشتغل، يعمل أي شيء، وعلى الأقل يقبض عشرة جنيهات في الشهر يعطيها لأبيه قائلا: خذ ولا تزعل. قم وانهض وغط ساقك، واستعد ملامح الأسد. قم يا أبي، ثم أنا لم أعد طفلا. أنا والله رجل، رجل كبير يا أبي، لا تخف علي، سأحميك ولن أطلب منك نقودا، ولن أحتال عليك لأحصل على القروش، وحياتك يا أبي لن أفعل هذا.
وتقلب أخوه وزأم كمن يحلم، ثم علا صوته، وغمغم. عاوز أشرب، هه، عاوز أشرب.
Bog aan la aqoon
وكثيرا ما يسمع أخاه يغمغم ويطلب الماء في الليل، فيظل ساكنا على مضض، ولا يتحرك حتى توقظ الضجة أباه فيقوم ويسقيه.
ولكنه ما كاد يسمعه هذه المرة حتى هدهد عليه، وهو يقول: حاضر.
ثم قام في حماس زائد، وملأ له الكوب، وعاد به وحده في الظلام.
وقبل أن يغلق عينيه اعتدل كمن تذكر شيئا، ومد يديه وراح يحبك الغطاء حول أخيه، كما يفعل أبوه تماما، وتأكد أن قدميه ملفوفتان في «البطانية»، ورأسه معدول فوق المخدة.
ثم أخذه في حضنه.
ونام.
الناس
كان في بلدنا «طرفة»، لم تكن كبيرة ولا عالية أو ذات سيقان وفروع، كانت ضئيلة الحجم، قصيرة قميئة ورقها كورق العبل رفيع وأسطواني، ولونها أخضر قاتم، ولا تعرف ربيعا أو خريفا؛ فهي تورق على الدوام، ولا تعرف ضعفا ولا قوة، فهي لا تنمو ولا تصغر، ولم يزد حجمها أو ينقص طوال أجيال.
ولا يدري أحد كيف نبتت تلك الشجرة في بلدنا؛ إذ إن شجر الطرف نادر الوجود في الأرض الطمي، فهو لا ينمو إلا في مناطق المستنقعات. وكذلك لا يدري أحد لماذا اختارت ناحيتنا بالذات.
كل ما نعلمه أن أهل بلدنا اعتقدوا فيها، ونظرا لواحدانيتها حف بها نوع من التقديس، وآمن الناس أن لا بد وراء وجودها سر باتع وكبير.
Bog aan la aqoon
ومنذ أجيال وأهل بلدنا لا يتبركون بها فقط، ولكنهم يستخدمونها كدواء لأمراض العيون. ما من كائن وجعته عينه إلا ووصف له أحدهم ورق الطرفة. تذهب بعد الفجر إلى الشجرة وتنظر إلى أن يهبط الندى، ثم تأخذ عدة عقل من أوراقها وتكسرها، فيسيل منها لزج تقطر في العين الموجوعة منه قطرتان لا ثالث لهما. وبإذن واحد أحد يحل الشفاء.
وأغرب ما في الأمر أن الشفاء كان يحل فعلا. صحيح أنه في أحيان كثيرة لم يكن يحل الشفاء. أحيانا كان يتضاعف المرض، وأحيانا نادرة كان يحل العمى أو العور، ولكن الناس لم يكونوا يعزون بالفشل إلى ورق الطرفة بقدر ما يعزونه إلى نجاسة المريض مثلا أو أحد من أهله، أو أن المرض قد زاد واستمكن، أو أنك لا بد قد أخطأت ولم تنتظر حتى يهبط الندى.
ووعينا نحن فوجدنا شجرة الطرفة من معالم بلدنا الأزلية تحف بها القداسة وتكتنفها الأسرار، فكنا نخاف منها ونرهبها، ونتخيلها بقامتها القصيرة وورقها الرفيع المسنون كعجوز شمطاء تقطع الطريق إلى الترعة، أو كأنها خالتنا أم الغول.
وشببنا فوجدنا اعتقاد أهل بلدنا فيها لا يتزلزل أو يصيبه وهن. غزا الطب الريف، وافتتحت في البنادر عيادات رمد ومستشفيات، وهم مصرون على تلك الشجرة فخورون بها، يحمدون الله على وجودها في بلدنا دون سواها، ويكنون لها أعمق التقدير، حتى ليكاد الواحد منهم يقرأ الفاتحة إذا ما مر عليها.
والعجيب أن الاعتقاد فيها كان شاملا. الكل يؤمن بها؛ الكبير والصغير، والفقير وصاحب القرشين، بل امتد هذا الإيمان إلى ما جاورنا من قرى، وأصبح من المناظر المألوفة في بلدنا أن ترى أناسا جالسين بعد الفجر حول شجرة الطرفة، ينتظرون في صمت وفي رهبة هبوط الندى.
وأصبحنا تلامذة وتعلمنا، وعرفنا التاريخ والجغرافيا والهندسة والطب وقانون الغازات لبويل.
وبدأنا نكفر بشجرة الطرفة.
وكان أكثرنا حماسا ابن الصراف الطالب بكلية الزراعة الذي لم يكفه الكفر والإلحاد بالطرفة، بل راح يضيق بأهل بلدنا أنفسهم سخافتهم وعقولهم الجامدة الضيقة التي تحجرت على الإيمان بشجرة لا حول لها ولا قوة.
ثم أصبحنا كلنا نجاهر بهذا الكفر، وما لبث ضيقنا وسخطنا أن تحول إلى حركة ودعوة، وجاء اليوم الذي أعلنا فيه الجهاد، وقسمنا أنفسنا؛ فريق يخطب في المساجد ويقول: يا أهالي الطرفة تعمى كل ذي عينين. وفريق يلف على الناس والمصاطب ويقول: يا إخواننا، الحكومة فتحت مستشفيات عليكم بها ودعوا الطرفة. وفريق وقف بجوار الشجرة يستقبل كل من جاء ويشرح له، ويحاول أن يثنيه عن عزمه. وكان الناس ينظرون إلينا ونحن نفتح أفواهنا ونخرج منها كلاما سريعا كثيرا، ويهزون رءوسهم ويقولون لبعضهم البعض: كلام حلو يا أخي، كلام مضبوط.
واعتبرنا أن المسألة قد انتهت، وأن عيون الناس قد سلمت على أيدينا، وأننا نستحق على مجهوداتنا تماثيل شكر وآيات تكريم، ولكننا بعد مضي أيام اكتشفنا أن الناس لم تكف عن استعمال أوراق الطرفة، ولا حتى اختفى الجالسون تحت الشجرة ينتظرون هبوط الندى.
Bog aan la aqoon
وقلنا إلى الجهاد من جديد.
وظللنا أياما كثيرة نكلم الناس ونناقشهم ونضرب لهم الأمثال فيهزون رءوسهم ويوافقون، بل يغالي بعضهم في لوم نفسه ويقول: لا مؤاخذة يا فندي انت وهو، أصلنا جهلة والجاهل أعمى، والعتب على النظر.
ولا نتركهم حتى يبدو عليهم الاقتناع الصادق الأكيد ... وما إن يمرض منهم مريض حتى تكون أوراق الطرفة هي أول دواء يوصف وأول ما يستعمل.
وظللنا أعواما كثيرة نحاول ونيئس، ونيئس ونفشل. وكالعادة لم يستمر جهادنا كثيرا، فما لبثنا أن نفضنا أيدينا من الأمر، وقد بدا أن ليس ثمة قوة تستطيع زلزلة إيمان الناس بالطرفة.
ولكن ابن الصراف، وكان نحيفا عصبيا عنيدا، وإن كان قد أصابه اليأس كما أصابنا إلا أنه لم يسلم بالهزيمة، وظل الأمر يشغل باله ويكاد لا يفكر في غيره.
وذات يوم عنت له فكرة، فأخذ أوراقا من الطرفة وذهب إلى أستاذ في كليته، وحكى له الحكاية، وطلب منه تحليل الأوراق.
وفوجئنا حين أثبت التحليل أن في الورق نسبة من كبريتات النحاس التي تصنع منها القطرة.
وأشعنا الخبر في البلدة، أشعناه ونحن نصفق ونهلل وكأننا اكتشفنا كنزا كان مجهولا. وقلنا للناس: لا ضير عليكم من استعمال الطرفة؛ ففي أوراقها قطرة.
وهز الناس رءوسهم بلا حماس وغمغموا: جالكو كلامنا؟
كل ما حدث أنه حين مرت أعوام كثيرة، وعدنا إلى بلدنا موظفين وخبراء ومحترمين، وجدنا أن شجرة الطرفة لم يعد لها ذلك التقديس القديم، وأنها هزيلة شاحبة لم يعد حولها منتظرون ولا تخيف كما تخيف أم الغول.
Bog aan la aqoon
ووجدنا الناس قد كفوا عن استعمال أوراقها في علاج العيون، وحين كنا نسألهم عن السبب ونحن مذهولون، كانوا يهزون رءوسهم ويقولون: سيبك يا شيخ، القطرة برضك أنضف.
الوجه الآخر
كان الواحد منا إذا عثر على «نص فرنك» وهو صغير طار من الفرحة، وحين كبرنا أصبح ما يفرحنا أن نعثر على إنسان، أو كلمة طيبة!
والحركة كما يقولون بركة، وأن تقص شعرك كل مرة عند نفس الحلاق شيء ممل حقا. ولم أكن أستقر عند أحدهم، ولم أكن أطمع أن أدخل صالونا ذات صدفة فأجد صاحبه إنسانا كالأسطى زكي. كان كل همي إذا دخلت عند الحلاق أن أعد نفسي لعملية التعذيب القادمة. وقص الشعر عملية تعذيب يؤديها الإنسان كالواجب الثقيل المفروض؛ إذ ما معنى أن يجلس الواحد نصف ساعة أو أكثر، ورأسه مثني على وضع معين، وعروق رقبته متصلبة تكاد تنقطع، وكل هذا ليقص شعره بضعة ملمترات، أو ليبدو وجهه أكثر وسامة؟!
كان الأسطى زكي الذي أسلمته رأسي رجلا غريبا؛ فصوته رفيع كأصوات النساء، ووجهه أحمر كوجوه الأتراك، وهو قصير سريع الحركة كمخلوقات والت ديزني، وفي عينيه ذكاء. والأعجب من هذا سيجار توسكانيلي لا يغادر فمه مطفأ ولا مشتعلا، وكأنما ولد به. إذا أشعله يفعل هذا بثلاثة عيدان كبريت، ويكتم الدخان المتصاعد منه أنفاسي؛ دخان ثقيل قابض كأنه مصنوع من ذرات رصاص. وإذا انطفأ تركه بين شفتيه، وكلما نطق يتلاعب السيجار إلى أسفل وأعلى، وكأنما أصبح جزءا من تقاطيعه. وكان أكثر شعر رأسه أبيض منكوشا كشعر المذهولين، وهناك وجوه لا تحس بملامحها، وكنت تحس أن في وجهه أنفا. ولم يكن يرتدي البالطو الذي تعود الحلاقون ارتداءه. كان يرتدي قميصا وبنطلونا. القميص من قماش لا يستعمل للقمصان، ذو خطوط غامقة كثيرة وليس له ياقة، ومفتوح عند العنق يظهر بقعة من صدره فيها شعر كثيف أبيض. والبنطلون حائر في وسطه لا يعرف على أي جزء من كرشه المقوس الأملس يستقر. وهو كالمكوك لا يهدأ. في نفس الوقت الذي يقص فيه شعري كان مشتبكا في ثلاث مناقشات مع زملاء ثلاثة له؛ واحد دخل معه قافية حول البامية والقرون، والآخر يحدثه عن طريقة مبتكرة لعلاج المرارة، والثالث يضحك معه على الاثنين. وينثني فجأة ويهمس في أذني بتعليق أو كلمة ترحيب، ويسألني إن كنت في حاجة لجريدة. ولا ينتظر جوابي ويرتفع صوته باحثا عن «الاثنين»، ولا يجدها ويشتم الصبي، ويجد أن «آخر ساعة» قد طارت، ويعود إلي بالأهرام وعلى وجهه ابتسامة خجولة آسفة تكاد من برودتها تطفئ «ولعة سيجارة».
والمقص بين إصبعيه لا يكف عن الطقطقة به لحظة، وكأنه حاو يقوم باستعراض أمام الناس ويريهم معجزة.
ويبدو أنه كان مشهورا واسمه تتقاذفه الأفواه كالكرة الشراب، والداخل والخارج والزبون والزميل والجميع يعاملونه كما لو كان لعبة طيبة لطيفة مهما سخرت منها فلن تعقب، واللعبة تغري باللعب، وهكذا لم يكن أحد يدعه على حال، ولم يكن يبدو عليه الضيق بأمثال تلك المداعبات، بل لعله كان مسرورا. كنت الوحيد المغيظ؛ فرقبتي هي المثنية، والعبث كله على حساب رأسي وأعصابي، والرجل كان باديا أنه تعدى الخمسين ولا يستطيع الإنسان أن ينهره بسهولة.
وبلغ بي الضيق منتهاه، ومن كثرة ضيقي أمرت الصبي الواقف ينش علي الذباب أن يكف؛ فأن يحس الإنسان بالعذاب لأنه يقضي نصف ساعة وهو جالس أمر قد يحتمل، أما أن يقضي صبي صغير في العاشرة من عمره اليوم بطوله واقفا في مكانه لا يتحرك، ولا يفعل سوى نش الذباب عن وجه الزبائن وكأنه آلة، فأمر لا يحتمل.
والظاهر أن الأسطى زكي لم ينتبه إلى أني السبب في توقف النش؛ فقد نهر الصبي وأمره بمضاعفة جهوده في طرد الذباب. ولم يكن هناك إلا ذبابتان؛ واحدة لا تتحرك من فوق المرآة، والأخرى تحوم حولنا. إذا نفث الأسطى زكي دخانه فرت، وإذا كف عادت.
وانتهزت الفرصة، وانفجرت أطلب من الصبي أن يكف، وأقول للأسطى زكي: هذا تعذيب وقلة إنسانية ... (إلخ، إلخ).
Bog aan la aqoon