ورغم هذا استمرت الصاجات تعمل وتهدر بزعيقها المتوالي، وكلما حدق البائع في الكون، ورأى الناس يختفون من حوله، ويتسربون وكأنما تبتلعهم مخابئ سرية، وكلما رأى الجرح المدمم الذي أحدثته الشمس الغائبة في السماء حين اخترقها إلى عالم الظلام، كلما رأى هذا قصرت المسافة بين الدقات، وأصبح صوتها أعلى وأكثر حدة، وانطلقت حنجرته تعضد الدقات، وتقول يا منعنش، تقولها حنجرتها متقلصة مثنية على نفسها، وكأنما انحنت تستخلص «منعنش» وهي عاصية في قاع حنجرته لا تريد أن تخرج؛ فالإبريق كان لا يزال راقدا فوق صدره كالمصيبة الثقيلة، ولا يزال ممتلئا، وكل ما باعه منذ الصباح كان لم يتعد بضعة قراريط لا توقد مصباحا ولا تغمس لقمة.
والدقائق تمضي بسرعة، والوقت يتسرب تسرب الناس كأنما أصابه البرد هو الآخر.
وتدق الصاجات عالية صاخبة هستيرية تريد أن تتحدى وتستوقف الأسماع، والظلام يتكاثر وتصبح له دنيا كبيرة، وبرد السماء يطبق على الأرض، والناس يصغرون ويصغرون، وكل شيء تصبغه رمادية زرقاء ويبرد ويصبح لا حياة فيه. وتزأر الحنجرة يا منعنش، وتخرج منعنش حادة تكمل صخب الدقات، وبين كل آن وآن يقول: يا كريم سترك. ويمد الكاف وكأنه يصنع منها حبلا رفيعا يمده فوق الكوبري ليوقف الناس، ويتبعها بسترك مقتضبة خارجة من الصدر، وكأنما يسترضي الناس بعد هديره ويصالحهم بها.
والناس رائحة غادية، ميتانة، سقعانة، ناشفة، وجوههم شاحبة فيها غضون، وعيونهم ذابلة فيها شتاء، ولا يريد أحد - رغم وجوده في وسط الكوبري - أن يلقي عليه نظرة.
وأطلق الرجل يا منعنش، وأتبعها بيا كريم سترك، أطلقهما عاليتين صاخبتين مدويتين كاستغاثات أخيرة لسفينة تغرق.
وأيضا لم يلتفت أحد.
والوقت يمضي، والمارة يقلون، والسماء تزداد إطباقا على الأرض، وعالم الظلام يكبر ويكبر، والجرح الذي في السماء يلتئم وتذهب حمرته وشفقه، والناس يتحولون من كائنات إلى أشباح.
وبدأت دقات الصاجات تنخفض، ولم يعد الرجل يقول يا منعنش، كان فقط يردد يا كريم سترك. وكان يقول يا كريم متضرعا، يقولها لكل شيء حوله؛ للأرض والسماء وعربات النقل والكارو، وحتى لصاحب الغرزة الجالس هو الآخر يرتعش ويستعد للرحيل.
وكان ما في صوته من ضراعة ينتقل إلى نحاس الصاجات، فتخرج الدقات متتابعة نغم، وعلى دفعات، ولكن فيها بحة، وكأنه يريد أن يرجو الناس فقط أن ينظروا إليه، فقط ينظرون إليه ولا يشترون. لماذا يزورون عنه ويشيحون بوجوههم يتهربون وكأنهم يفرون من واجب ثقيل؟ ماذا عليهم لو فقط يلتفتون؟
ولم تفلح الدقات ولا أفلح النداء في جلب نظرة.
Bog aan la aqoon