ومنذ أجيال وأهل بلدنا لا يتبركون بها فقط، ولكنهم يستخدمونها كدواء لأمراض العيون. ما من كائن وجعته عينه إلا ووصف له أحدهم ورق الطرفة. تذهب بعد الفجر إلى الشجرة وتنظر إلى أن يهبط الندى، ثم تأخذ عدة عقل من أوراقها وتكسرها، فيسيل منها لزج تقطر في العين الموجوعة منه قطرتان لا ثالث لهما. وبإذن واحد أحد يحل الشفاء.
وأغرب ما في الأمر أن الشفاء كان يحل فعلا. صحيح أنه في أحيان كثيرة لم يكن يحل الشفاء. أحيانا كان يتضاعف المرض، وأحيانا نادرة كان يحل العمى أو العور، ولكن الناس لم يكونوا يعزون بالفشل إلى ورق الطرفة بقدر ما يعزونه إلى نجاسة المريض مثلا أو أحد من أهله، أو أن المرض قد زاد واستمكن، أو أنك لا بد قد أخطأت ولم تنتظر حتى يهبط الندى.
ووعينا نحن فوجدنا شجرة الطرفة من معالم بلدنا الأزلية تحف بها القداسة وتكتنفها الأسرار، فكنا نخاف منها ونرهبها، ونتخيلها بقامتها القصيرة وورقها الرفيع المسنون كعجوز شمطاء تقطع الطريق إلى الترعة، أو كأنها خالتنا أم الغول.
وشببنا فوجدنا اعتقاد أهل بلدنا فيها لا يتزلزل أو يصيبه وهن. غزا الطب الريف، وافتتحت في البنادر عيادات رمد ومستشفيات، وهم مصرون على تلك الشجرة فخورون بها، يحمدون الله على وجودها في بلدنا دون سواها، ويكنون لها أعمق التقدير، حتى ليكاد الواحد منهم يقرأ الفاتحة إذا ما مر عليها.
والعجيب أن الاعتقاد فيها كان شاملا. الكل يؤمن بها؛ الكبير والصغير، والفقير وصاحب القرشين، بل امتد هذا الإيمان إلى ما جاورنا من قرى، وأصبح من المناظر المألوفة في بلدنا أن ترى أناسا جالسين بعد الفجر حول شجرة الطرفة، ينتظرون في صمت وفي رهبة هبوط الندى.
وأصبحنا تلامذة وتعلمنا، وعرفنا التاريخ والجغرافيا والهندسة والطب وقانون الغازات لبويل.
وبدأنا نكفر بشجرة الطرفة.
وكان أكثرنا حماسا ابن الصراف الطالب بكلية الزراعة الذي لم يكفه الكفر والإلحاد بالطرفة، بل راح يضيق بأهل بلدنا أنفسهم سخافتهم وعقولهم الجامدة الضيقة التي تحجرت على الإيمان بشجرة لا حول لها ولا قوة.
ثم أصبحنا كلنا نجاهر بهذا الكفر، وما لبث ضيقنا وسخطنا أن تحول إلى حركة ودعوة، وجاء اليوم الذي أعلنا فيه الجهاد، وقسمنا أنفسنا؛ فريق يخطب في المساجد ويقول: يا أهالي الطرفة تعمى كل ذي عينين. وفريق يلف على الناس والمصاطب ويقول: يا إخواننا، الحكومة فتحت مستشفيات عليكم بها ودعوا الطرفة. وفريق وقف بجوار الشجرة يستقبل كل من جاء ويشرح له، ويحاول أن يثنيه عن عزمه. وكان الناس ينظرون إلينا ونحن نفتح أفواهنا ونخرج منها كلاما سريعا كثيرا، ويهزون رءوسهم ويقولون لبعضهم البعض: كلام حلو يا أخي، كلام مضبوط.
واعتبرنا أن المسألة قد انتهت، وأن عيون الناس قد سلمت على أيدينا، وأننا نستحق على مجهوداتنا تماثيل شكر وآيات تكريم، ولكننا بعد مضي أيام اكتشفنا أن الناس لم تكف عن استعمال أوراق الطرفة، ولا حتى اختفى الجالسون تحت الشجرة ينتظرون هبوط الندى.
Bog aan la aqoon