وجد خطابا من خاله، يتكلم فيه عن ميراث، وعن مبلغ، ويسلم فيه عليه. ترى لماذا لم يبلغه أبوه السلام؟ ثم ما تلك الأوراق الصدئة المهرية التي لا تسمن ولا تغني من جوع؟ إن حبرها من نوع أسود قديم لم يره أبدا، وخطها حلو، وهذا الشيء المرسوم عليه مئذنة وقبة. قد صار زواج فاطمة بنت عبد الله، من تكون؟ أتكون أمه. لا بد ولا بد أن يكون إبراهيم منصور أباه. وهذه الورقة الحمراء؟ إدارة الغاز والكهرباء؟ نرجو عند الرد ذكر رقم 284، إيه ده؟ وإذا مش عارف إيه سنقطع التيار. ما هو ذلك التيار الذي سيقطعونه وبأي شيء سيقطعونه؟ وهذا الظرف المكتوب عليه «قطعة من كسوة الكعبة الشريفة، هدية من العبد الفقير إلى الله تعالى الحاج مبارك محمد حسن»، قطعة القماش السوداء هذه التي في الظرف من الكعبة؟! ياه! إن رائحتها صعبة، أمسك ذاك أم عنبر؟ هي السبب إذن في تلك الرائحة المقبضة التي تنبعث من المحفظة؟
وكان ممكنا أن يظل سامي مستغرقا في نشوة الاضطراب الخفي تلك، ولكنه وفي خضم ما كان فيه وعت أذنه صوت السلام والراديو يذيعه وختم به برامج السهرة.
وفي الحال عاد إلى نفسه مضعضع الحواس، وكأنما ضبط متلبسا، وأصبح همه في اللحظة التالية أن يعيد الأوراق كلها إلى ما كانت عليه بنفس ترتيبها ونظامها؛ حتى تبدو وكأن لم يمسسها بشر. وفي الحق كانت مهمة صعبة، ولكنها انتهت. وبقيت العشرة قروش راقدة أمامه على المنضدة منطوية على نفسها كالخرقة البالية. لم يرجعها إلى المحفظة، وكذلك لم يدسها في جيبه. وكان عليه أن يقرر أمرا من الاثنين، ولم يكن القرار سهلا. إذا أخذها لا بد ستنكشف السرقة، وإذا تركها فقد آخر أمل في الوفاء بالميعاد والذهاب إلى السينما.
والعجيب أنه لم يفكر في واحد من الأمرين، كان قد أفاق من النشوة التي أتخم بها حب استطلاعه، وامتلأت نفسه بالحنق الشديد. كيف لا يعثر إلا على عشرة قروش مهرأة، ونص فرنك ماسح معضوض؟ هذا الأب الضخم الطيب الذي يصنع المعجزات ولا يقف أمام مقدرته شيء، كيف لا يكون معه سوى مبلغ تافه كذلك؟
هذه خديعة هذا ضحك من نوع آخر عليه. لماذا لم يعمل حسابه؟ لماذا لم يكن في المحفظة مبلغ كبير كما توقع؟ أين صرف النقود؟ أين الماهية؟
وامتدت يده الغاضبة ودست العشرة القروش في جيبه. سوف يذهب إلى السينما بخمسة ويصرف الخمسة الأخرى. يأكل «بغاشة» و«جيلاتي» كما يأكل كل الأولاد، وليكن بعد ذلك ما يكون. وهو ما له؟ وما ذنبه إذا كانوا يرسلونه إلى المدرسة ولا يعطونه نقودا؟ وإذا سألهم ضحكوا عليه وأقسموا أن ليس معهم، وإذا فتشهم لم يجد سوى ورقة صغيرة بالية.
وحتى وهو في طريقه إلى حجرة النوم ليعيد المحفظة إلى الجيب الداخلي، كانت خطواته لا تزال تحفل بالاستنكار والغضب. وحين فتح الباب وجد كل شيء كما كان؛ أبوه يشخر وأخته تقرض أسنانها والظلام مخيم.
ولم يأخذ حذره هذه المرة ويقفل الباب وراءه؛ إذ لم يعد يهمه وهو في قمة الغيظ ما يحدث. ودلف وراءه من الباب المفتوح شعاع باهت من النور أضاء الحجرة قليلا وسقط على وجه أبيه.
وألقى عليه سامي نظرة وكأنما ليصب عليه جام غضبه، ولكنه تسمر في مكانه، وظل يحدق فيه كالأبله. كانت رأس أبيه منزلقة من فوق «المخدة»، ومثنية على كتفه، وكانت عارية وقد سقطت عنها الطاقية التي يرتديها وهو نائم، وكان شعره خفيفا مشوشا تلمع من تحت صلعته، وكان فكه مدلى وفمه مفتوحا، والشخير يتصاعد منه في غير انتظام. وسامي دائما كان يرى أباه في النهار ضاحكا أو مبتئسا، راضيا أو ساخطا، ولكن ملامحه على أية حال كانت دائما فيها قوة وصحة وحياة تجعل أباه يبدو كالأسد الأليف الذي يوحي مرآه بالثقة، ولحظتها ورأسه منزلقة، وفمه مفتوح، وشعره مهدل مشوش، وملامحه متراخية مستسلمة، لحظتها رآه طيبا جدا، وغلبانا جدا. ليس هذا فقط، بل إن محفظته الكبيرة الضخمة ليس فيها كلها سوى قروش عشرة، وزلطة، ونص فرنك.
ظل سامي واقفا في مكانه يحدق في أبيه وكأنه يراه لأول مرة. كان من كثرة ما تعود رؤيته قد ألفه، وألف أن ينظر إليه كأبيه، وإذا به الآن يراه وكأنه ليس أباه، وكأنه قد أصبح إنسانا مستقلا عنه، رجلا آخر، غريبا، طيبا، غلبانا، منفصلا عنه تماما، له جسد ورأس وساق قد انكشف عنها ثوبه، وبدت ضامرة مليئة بالشعر.
Bog aan la aqoon