Al-Wajiz fi Fiqh al-Imam al-Shafi'i
الوجيز في فقه الإمام الشافعي
Tifaftire
علي معوض وعادل عبد الموجود
Daabacaha
شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم
Lambarka Daabacaadda
الأولى
Sanadka Daabacaadda
1418 AH
Goobta Daabacaadda
بيروت
Noocyada
الوُصُول إلى العلْمِ اليقينيِّ، ولأنه طريقٌ ومنهجٌ للوصول إلى اليقين(١).
ودائماً ما كانَ يردِّدُ الغَزَّالِيُّ: ((مَنْ لَمْ يَشُكَّ، لَمْ يَنْظُرْ، وَمَنْ لَمْ يَنْظُرْ، لَمْ يُبْصِرْ، وَمَنْ لَمْ يُبْصِرْ، بَقِيَ في العَمَى والضَّلالِ).
وعندما بدأ الغَزَّالِيُّ رحلةَ الشَّكِّ، وجد أنَّه عاطلٌ من عَلْمٍ يتصفُ بصفة اليقين، إلا في الحِسِّيَّات وهي عبارةٌ عن المعرفة التي تعتمدُ على الحواسِّ، وكذلك الضروريَّات، وهي المعرفةُ التي تعتمدُ على العَقْلِ، إذن، فالغزَّالِيُّ في بداية أمْرِهِ، لم يشُكَ في الحِسِّيَّات، ولا في الضروريَّات.
ولمَّا أخذ يتأمَّل في الحواسِّ، أوْصَلَهُ ذلك التأمُّلُ إلى الشَّكِّ فيها، وعَدَم الاعتماد عليها، إذ أنّه لا ثقة فيها، فمثلاً حاسّة البصر خادعة، إذا نَظَرَتْ إلَى الكواكب، فإنها تَرَاهَا صَغيرةً جداً، مع أنَّها في الحقيقةِ كبيرةٌ أُكْبَرُ من الأرضِ؛ كما تقولُ الأدَّلة الهندسيَّة.
ولَمَّا فَقَدَ الغزَّالِيُّ ثقتَهُ بالحِسِّيَّاتِ، قال: ((إِنَّهُ قد بطَلَت الثقَةُ بالمُحسَّاتِ أيضاً، فلعلَّه لا ثقة إلا بالعقليَّات، التي هي من الأَوَّلِيَّات؛ كقولنا: العَشَرَةُ أكْثَرُ مِنَ الثَّلاَثَةِ، والنَّفْيُ والإِثْبَاتُ لا يجْتَمِعَانِ في الشَّيْءِ الواحِدِ، والشَّيْء الواحِدُ لا يكونُ حَادِثاً قَدِيماً، مَوْجُوداً مَعْدُوماً، وَاجِباً مُحَالاً)).
وهكذا تدرَّج الغزّاليُ من الشَّكِّ في الحِسِّيَّات، إلى الشَّكِّ من العقليَات.
يقول الغزّاليُّ: ((بمَ تَأْمَنُ أنْ تكُونَ ثقَتُّكَ بالعقلَّات كثقتِكَ بالمُحَسَّات؟ وقد كنْتَ واثقاً بالمُحَسَّات، فجاء حاكمُ العَقْلِ، فكذَّبها، ولولا حاكمُ، العَقْلِ، لكنْتَ تستمرُ على تصديقِ المُحَسَّاتِ، فلعَلَّ وراء إدراكِ العَقْلِ حاكماً آخَرَ، فإذا تجلَّى، كذَّب العقْلَ في حكْمِه، كما تجلَّى حاكمُ العَقْلُ، فكذَّب الْحِسَّ في حُكْمِهِ، وعدم تجلِّي ذلك الإدْرَاكِ لا يدُلُّ على استحالَتِهِ)).
ثم استنَدَ الغَزَّالِيُّ علَى دعامة أخْرَى فِي شَكِّهِ، زادَت الأمرَ إِشْكالاً، وهي ظاهِرةُ الأَحْلاَمِ.
يقول الإمامُ الغَزَّالِيُّ: ((أمَا تَرَاكَ تعتقدُ في النَّوْمِ أُمُوراً، وتتخيّل أحوالاً، وتعتقدُ لها ثباتاً واسْتقراراً، ولا تَشُكُّ في تلك الحالةِ فيها، ثم تستيقَظُ، فتعلَمُ أنه لم يكُنْ لجميع متخيَّلاتِكَ ومعتَقَدَاتِك أصْلٌ وطائلٌ ففيمَ تأمَنُ أنْ يكونَ جميعُ ما تعتقدُهُ في يقظتِكَ، بحسٍّ أو عقْلٍ، هو حقٌّ بالإضافةِ إلَى حالتك الّتي أنْتَ فيها؛ لكنْ يمكنُ أن تطرأ عَليْكَ حالةٌ تكونُ نسبتها إلى يقظتِكَ؛ كنسبة يقظتك إلى منامِكَ، وتكونُ يقظتُكَ نَوْماً بالإضافة إلَيَّها، فإذا وردَتْ تلك الحالَةُ، تيقَّنت أنَّ جميعَ ما توهَّمْتَ بعقلك خيالاتٌ، لا حاصِلَ لها، ولعلَّ تلك الحالَةَ هي فلعلَّ الحياة الدنْيَا نومٌ، بالإضافة إلى الآخِرَةِ، فإذا مات، ظهَرَتْ له الأشياءُ علَى خلاف ما شاهَدَهُ الآية، ويقالُ له عند ذلك؛ ((فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصْرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)) [ق: ٢١].
وبعد هذه الرحْلَةِ الطويلَةِ الَّتي عرضَهَا الغزّاليُّ بأسلوبه الممتعِ الصَّافي في كتابه «المُنْقَذِ من الضَّلَال)) خَرَجَ من شَكِّهِ هذا بالنور الذي قذَفَهُ اللَّهُ في صَدْره، وتحقَّق لَه اليقينُ، وهو الثقة والاطمئنانُ
(١) ما هي الفلسفة؟ د/ حسين علي ص ١٤٣.
43