127

The Prophet's Biography by Ibn Hisham

السيرة النبوية لابن هشام

Tifaftire

طه عبد الرؤوف سعد

Daabacaha

شركة الطباعة الفنية المتحدة

فيه، فجاءني فقال: احفر المضنونة. فقال: فَقُلْتُ: وَمَا الْمَضْنُونَةُ؟ قَالَ: ثُمَّ ذَهَبَ عَنِّي، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ رَجَعْتُ إلَى مَضْجَعِي، فَنِمْتُ فِيهِ، فجاءنيِ فَقَالَ: احْفِرْ زَمْزَمَ. قَالَ: قُلْتُ: وَمَا زَمْزَمُ؟ قَالَ لَا تَنْزِفُ أَبَدًا وَلَا تُذمُّ١، تَسْقِي الْحَجِيجَ الْأَعْظَمَ، وَهِيَ بَيْنَ الفَرْث وَالدَّمِ، عِنْدَ نُقْرة الْغُرَابِ الأعْصم، عِنْدَ قَرْيَةِ النمل٢.

١ لا تنزف أبدًا: وهذا برهان عظيم؛ لأنها لم تنزف من ذلك الحين إلى اليوم قط، وقد وقع فيها حبشي فنزحت من أجله، فوجدوا ماءها يثور من ثلاثة أعين، أقواها وأكثرها ماء من ناحية الحجر الأسود، وذكر هذا الحديث الدارقطني. وقوله: ولا تُذم، فيه نظر، وليس هو على ما يبدو من ظاهر اللفظ من أنها لا يذمها أحد ولو كان من الذم لكان ماؤها أعذب المياه، ولتضلع منه كل من يشربه، وقد ورد في الحديث أنه لا يتضلع منها منافق، فماؤها إذا مذموم عندهم، وقد كان خالد بن عبد الله القسري أمير العراق يذمها، ويسميها: أم جعلان، واحتفر بئرًا خارج مكة باسم الوليد بن عبد الملك، وجعل يفضلها على زمزم، ويحمل الناس على التبرك بها دون زمزم جرأة منه على الله ﷿ وقلة حياء منه، وهو الذي يعلن ويفصح بلعن علي بن أبي طالب -رضوان الله عليه- على المنبر، وإنما ذكرنا هذا، أنها قد ذمت، فقوله إذا: لا نذم، من قول العرب: بئر ذمة أي: قليلة الماء، فهو من أذممت البئر إذا وجدتها ذمة: كما تقول: أجبنتُ الرجل: إذا وجدته جبانًا، وأكذبته إذا وجدته كاذبًا، وفي التنزيل: ﴿فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ﴾ [الأنعام: ٣٣] وقد فسر أبو عبيد فى غريب الحديث قوله حتى مررنا ببئر ذمة. وأنشد:
مُخَيِّسَةُ خُزْرًا كأن عيونها ... ذمام الركايا أنكرتها الموائح
فهذا أولى ما حمل عليه معنى قوله: ولا تذم؛ لأنه نفي مطلق، وخبر صادق –والله أعلم–
٢ فسميت طيبة: لأنها للطيبين والطيبات من ولد إبراهيم وإسماعيل ﵉ وقيل له: احتفر برة، وهو اسم صادق عليها أيضًا؛ لأنها فاضت للأبرار، وغاضت عن الفجار، وقيل له: احفر المضنونة. وقال وهب بن منبه: سميت زمزم: المضنونة؛ لأنها ضُنَّ بها على غير المؤمنين، فلا يتضلع منها منافق، وروى الدارقطني ما يقوي ذلك سندًا عن النبي ﷺ: "من شرب من زمزم فليتضلع" فإنه فرق ما بيننا =

1 / 132