al-Bid‘ah wa Atharha fi Mihnat al-Muslimeen
البدعة وأثرها في محنة المسلمين
Noocyada
الصحابة وإنكارهم الافتراضات العقلية
الصحابة رضوان الله عليهم فتحوا بنصوص الوحي مناطق كثيرة وبلدانًا شاسعة ولا أحد يظن أن الصحابة لم يكن لديهم عقل، أو كانوا عربًا أجلافًا.
الصحابة كانت لهم عقول فذة، وما عرف العالم مثل العرب إجمالًا، فلما أتى الإسلام رفعهم على أعظم إمبراطوريتين موجودتين آنذاك، وهما فارس والروم.
فالعرب علت منزلتهم؛ فلماذا علت؟ الصحابة يقولون: (تعلمنا الإيمان قبل القرآن، فلما تعلمنا القرآن ازددنا إيمانًا) وأي شخص يبدو منه اعتراض عقلي على النص كانوا ينكرون عليه أشد الإنكار.
فهذا أبو هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (إذا استيقظ أحدكم من منامه، فلا يدخل يده في وضوئه حتى يغسلها ثلاثًا، فإنه لا يدري أين باتت يده) فقرأ الحديث أمام جماعة من التابعين، فقال أحدهم: يا أبا هريرة ماذا نفعل بالمهراش؟ فحصبه بحجر وقال: أعوذ بالله من شرك.
ماذا عمل الرجل وأي جرم ارتكبه عندما قال: ماذا نفعل بالمهراش؟ أبو هريرة يحدث بكلام الرسول ﵊: إذا استيقظ أحدكم من منامه، فلا يدخل يده في إناء الماء، وإنما يغسل يده ثلاث مرات، ثم بعد ذلك يدخلها في الماء، لماذا؟ قال: (فإنك لا تدري أين باتت يدك) .
جماعة (العجول) يقولون: أين ستذهب أيدينا؟! إنما باتت بجانبنا لم تذهب أي مكان! ومنهم من رد الحديث فعلًا، وأورد النووي في بستان العارفين حكاية عن هؤلاء، وذكر حكاية صحيحة السند أن رجلًا سمع هذا الحديث فقهقه وقال: أين باتت تطوف يدي؟! قال: فأصبح ويده محشورة في دبره!! يقول: أين باتت يدي؟! أنت لا تدري، والرسول ﵊ يقول: (إنك لا تدري أين باتت يدك)، لعل الجني نام عليها، فحصل فيها وباء، فعندما تضع يدك في الماء يتسرب هذا الداء إلى الماء، وهناك حديث للرسول ﵊، وهو أدب، وأغلبنا لا يلتزم بهذا الأدب (نهانا رسول الله ﷺ أن ندع الإناء مكشوفًا أو الطعام مكشوفًا في الليل، ولو أن تعرض عليه بعود) لو لم تجد إلا أن تأخذ عودًا من حطب وتضعه عليه فافعل؛ لأن الرسول ﵊ قال: لأن هناك أوبئة -أمراض- تنزل من السماء، فلا تصادف إناء مكشوفًا إلا دخلته، يشرب الماء ويمرض، ويستغرب من أين جاء المرض؟ والمرض نزل في الليل، فكل ليلة تنزل آفات من السماء فالرسول ﵊ قال: (ولو أن تعرض عليه بعود) حطه على الطعام والشراب بالعرض، فإذا أعملت الإيمان والسمع لرسول الله سعدت ونجوت، أما إذا أعملت عقلك فلن تنتفع بشيء وسوف تهلك.
أمرنا رسول الله ﷺ أن نحلق شعر المولود وهو ابن سبعة أيام: (احلقوا شعره وتصدقوا بوزنه فضة) فتزن شعر الغلام، وتتصدق بمثل هذا الوزن فضة على الفقراء والمساكين.
وقد يقول شخص: الولد صغير وما زالت فروة رأسه رطبة، فلا أستطيع أن أحلقه حتى لا أؤذيه، ولكن سأخرج أكثر من الوزن صدقة، فنقول: ليس المقصود الصدقة فقط، فأنت لا تدري لعل هذا الحلق يفتح ذهنه! ما من أمر أمرت به إلا وله فائدة؛ علمتها أو لم تعلمها، فعلى المسلم أن يمتثل لنبيه ﷺ، ما الذي يجعله يمتثل للأمر حتى لو لم يوافق عقله؟ الإيمان بأن كل أمر من الله ورسوله لمصلحته.
فـ أبو هريرة لما حدّث بالحديث: (إذا استيقظ أحدكم من منامه) قال رجل: وما تفعل بالمهراش يا أبا هريرة! والمهراش: هي الجرة العظيمة، ففهم هذا القائل أن الإناء ماء قليل، فإذا كان هناك نجاسة على اليد، تسربت إلى هذا الماء القليل فنجسته، فإذا صار الماء كثيرًا لا تضر معه هذه النجاسة الصغيرة التي علقت باليد، فقال له: وهل يأخذ المهراش حكم الإناء والحلة الصغيرة؟! فالرجل أعمل عقله واستخدم القياس، فقال أبو هريرة: أعوذ بالله من شرك! فما هو الشر الذي أتى به هذا الرجل؟ استخدام العقل والمقاييس التي يعطل بها النصوص، يأتي رجل يقيس قياسًا يعطل به نصًا، فصان الصحابة النصوص عن مثل هذه الأقيسة، لا أنهم كانوا يرفضونها، وأنا أبين لكم موقف الصحابة من إعمال العقل، وهل النص يأتي بعد العقل، أم أن العقل يأتي بعد النص، وأيهما المقدم؟ كان فيما سبق هناك حكم فقهي مفاده: أن الذي يأكل شيئًا ناضجًا أو يشرب شيئًا مسته النار يتوضأ، فمن نواقض الوضوء أن تأكل شيئًا مطبوخًا، هذا الحكم كان في أول الإسلام، ثم الرسول ﵊ فعل شيئًا نسخ به هذا الحكم، لأنه أكل من كتف شاة، ثم دُعي إلى الصلاة، فصلى ولم يحدث وضوءًا.
فدار بين أبي هريرة وابن عباس جدل في هذه المسألة، فـ أبو هريرة يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (توضؤوا مما مست النار) فاستنكر عليه ابن عباس وقال: (يا أبا هريرة! أتوضأ من طعام أجده في كتاب الله حلالًا؟ يا أبا هريرة! أفلا نتوضأ من الحميم؟ يعني: أن الغسل بالماء الدافئ لا يجزئ، وإنما لا بد أن يكون الماء لم تمسه النار، وإلا فإن غسله من الماء الذي مسته النار يحتاج إلى غسل بماء بارد لم تمسه النار، فملأ أبو هريرة كفه بالحصى وقال: أشهد عدد هذا الحصى أنني سمعت رسول الله ﷺ يقول: (توضؤوا مما مست النار) يا ابن آخي! إذا حدثتك عن رسول الله ﷺ حديثًا فلا تضرب له الأمثال) .
أليس كل ما تكلم به ابن عباس جدلًا عقليًا، وأبو هريرة معه نص؟ ومع ذلك لا أعلم أحدًا من علماء الإسلام استهجن موقف أبي هريرة، بل وافقوه؛ لأن الله يقول: ﴿فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل:٧٤]، والإنسان لا يعلم إلا ما هو في حدود عقله: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء:٨٥] .
إذًا: اعتراض غير المعصوم على المعصوم فيه تضييع للدنيا والآخرة أيضًا.
أبو هريرة لم يقف عند الجدل العقلي لـ ابن عباس، ولو أن ابن عباس قال له: (إنني رأيت النبي ﷺ في بيت ميمونة أكل من كتف شاةٍ، فدعي، فصلى ولم يتوضأ) أظن أن أبا هريرة ﵁ كان سيقف ولا يشتد نكيره على ابن عباس.
إذًا: الصحابة رضوان الله عليهم نجوا، وأورثهم الله الدنيا كلها بسبب (آمنا ثم أوتينا القرآن) .
تصور الآن: أنهم يريدون أن يخضعوا كتابة التاريخ الإسلامي من جديد للعقل أمة تهدم نفسها! وتهدم تاريخها وتتهم ثقات رواتها بالمحاباة.
يقولون: ابن جرير الطبري كان مواليًا للدولة الأموية.
ابن جرير الطبري كان عميلًا، والجماعة الذين يؤرخون اليوم هم الشرفاء؟! أهؤلاء الذين هم أصحاب النفاق الساطع -يتقلبون ظهرًا لبطن في كل عصر- يريدون أن يقيموا تاريخ الأمة كله؟! يريدون أن يعيدوا التاريخ كله من جديد ويحاكموه للعقل، مع أن في نفس مقالاتهم ما يرد عليهم.
افترض أننا سلمنا لك بصحة المقالة، وأننا محتاجون إلى أن نكتب التاريخ الإسلامي من جديد، على أي أساس يكتب التاريخ؟ أليس على أساس النقل عن هؤلاء الذين اتهمتهم؟! تأخذ تاريخ الأمم والملوك، وتوازن بين الروايات، وتأخذ بعضها وتترك البعض الآخر.
لعل الذي اخترته هو الذي كتبه ابن جرير، ما أدراك؟ فالعجب لهم! يكذبون برواياتهم، ويأخذون بعضها ويحتجون بها.
وانظر إلى هذا الضلال المبين: يريدون أن يحاكموا بين الصحابة الآن، هلاّ قلت ما علمك الله ﵎: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة:١٣٤]؟ اعمل مثلما عملوا، إذا كنت تعتبر هؤلاء خونة، فكن خائنًا مثلهم، وافتح الدنيا مثلهم إن هؤلاء عجزوا أن ينالوا أي شيء، إنهم أمة مستهلِكة ومستهلَكَة في نفس الوقت.
والخلفاء الأمويون والعباسيون مع فسادهم كانوا يعظمون الدين، وبعضهم يطعن في: هارون الرشيد، ويضربون المثل بـ هارون الرشيد في الجواري والموسيقى والغناء والمجون واللهو، وأكثر ما أُلصق بـ هارون الرشيد كذب، إنما ألصقه به نصارى الروم الذين قصوا هذه الأقاصيص؛ لأنه أذلهم وأرغمهم.
حتى الحجاج بن يوسف الثقفي على فسقه وفجوره نصر الإسلام والمسلمين، وكانت راية الإسلام عالية، والدولة العثمانية التي سقطت سنة (١٨٢٨م) مجرد كلمة الخلافة الإسلامية في اسطنبول كانت تسبب الرعب لهؤلاء رغم الفساد العريض الذي كان في الدولة العثمانية، إلا أنها كانت دولة فاتحة، والكل يخافها ويهابها ويدين لها مع ضعفها.
فحين يأتي الآن شخص ليكتب التاريخ الذي بينه وبينه ألف سنة بعقله فانظر كم سيكون من الفساد، وهذا بسبب جعل العقل قبل كل شيء، حتى صار وثنًا يعبد من دون الله.
4 / 7