قال: «سأستأذن صديقا لي بالديوان في أن يدخلنا قبة الهواء القائمة على سفح المقطم، ويختصنا بمكان يشرف على كل ما هنالك من السهول، فنرى الحفل بين أيدينا.»
فاتفقا على الموعد وافترقا. •••
كانت قبة الهواء بناء أقامه أمراء مصر على سفح المقطم مكان القلعة اليوم، وأول من بناها حاتم بن هرتمة في أواخر القرن الثاني للهجرة، وجعل الأمراء بعده يتخذونها مصيفا أو متنزها. ولما جاء المأمون إلى مصر سنة 217ه جلس فيها حتى إذا أفضت إمارة مصر إلى ابن طولون ابتنى قصره تحتها، وبنى القطائع وراء ذلك بينها وبين الفسطاط. وكان كثيرا ما يقيم بالقبة المذكورة؛ لأنها كانت تشرف على قصره. وهذه القبة بضع غرف مفروشة بأحسن الرياش، عليها الستور الجليلة، ولها فرش لكل فصل. ولما ذهبت دولة بني طولون وخربت قصورهم كانت قبة الهواء في جملة ما خرب.
أما يوم احتفال ابن طولون بجر الماء في العين فقد كانت القبة في إبان عزها. وفي صباح يوم الاحتفال ذهب إسطفانوس إلى دير المعلقة ودعا مرقس ودميانة لمشاهدة موكب ابن طولون منها، فقبلت دميانة ؛ لأن ذلك بغيتها. فسارت راكبة على حمار من حمر الدير، ومشى زكريا في ركابها، وأخذ يحدثها عن الاحتفال، ويمنيها بقرب الفرج حتى نسيت متاعبها وهواجسها وامتلأ صدرها رجاء، وأوشكت أن تقبض على السعادة بيدها.
التقى الكل عند سفح المقطم نحو الضحى، فأسرع إسطفانوس ومشى بين أيديهم صاعدا حتى أتى قبة الهواء، وكان قيمها واقفا في انتظاره، ففتح له بابا دخل فيه ورفاقه إلى شرفة بها أعمدة عليها الستور المزركشة أو المطرزة، تشرف على ما تحت المقطم من الميادين أو الأبنية أو غيرها. وأخذ إسطفانوس يساعد الفراش في تهيئة القاعة اللازمة لمرقس وابنته وله. على أن حديثه كان موجزا ولم يقرب من دميانة كعادته فظنته قد تأدب. ولم تخفه أو تنفر من رؤيته ليس لأنها تعودته أو أخذت تميل إليه، وإنما نظرا لقرب نجاتها منه بعد فوز سعيد. ناهيك بما كان يجول في خاطرها من الآمال الكبيرة بعد حصولها على حبيبها. على أن لهفتها لمشاهدة سعيد في ذلك الموكب بعد بجانب ابن طولون صاحب مصر؛ شغلها عن الاهتمام بشيء آخر.
فبعد أن استقر المقام بهم اعتذر إسطفانوس بأمر يدعو إلى انصرافه على أن يعود بعد قليل فقال له مرقس: «وأنا أيضا ذاهب في مهمة بمكان قريب، فهل تبقى دميانة وحدها؟»
فقالت: «اذهب يا أبي، وهذا زكريا يمكث معي ولا خوف علي. ولا تجعلني عثرة في طريق راحتك.»
فأظهر مرقس أنه لا يضمر حقدا على زكريا، وقال: «حسنا. ها أنا ذا ذاهب.» والتفت إلى زكريا وكان واقفا بقرب الباب وقال له: «لا حاجة بي لأن أوصيك بدميانة.»
فأشار زكريا مطيعا، وظل واقفا حتى خرج مرقس، ثم مشى نحو دميانة فرآها مشرقة الوجه على غير ما تعوده منها في المدة الأخيرة؛ فإنها كانت لا تبرح منقبضة الصدر لا يحلو لها طعام ولا كلام. فوقف بين يديها وهي جالسة على مقعد ثمين يطل الجالس عليه على القطائع والفسطاط فأشارت إليه أن يجلس، وألحت على البساط بين يديها وهو يقول: «قد آن الوقت للتخلص من هذا الغلام.»
قالت: «أتظن هذا اليوم آخر أيام الانتظار ولكن كيف نجتمع بسعيد، ومتى، آه، آه.»
Bog aan la aqoon