أبطال الرواية
مراجع رواية أحمد بن طولون
دميانة
سعيد
مرقس وإسطفانوس
الصعود في النيل
بين سعيد وإسطفانوس
خطبة دميانة
موكب ابن طولون
فرار دميانة
Bog aan la aqoon
صدقات ابن طولون
في دير أبي مقار
بين قبائل البجة
عند ملك النوبة
كشف السر
زواج الحبيبين
أبطال الرواية
مراجع رواية أحمد بن طولون
دميانة
سعيد
Bog aan la aqoon
مرقس وإسطفانوس
الصعود في النيل
بين سعيد وإسطفانوس
خطبة دميانة
موكب ابن طولون
فرار دميانة
صدقات ابن طولون
في دير أبي مقار
بين قبائل البجة
عند ملك النوبة
Bog aan la aqoon
كشف السر
زواج الحبيبين
أحمد بن طولون
أحمد بن طولون
تأليف
جرجي زيدان
أبطال الرواية
أحمد بن طولون:
أمير مصر.
أبو الحسن البغدادي:
Bog aan la aqoon
من الشيعة العلوية.
دميانة بنت مرقص:
من سراة الأقباط.
سعيد الفرغاني:
مهندس مسيحي.
أحمد المارداني:
متولي الخراج.
إسطفانوس بن يوحنا:
كاتب الخراج.
زكريا:
Bog aan la aqoon
خادم دميانة.
البطريرك ميخائيل:
بطريرك الأقباط.
أبو حرمله:
أمير قبيلة البجة.
مراجع رواية أحمد بن طولون
هذه هي المراجع التي اعتمد عليها المؤلف في تأليف الرواية ووقائعها التاريخية:
تاريخ المقريزي.
الخريدة النفيسة.
تاريخ التمدن الإسلامي.
Bog aan la aqoon
بتلر
Butler I .
دميانة
خرجت دميانة من منزل أبيها بقرية «طاء النمل» بمديرية الدقهلية - في أصيل يوم من أيام سنة 264 للهجرة، ومشت تسترق الخطى في البساتين، تلتمس كنيسة هناك بنيت لصلاة أهل تلك الناحية والقرى المجاورة. وكانت دميانة تذهب للصلاة فيها كل صباح - وخاصة أيام الآحاد والأعياد - لكنها أرادت الذهاب في ذلك الأصيل لتخلو بقسيسها وتسر إليه أمرا خالج ضميرها وأقلق راحتها، وهي ترى في الاعتراف راحة أو مشورة أو مؤاساة، ولو كانت أمها على قيد الحياة لاستغنت بالشكوى إليها عن مكاشفة القسيس. وأما أبوها مرقس فلم تكن ترتاح لمصارحته بما يجول في خاطرها؛ لاختلاف ما بين ميولهما وطباعهما؛ إذ كانت هي تقية ورعة تصلي كل صباح وكان لا يعبأ بالصلاة ولا يدخل الكنيسة إلا نادرا وكانت تكره الخمر في حين يتعاطاها هو مسرفا في المجون لا يهمه إلا متاع دنياه والتأنق في الطعام والشراب.
وكانت دميانة طفلة حين توفيت أمها. فلم يتزوج أبوها بعدها لا احتفاظا بعهد الزوجة الوفية ولا مراعاة لوحيدته؛ ولكنه رأى الزواج قيدا شاغلا فعمد إلى التسري واقتناء الجواري اقتداء بسراة المسلمين في ذلك العهد - عهد البذخ والترف والقصف شأن بعض الأقباط من أهل الثروة في ذلك الحين.
كان مرقس من ملاك الضياع وأهل الثروة، لا يشغله طلب الرزق عن شيء من ملاذ الحياة. فيقضى نهاره في الأكل والشرب بين الأصدقاء والخلان الذين هم على شاكلته، وكان العقلاء ينتقدونه ويقبحون عمله، ولا سيما الذين عاشروه منذ الصبا وعرفوا حداثة عهده بالثروة؛ لأنه نشأ متوسط الحال لا يزيد دخله على الكفاف، ثم جاءته الثروة فجأة فصادفت قلبا شرها ونفسا ضعيفة فاتجه وجهة المتاع الجسدي.
أما دميانة فربيت في حجر أمها حتى الثامنة من عمرها وأخذت عنها كثيرا من الفضائل؛ كالتقوى والصراحة في القول وصدق اللهجة والاتكال على الله والمحافظة على الصلاة اليومية، وماتت أمها فجأة وهي غائبة ولو شهدت نزعها لسمعت منها حديثا يهمها ذا شأن في مستقبل حياتها، فأصبحت وحيدة لا أنيس لها في تلك القرية؛ لأن أكثر سكانها من الفلاحين العاملين في أرض أبيها وهم تابعون للأرض ينتقلون معها من مالك إلى مالك، أو من متقبل إلى متقبل؛ على نحو ما كانت عليه الحال يومئذ في أكثر البلاد. ففي المملكة الرومانية بأوروبا كانت الأرض تنتقل من بارون إلى بارون وينتقل فلاحوها معها، ويسمونهم سيرف.
وهو ما يعبر عنه بالعربية بالقن؛ أي العبد المملوك بالوراثة، وجمعه أقنان.
فلم تكن ترتاح إلى معاشرة بنات الفلاحين، ولم تخرج في علاقتها بهن إلى أكثر من الإحسان والبشاشة، وكن يتقربن إليها بالهدايا والخدمة، غير أن ذلك لم يكن ليشبع ما في نفسها من الميل الغريزي إلى المصادفة والمكاشفة على عادة بنات المدن مع الصواحب أو الجارات أو ذوات القربى فكانت إذا طرأ عليها أمر يقتضي الترويح عن النفس انصرفت إلى الصلاة فتتعزى إلى حين.
أما في ذلك اليوم فشعرت بانقباض. وضاقت ذرعا بكتمان ما في نفسها وهي تحسبه مخالفا لشروط التقوى والتدين فقضت معظم النهار في التفكير منفردة في غرفتها، حتى إذا مالت الشمس إلى الأصيل لاح لها أن تبوح بسرها إلى الأب منقريوس قسيس القرية؛ وكانت تأنس به لطول عهده بخدمة الكنيسة ولكبر سنه. هذا إلى أن الاعتراف للقسيس قاعدة متبعة عندهم.
Bog aan la aqoon
وخرجت دميانة تمشي في البساتين كأنها تتمتع بمناظر الطبيعة، وتنظر في الأغراس وصبيان الفلاحين وبناتهم يقفون احتراما لها أو يفرون خجلا منها. وبعضهم في شاغل عنها بثور يسوقه على مربطه أو حمار يحمل عليه قضبانا أو فاكهة إلى بيت مولاه. •••
مشت دميانة متظاهرة بأنها مهتمة بتلك المناظر، وهي في الحقيقة في شاغل عنها بما يتردد في ذهنها من الأمر الذي تهم بكشفه للأب منقريوس، فلم تكن تسمع غناء الغلمان وهم يحصدون الزرع ولا صياح الأدياك ولا رفرفة الأطيار التي تلتقط الحب. ولما دنت من الساقية الكبرى على ضفة النيل لم تنتبه لأنينها أو طقطقة أخشابها أو خوار ثورها والغلام يستحثه على الدوران.
وكانت دميانة في نحو العشرين من عمرها ربعة القامة سمراء اللون مع صفاء ونضرة، كبيرة العينين سوداء الحدقتين مع ذكاء ووداعة، صغيرة الأنف والفم، ممتلئة الشفتين، لها ميسم ينم عن صدق طويتها ورقة إحساسها وفي أذنيها قرطان من ذهب يمثلان أبا الهول وقد ضفرت شعرها الأسود ضفيرة واحدة أرسلتها على ظهرها وغطت رأسها بنقاب من الحرير - نسج دمشق - أهدته إليها أمها في طفولتها، وقد طرزت لها حواشيه ببعض الدعوات والآيات باللغة القبطية وارتدت ثوبا رقيقا من القاطي واسع الأردان التفت فوقه بمطرف من الخز مما كان يحمله تجار فارس إلى الفسطاط واحتذت نعلا من الجلد والخوص وفي عنقها قلادة من الذهب في وسطها صليب. •••
كانت المسافة بين المنزل والكنيسة نحو ميل، قطعت دميانة معظمه على ضفة النيل وعيناها تنتقلان بين الماء واليبس، فمرت بها قوارب تحمل تبنا أو حبوبا أو غير ذلك من الغلال - وهي لا تعيرها انتباها ولا تكاد تسمع صراخ ملاحيها أو نقر الريح على أشرعتها - ولكنها انتبهت فجأة على سفينة لم تشاهد في النيل مثلها ضخامة وإتقانا، بناء وزخرفة وكبر شراع. وكانت لما احتوت عليه من غرف ونوافذ كأنها بيت سابح فوق الماء يشبه ما يعرف اليوم (بالذهبيات)، فعلمت أن مثل هذه السفينة لا تخلو من أن تنقل بعض السراة، وربما كان فيها بعض أصدقاء أبيها وهي لا تحب أن يراها أحد منهم.
وكانت قد أشرفت على الكنيسة فأسرعت إليها تتوارى بين جذوع الشجر وأغصانها، حتى دنت من باب الكنيسة فاستترت وراء نخلة ضخمة عند الباب القديمة العهد والتفتت إلى النيل لتعيد نظرها في تلك (الذهبية) لعلها تعرف أصحابها، فتفرست في الراية المنصوبة في مقدمها فرأت عليها كتابة بالعربية وهي لا تقرأها؛ لأن أهل القرى كانوا إلى ذلك العهد لا يعرفون العربية؛ لقلة اختلاطهم بالعرب، ولأن المسلمين كانوا منذ الفتح يقيمون بمعزل عن أهل البلاد. إما بالفسطاط مقر رجال الدولة ومن يلحق بهم من الحاشية والأعوان وإما في أطراف البلاد بالمضارب والخيام ولم ينزلوا القرى إلا بعد قدوم المأمون إلى مصر في أوائل القرن الثالث للهجرة لإخماد ثورة نشبت بها، فأمر المسلمين بنزول القرى فابتنوا فيها القصور وحولوا بعض الكنائس إلى مساجد.
فلما رأت دميانة الراية علمت أنها لبعض رجال الدولة، أو بعض الخاصة، أو الجباة من القبط؛ قد خرجوا لجمع الخراج والجزية، ولولا علمها بمنزلة أبيها من صاحب الخراج لخافت أن يمسه ضر من أصحاب تلك السفينة. ولو كانت تقرأ العربية لقرأت على الراية اسم «أحمد المارداني» متولي الخراج وأحد ذوي النفوذ الكبير عند ابن طولون صاحب مصر.
وانتبهت لما جاءت من أجله فتوجهت نحو الكنيسة ودخلت بابها الغربي. •••
كان لتلك الكنيسة في أول أمرها بابان: أحدهما غربي والآخر شمالي. فلما نزل المسلمون القرى بعد قدوم المأمون واحتاجوا إلى أماكن للصلاة ابتنى بعضهم المساجد واغتصب آخرون بعض الكنائس وجعلها مساجد. أما قرية دميانة فنزلها رجل من الشيعة العلوية اسمه «أبو الحسن البغدادي» جاء من بغداد في حملة المأمون، ثم أحب المقام بمصر فاستأذنه في البقاء فيها فأذن له. وظل زمنا يقضي فروض الصلاة في منزله. وكان معتدلا منصفا فلم ير أن يسلب أهل تلك الناحية كنيستهم، فاتفق مع صاحب القرية وهي يومئذ مارية القبطية المشهورة على أن يقتطع من الكنيسة جانبا يتخذه مسجدا يصلي فيه كما فعل المسلمون بالجامع الأموي لما فتحوا دمشق فأذنت له. وقسم الكنيسة شطرين وأصبح الباب الشمالي خاصا بدخول المسلمين وليس منهم هناك إلا أبو الحسن البغدادي وحاشيته، وظل الباب الغربي مدخلا للنصارى.
دخلت دميانة من ذلك الباب ومشت في الدهليز باحترام وخشوع حتى أقبلت على واجهة الهيكل وعليها الأيقونات الملونة والأستار المصورة، فرسمت علامة الصليب وعرجت على أيقونة مريم العذراء في جهة اليمين وهي تمثل العذراء تحمل طفلها في شكل جميل، وقد جلبت هذه الصورة من القسطنطينية، فجثت دميانة أمامها وأخذت تصلي بحرارة وخشوع وتمثل لها الأمر الذي جاءت من أجله، فخفق قلبها تهيبا من الخوض فيه ولكنها تجلدت وأخذت تتضرع إلى العذراء أن تقويها وتسدد خطواتها ولمست وجه الصورة بأناملها ثم مسحت بها وجهها تبركا.
وفيما هي في ذلك سمعت تمتمة القسيس بالصلاة التي اعتاد إقامتها بالهيكل قبل الغروب في كل يوم - ويندر أن يحضرها أحد - وشمت رائحة البخور ورأت ضوء الشموع فازدادت خشوعا وتهيبا وهي وحدية في ذلك المكان المقدس ولم تر القسيس؛ لأن باب الهيكل مغطى بستارة من الديباج المزركش من صنع دار الطراز في تنيس.
Bog aan la aqoon
ولما فكرت فيما قدمت من أجله أكبرته، وحدثتها نفسها بأن تعدل عن مكاشفة القسيس بسرها وهمت بالرجوع وإذا بالقسيس قد أزاح الستار ووقف بباب الهيكل وبيده الصليب والإنجيل وهو يتلو الصلاة، فلم تتمالك عن التقدم نحوه وإحناء رأسها تحت الكتاب، فقرأ فصلا من الإنجيل بالقبطية - على عادته - فتشددت ورجعت إلى عزمها على الاعتراف.
فلما فرغ القسيس من الصلاة مد يده إليها فقبلتها، وأحس القسيس ارتعاش أناملها. وكان الأب منقريوس شيخا طاعنا في السن، عرف دميانة منذ طفولتها إذ كان هو الذي عقد إكليل أمها وعمدها هي وكان عطوفا عليها طيب السريرة صادق التدين مع سذاجة وصفاء طوية. وقد اطلع على أسرار اعترف له بها أصحابها زادته حنوا على دميانة ورعاية لها.
وقسيس الشعب الذي يطلع على أسرار رعيته إذا كان صادق التدين طيب السريرة كان ميمون الطالع؛ لأنه يستخدم تلك المعرفة للتوفيق بين بنيه وإزالة ما يكدر صفوهم من سوء التفاهم أما إذا كان طماعا منافقا فإنه يكون شرا عظيما عليهم؛ لأنه يستخدم تلك الأسرار لسلب الأموال والتمتع بالسيادة وغيرها من مطالب العالم.
وكان الأب منقريوس شيخا جليلا قد ابيض شعره واسترسلت لحيته، لا مطمع له في شيء من حطام الدنيا، وإنما همه خدمة رعيته والتوفيق بينهم، فلما رأى دميانة على تلك الحال في ساعة لم يتعود أن يراها بالكنيسة فيها ابتدرها بالكلام ليجرئها فقال: «كيف أنت يا ابنتي؟»
فهمت بالكلام فسبقتها العبرات فأطرقت حياء ووجلا فقال: «ما بالك تبكين؟ إن من كان في مثل حالك من التقوى والإيمان بالسيد المسيح لا ينبغي له أن يحزن أو يخاف.»
فتشددت وقالت: «نعم يا سيدي صدقت وأنا قد جئت الآن لاعترف لك بأمر أتعبني وأقلق ضميري فهل تسمعه؟»
قال: «كيف لا؟ تعالي إلى كرسي الاعتراف.»
قال ذلك واتجه إلى كرسي بجانب الهيكل يقعد عليه لسماع أقوال المعترفين، وأشار بأن تقعد على كرسي بين يديه، وبعد أن تلا الصلوات أو الطقوس التي تتلى في مثل هذا الموقف قال لها: «قصي خبرك يا دميانة ولا تخافي؛ فإنك تخاطبين نفسك، ومهما يكن من خطورة سرك فإنه يبقى مكتوما لا يعلم به أحد كأنك تناجين الله في ضميرك.»
فأطرقت دميانة خجلا وقد بدا الاصفرار في وجهها وسكتت، فقال: «قولي يا ابنتي.»
فرفعت بصرها إليه وتناولت يده وقبلتها وبللتها بدموعها، فاجتذب يده منها وقال: «قولي يا دميانة لا تخافي يا ابنتي، ولا أظنك تقولين شيئا أجهله؛ لأننا معشر القسيسين لا يخفى علينا شيء من أسرار الرعية؛ وذلك بما وهبنا السيد المسيح من سر الاعتراف، وعلينا أن نستخدم هذه المعرفة في الإصلاح بين الناس وتخفيف متاعبهم، وأنت تعلمين أني بمنزلة أبيك وقد عرفتك طفلة وعرفت أمك من قبلك ، ولا تخفى علي خافية من أحوالك.»
Bog aan la aqoon
فلما سمعت منه ذلك قالت: «تعرف ما في نفسي؟ كيف؟ قل - بحياة قدسك - قل ما تعلمه وخفف عني مشقة القول».
فتنحنح القسيس ومسح فمه ولحيته بمنديله وقال: «لا يا ولدي لا يجوز أن أبدأ بالقول ولكنني قلت لك ذلك؛ لأيسر عليك التصريح.»
فقالت: «أتعرف جارنا أبا الحسن البغدادي نزيل هذه القرية؟»
قال: «كيف لا أعرفه؟ أليس هو صاحب القصر الذي بجانب قصر أبيك؟»
قالت: «نعم وإنه - والحق يقال - لعلى خلق عظيم وأراه يحب القبط ويلاطفهم ويحاسنهم، خلافا لسواد أهل الدولة».
فلم ير القسيس رابطة بين ما سمعه وما كان يتوقع أن يسمعه، ولكنه ظنها تندرج في الحديث فقال: «أراك تحسبين اضطهاد أهل الإسلام للأقباط قاعدة من قواعد حكومتهم، والواقع أن ذلك يختلف باختلاف الرجال؛ فقد كان المسلمون في أوائل دولتهم بمصر أكثر الناس رعاية لنا ورفقا بنا واحتراما لعاداتنا وطقوسنا، وتخلل ذلك اضطهادات نأى الحق في بعضها بجانبه عنا لطمع كبارنا في أموال الدولة والإمساك عن دفع الخراج أو الجزية، ومن ذلك ما وقع في العام الذي جاء فيه المأمون إلى مصر وعاقبنا أشد العقاب مما لا محل لتفصيله الآن، أما أبو الحسن فرجل عاقل معتدل، عرفت اعتداله من تساهله في معاشرتنا واقتناعه بجزء من هذه الكنيسة لصلاته، وقد رأينا غيره يحولون الكنائس على جوامع.
وهناك سبب آخر لتقربه منا لا أظنك تعرفينه، وهو أن أبا الحسن هذا ينتمي إلى طائفة من المسلمين يقال لها الشيعة، يضطهدها رجال الدولة؛ لأنها تخالف مذهب الخليفة وأمرائه. كما كان حالنا قبل الإسلام إذ انقسمت الكنيسة إلى ملكية ويعقوبية، وكانت دولة الروم تنصر الملكية؛ لأنهم على مذهبها وتضطهد اليعاقبة، حتى تمنى هؤلاء خروج هذه البلاد من حوزتها، وقد حصل. ألا تذكرين يوم جاء أمر المتوكل خليفة بغداد إلى قبط مصر منذ بضع عشرة سنة؟ أظنك لا تذكرين ذلك؛ إذ كنت طفلة.
إنه بعث إلى عامله بمصر أن اهدم الكنائس المستحدثة بعد الإسلام، ونهى عن الاستعانة بالنصارى في الأعمال أو أن يظهروا الصلبان في شمانينهم. وأمر أن يجعل على أبوابهم صور شياطين من الخشب وأن يلبسوا الطيالسة العسلية ويشدوا الزنار ويركبوا السروج على بكر الخشب بكرتين في مؤخرة السرج، وأن يرقعوا لباس رجالهم برقعتين تخالفان لون الثوب قدر كل واحدة أربع أصابع ولون الواحدة غير لون الأخرى، وأن تخرج كل من نساؤهم لابسة إزارا عسليا. وحرم عليهم لبس المناطق وغير ذلك مما بقي معمولا به حتى تولى ابن طولون فأبطله.»
وسكت قليلا ثم استأنف الكلام فقال: «وقد أصاب الشيعة في ذلك الوقت من الاضطهاد مثل ما أصابنا، فإن ابن الخليفة - الذي نحن بصدده - كتب إلى عامله بمصر ألا يقتني علوي ضيعة ولا يركب فرسا ولا يسافر من الفسطاط إلى طرف من أطرافها، وأن يمنعوا من اتخاذ أكثر من عبد واحد ومن كان منهم له خصومة قبل قول خصمه فيه ولم يطالب ببينة.» «ومن طبيعة الأشياء يا ابنتي أن الذين يقاسون الذل معا يتآلفون ويتحابون ولو بعدت أصولهم وتباينت مذاهبهم.» •••
كان القسيس يتكلم ودميانة تنظر كمن يصغي وذهنها يعمل في تهيئة عبارة تبدأ بها شكواها أو تبث بها غرامها فلما فرغ من كلامه قالت: «وسعيد المهندس ضيف أبي الحسن، أو ابنه أو مولاه هل تعرفه؟»
Bog aan la aqoon
فنظر القسيس إليها خلسة فوجد سحنتها قد تغيرت ولونها امتقع وأبرقت عيناها. فأدرك أن ظنه لم يكن مخطئا، فأراد أن يشجعها على التصريح فقال: «وأنت ألا تعرفينه يا دميانة؟»
فلما سمعت سؤاله نزلت عن الكرسي وجثت بين يديه وأخذت تبكي وتهم بالكلام فيمنعها البكاء، فصبر حتى هدأ روعها وقال: «أظنك تحبينه. إنه شاب حميد الخصال بارع ماهر.»
فتنهدت دميانة ومسحت دموعها وقالت: «نعم يا أبتي إني أحبه. وهذا هو الأمر الذي جئت للاعتراف به وأستغفر لذنبي. لقد أحببته عفوا ومحض اتفاق يا سيدي وأنا لم أكلمه بعد وإنما كنت أراه داخلا إلى منزله أو خارجا منه وربما حياني بكلمة أو إشارة لا تتجاوز الكلمة وجوابها. ولكنني كنت أسمع بخصاله ومناقبه ومهارته في الهندسة. ولم يتفق لي أن اجتمعت به في مكان؛ لأن أبي يحجبنا عن أبي الحسن كما يحجب هذا نساءه عن رجالنا وحسنا فعل؛ فإن في ذلك دفعا للشر. وكثيرا ما حاولت البعد وغض الطرف لعلي أنسى فلم أقدر.» قالت ذلك وعادت إلى البكاء.
فقال القسيس: «أتبكين لأنك أحببت سعيدا؟ وهل الحب محرم؟»
قالت: «إنما أبكي لأني أحببت رجلا لا سبيل إليه، فإني وإن كنت لم أسع إلى حبه أحسبني أخطأت خطيئة كبيرة؛ لأني أحببته وهو مسلم.»
ففهم القسيس سر اضطرابها، فأنهضها وأجلسها على الكرسي بجانبه وهو يبتسم. فلما رأته يبتسم خف اضطرابها ولبثت تنتظر ما يقوله. فقال: «وما الذي جعلك تحسبينه مسلما؟»
قالت: «لأن اسمه سعيد ولم أعرف أحدا سمي بهذا من غير المسلمين، وقد سمعت أنه يلقب بالفرغاني، وهذا أيضا من ألقاب المسلمين وزد على ذلك أني لم أره في الكنيسة ورأيته مقيما مع أبي الحسن كأحد أولاده.»
قال: «أما اسمه فإن أبا الحسن سماه به، وليس ما يمنع تسميته سعيدا. وكذلك اللقب فإنه لقب به نسبة إلى أحد أساتذته المسلمين الذين أخذ الهندسة والرياضيات عنهم في بغداد مدينة العلم؛ لأنه سافر إليها مع أبي الحسن وتلقى العلم فيها. وقد يكون نسبة إلى قرية مصرية اسمها فرغانة. وأما الصلاة في ا لكنيسة فإنه لم يتخلف عنها إلا أثناء غيابه عن القرية في عمل أو سفر، ولعله كان يأتي متأخرا فلا ترينه».
قالت والدهشة بادية في محياها: «أليس سعيد مسلما؟»
قال: «كلا يا ابنتي إنه مسيحي مثلك.»
Bog aan la aqoon
فلما سمعت قوله وثبت من مجلسها وحملقت في القسيس وقالت: «مسيحي؟ نصراني مثلنا؟» قال: «نعم مسيحي يا ابنتي؟»
قالت: «هل أنت على يقين من ذلك؟»
قال: «لا ريب عندي في ذلك وقد جلس على هذا الكرسي واعترف لي مرارا.»
قالت: «جلس على كرسي الاعتراف؟ واعترف لك؟ أطلعك على مكنونات قلبه؟ آه هل اعترف لك بأنه؟»
وهمت بأن تسأله إذا كان قد اعترف بحبه لها، ثم أمسكت خجلا، وعلمت أن سؤالها يخالف أصول الاعتراف، فأطرقت وسكتت.
فقال : «يكفي أنك عرفت أنه مسيحي.»
فتنهدت وقالت: «نعم يكفي.» ثم رفعت رأسها إلى السماء وقال: «أشكر الله على ذلك.» وغلب عليها الفرح حتى ضحكت والدمع يقطر من عينيها وهي تردد قولها: «مسيحي؟ سعيد مسيحي؟» ثم انتبهت إلى أن مسيحيته لا تكفي وحده ليطمئن قلبها فسكتت وجعلت تتشاغل بمسح عينيها وإصلاح نقابها، ثم قالت: «وهل يعد حبي له خطيئة يا أبانا؟»
فأجاب القسيس: «إن الحب الطاهر يا دميانة ليس خطيئة بل هو من الفضائل التي يثاب الناس عليها، ونظرا لما أعلمه من تقواك وتعقلك لا أخاف تورطك وخروجك عن الحدود التي وضعتها الكنيسة.»
فقالت: «معاذ الله أن أفعل ما يخالف تعاليم الكنيسة ولكن هل تظن أبي ...» ومنعها الحياء عن تتمة الكلام.
فأدرك أنها تسأل هل أبوها يمانع في زواجها منه فقال: «إن أباك صعب المراس ولا أدري هل يرضى به بعلا لك أم لا.»
Bog aan la aqoon
فقالت: «إذا كنت أنت مكان أبي هل ترى سعيدا كفئا لي؟»
قال: «نعم؛ فإنه من خيار الشبان تعقلا وذكاء ومهارة، ولاسيما الآن، فإنه قد أحرز ثقة صاحب مصر أحمد بن طولون لمهارته في فن الهندسة فآثره على جميع مهندسي مصر. وأظنك تعلمين السبب.»
قالت: «كلا ما هو؟»
قال: «لما أفضت حكومة مصر إلى ابن طولون هذا وهو تركي الأصل وجنده أتراك كان عرف الفسطاط (قصبة المسلمين بمصر) لا يقبلونه إذ يرون أنهم أصحاب الدولة وفيهم ظهر النبي صاحب الشريعة الإسلامية، وكانوا في أول الإسلام يعدون الأتراك والفرس ومن إليهم من الأمم أقل منهم ويسمونهم الموالي. فلما تغلب العنصر التركي في بغداد على أيام المعتصم انحط شأن العرب وخرجت مقاليد الدولة من أيديهم وتولاها الأتراك والفرس وغيرهم وصار العرب ينظرون إلى هؤلاء بعين البغض والحسد ولم يعد ابن طولون يأمن القيام بينهم، فعزم على أن يبني لنفسه بلدا يجعله معقلا له ولجنده، فابتنى بين الفسطاط والمقطم قطائع أنزل فيها رجاله وبنى بها قصرا له فأعوزه الماء؛ لأن القطائع بعيدة عن النيل ومرتفعة عنه، فأراد أن يجري الماء إليها فلم يجد من يستطيع ذلك سوى سعيد فإنه تعهد له بجره وقد وضع له رسما هندسيا لم يستطعه سواه، وباشر العمل وأظنه فرغ منه الآن وجرى الماء إلى القطائع، فإذا رأى العمل متقنا كافأ سعيدا مكافأة يحسده عليها كثيرون.»
فسرت سرور المحب بما يناله حبيبه من التقدم، ثم انقبضت نفسها مخافة أن يحول ذلك الرقي دون مرادها وهي لم تعلم رأيه فيها بعد وإن كان قلبها يدلها على الحب المتبادل، فأصبحت في شوق إلى مقابلته لترى ما يبدو منه ولا تعرف وسيلة للاجتماع به؛ لأنه كان يقضي معظم أيامه في الفسطاط والقطائع.
وانتهت من الاعتراف فوقف القسيس ورفع يده على رأسها وباركها وصلى ودعا لها، فقبلت يده والصليب الذي يحمله وخرجت، وانصرف هو إلى غرفة يقطنها ملاصقة للكنيسة. ولم يعرض عليها أن يوصلها إلى بيت أبيها وقد أمسى المساء؛ لعلمه أنها لا تخرج إلا وخادمها العم زكريا معها، ولم يدر أنها أتت وحدها خلسة في ذلك اليوم.
سعيد
خرجت دميانة من الكنيسة وقد غربت الشمس وأخذت الظلال تتكاثف، ولكن القمر كان في ربعه الأول. فظلت بضع دقائق تتردد ثم مضت تخطو بغير انتباه حتى تجاوزت النخلة وأطلت على البساتين. وأشرفت على النيل وقد أكمد لون مائه من غيوم الجو فوقه لكن سطحه ازداد لمعانا لانكسار ضوء القمر على وجهه المتجعد كأن الزمان أثر فيه فتكمش مثل تكمش وجوه الشيوخ، فسارت وحدها وهي تستغيث بصاحب الكنيسة وحامية تلك الناحية؛ كي لا يراها أحد حتى تدخل غرفتها.
وفيما هي كذلك سمعت وقع حوافر جواد ألفت سماع مثله مارا بجانب منزل أبيها، وسمعت صهيل الجواد فخفق قلبها وأدركت أنه جواد سعيد، وأنها ستلتقي به وحده في الليل هناك وليس لها عهد بمثل هذه الحرية، ولا سبق لها أن كلمت سعيدا بغير التحية أمام والدها، وكانت منفعلة مما قالته وسمعته على كرسي الاعتراف، فوقعت في حيرة؛ لا تدري: أتتوارى من الطريق حتى لا يراها أم تقف له وتتحين الفرصة لمعرفة ما في قلبه، وكلا الأمرين شاق.
وكان هو قد بلغ موضعها، وما كاد يقع بصره عليها حتى عرفها، فترجل مسرعا، وتقدم وهو ممسك لجام جواده بيساره، ووقف بين يدي دميانة وقفة الإجلال وعليه لباس السفر، وعلى رأسه الكوفية والعقال بدل القلنسوة أو العمامة، وقد التف بعباءة من الحرير فوق القباء والسراويل، وكان أسمر بيضي الوجه عسلي العينين - مع وداعة وذكاء - قصير الحاجبين صغير الفم، خفيف الشاربين واللحية تلوح الصحة في محياه، ويتدفق الذكاء والحدة من عينيه. وكان وقوفه مواجها للقمر، فظهرت تلك الملامح ظهورا واضحا وزادها ضوء القمر هيبة.
Bog aan la aqoon
أما هي فكان الضوء واقعا على جانب رأسها فاكتسب وجهها رونقا من تكسر الأشعة واختلاف كثافتها على تقاطيعه، وكانت عيناها قد ذبلتا من البكاء بين يدي القسيس، فازدادتا ذبولا عند رؤية سعيد لما جاش في نفسها وما ينازعها من عوامل الدهشة والرجاء والخوف. فوقفت لا تتحرك، ولكنك لو جسست يديها أو سمعت حركة قلبها لظننتها بطارية كهربائية عليها مرجل يغلي ماؤه، ويتدفق بخاره لما يبدو لك من ارتعاش أناملها وخفوق قلبها واصطكاك ركبتيها.
فتقدم إليها باحترام، وقال: «هل تأذن سيدتي دميانة في أن أكلمها؟»
فلم تجب بلسانها، وإنما أجابت بعينيها ولم تحركهما، فقال: «أراك وحدك هنا ولعل خادمك أبطأ عليك، فهل تأذنين لي أن أماشيك إلى المنزل أو إلى أن يأتي الخادم؟»
فأطرقت وهي تصلح طرف نقابها، وقالت بصوت تخامره بحة: «أشكرك يا سيدي، وأخشى أن يكون في ذلك تعب عليك.»
قال: «كلا، وإذا خفت التعب لطول الطريق فاركبي هذا الفرس وأنا أقوده، ولا بأس عليك منه.»
فقالت وقد استأنست بتلطفه واستدلت منه على أنه يضمر مثلما تضمر: «لقد بالغت في التلطف يا سيدي بل يكفيني حظا أن أمشي إلى جانبك فأكون في ظلك، لا أخشى بأسا، ولا أخاف تعبا.»
قالت ذلك وهي تكاد تشرق بريقها من شدة الاضطراب، وسارت تتعثر بثوبها وركبتاها ترتعدان.
فماشاها سعيد يقود جواده وقد رأى المقام ذا سعة ليشكو لها ما يكنه فؤاده فقال: «إني أسير معك ولكنني في الواقع في حماك يا سيدتي؛ فإنك صاحبة هذه الأرض ومالكة رقاب أهلها وقلوبهم.»
فالتفتت إليه وقالت: «لا تقل يا سيدتي.»
فقال: «وماذا أقول إذن؟». قالت: «قل يا دميانة وكفى.»
Bog aan la aqoon
فتهلل وجهه فرحا وقال: «هل تأذنين في ذلك هل تأذنين أن أدعوك باسمك فقط؟»
قالت: «علي أن أدعوك أنا سعيدا فقط.»
قال: «أنت صاحبة الإذن والفضل للمتقدم فقط سمحت بأن أكون في خدمتك هذا المساء أثناء الطريق ويا لها من خدمة قصيرة الأمد فهل لي أن أطمع في امتدادها؟»
فنظرت إليه وقالت: «لا تقل خدمة فإنما هي أنس المرافقة.»
فقال: «وهل تأذنين أن تطول يا دميانة؟» وأدركت من بحة صوته المعني الذي أراده، فأخذ الهيام منها مأخذا عظيما، وسرها أن يسأل هذا السؤال. فنظرت إلى وجهه على ضوء القمر وعيناها شاخصتان إليه، وقالت وصوتها يرتجف: «طول الحياة.» وغلب عليها الحياء وتوردت وجنتاها وأطرقت. فلما أبطأ بالجواب خافت أن تكون قد تسرعت فتباطأت في المسير فطاوعها سعيد وقال: «قد تستغربين سكوتي يا دميانة بعد أن قلدت عنقي بعقد كلامك الحلو الشهي. وإنما سكت من الدهشة والإكبار فقد شعرت بالانتقال فجأة من مصاف الضائعين إلى مراتب أهل السعادة، إن دميانة كتاب كبير مجلد ضخم، بل هي وحي سماوي نزل على قلبي فأناره فأراني مستقبلا مجيدا لم أكن أحلم به؛ لأنه فوق ما كنت أطمع فيه. إن دميانة روح حلت في ميت آمالي فبعثته. ولقد طالما مررت بي أحلام الصبا يا دميانة وحدثتني نفسي بضروب من السعادة مما يخطر في أذهان الأحداث ويندر أن ينالوا عشر معشارها، فلم يخطر ببالي سعادة كالسعادة التي اكتنفتني عند سماع هذه الكلمة الثمينة، إنها أبلغ ما نطق به الشعراء وأسمى ما خطر على بال بشر. طول الحياة! أطال الله حياتك يا دميانة حتى تطول أسباب سعادتي.»
ثم وقف وقد انتبه لتسرعه في تفسير قولها، والتفت إليها، وهي تنظر إليه وقد حدقت بصرها في وجهه كأنها تهم بأن تحتضنه بأجفانها، فأحس بسهم أصاب قلبه وأنه غلب على أمره فقال: «أخشى يا دميانة أن أكون قد تسرعت في فهم مرادك هل تعنين ما فهمته؟ أم غلب علي الوهم ففهمت ما أتمناه؟»
فتنهدت تنهدا عميقا وقالت: «أبعد ما تراني فيه من دلائل ال ... تغالطني وتطلب مني زيادة الإيضاح؟ اكتف بما تراه من اضطرابي؛ فإنك أخذت كلمتي البسيطة وغاليت في قيمتها كأنك تقرأ أفكاري وهي تعبير عما يجول بخاطري. ولكنك ألبستها ثوبا قشيبا من عواطفك. ولا عجب فإنك مقيم في قلبي.»
فقال: «يا لنعيمي ويا لهنائي. مقيم في قلبك؟ حبذا المقام السماوي فماذا أقول يا دميانة وقد غلبتني على أمري وضيقت علي أبواب الكلام فأنا مقصر عنك في هذا البيان وأكتفي بعبارة بسيطة فأقول: إني أحبك حبا يكفي للتوفيق بين الملكية واليعاقبة ونزع ما بينهما من الضغائن أو التأليف بين الأقباط والمسلمين حتى يصيروا أمة واحدة.»
وأخذا يتشاكيان ويتكاشفان الهيام وهما يسيران والجواد يسير في أثرهما لا يسمعان لحوافره وقعا كأنه شعر باتقاد ذينك القلبين تهيبا من سلطان الحب وإكراما لذينك الحبيبين في ذلك المساء المقمر، وأما الحبيبان فكانا ينقلان الخطى وهما لا يعلمان إلى أين يسيران، ولو مشيا على تلك الحالة أياما لحسباها لحظات قليلة، فكانا في شاغل عن حفيف الورق وتنادي الفلاحين ونباح الكلاب وصهيل الخيل كأنهما في عالم آخر.
وفيما هما في هذه الغيبوبة المحببة رأيا شبحا مقبلا من جهة بيت مرقس، فقال سعيد: «أرى شبحا مقبلا أظنه رجلا هل ترينه؟ وهل تعرفينه؟»
Bog aan la aqoon
فالتفتت وتفرست فيه ثم قالت: «إنه خادمي العم زكريا وأظن أبي استبطأني فبعث به يستعجلني.»
فقال: «إن هذا العم سيأخذك مني أو بالحري سيفصل بيننا.»
فقطعت كلامه قائلة: «مؤقتا إن شاء الله.»
فردد قولها: «مؤقتا إن شاء الله» مرارا، ثم جذب اللجام حتى اقترب الجواد منه وقال وهو يحك جبهة الجواد: «أنت ذاهبة الآن إلى بيت أبيك، وستلهين عني بالخدم والجواري وبالأصدقاء، وأما أنا فلا أنيس لي إلا خيالك.»
فقالت: «لا يشغلني عنك شاغل بعد ما دار بيننا.» وكأنها أرادت إتمام الحديث فمنعها الحياء فقاطعها قائلا: «لن يطول الفراق - إن شاء الله.»
قالت: «ذلك إليك و...»
قال: «أنا ذاهب في الغد إلى الفسطاط؛ لأرى ما يأمر به أميرنا ابن طولون بعد أن أنهيت بناء العين وجر المياه وسبعين يوما يحتفل فيه بجرها فأنال المكافأة، وأرجو أن تسرك، وعند ذلك أتقدم إلى الأمر الذي جرأتني عليه بصادق فضلك. فأستودعك الله الآن.»
ومد يده إليها فمدت يدها فصافحها وضغط أناملها فأجابته بمثل ذلك وأومأت إلى القمر وهي تنظر في عينيه ولم تقل شيئا ففهم مرادها وقال: «وأنا أستشهد هذا الكوكب السيار على عهدنا.»
والتفت فرأى العم زكريا يتباطأ في مشيته عمدا كأنه علم بما بينهما فلم يشأ أن يفصل بينهما، فلما رآهما يتصافحان تقدم إليهما وحياهما هادئا رزينا.
وكان زكريا كهلا أجرودا أصله خصي أسود، نشأ في صباه عند ملك النوبة، ثم تنقل من يد إلى يد حتى وهب لدميانة ليلة ولادتها على أن يكون في خدمتها إلى آخر حياته، وقد أخلص لها الخدمة. وهؤلاء الخصيان إذا صدقوا في حبهم كانوا أقرب مودة لأسيادهم من الإخوة أو الوالدين، وكانت دميانة تأنس بزكريا وتكرمه وتناديه: «يا عماه.» وكان يعرف سعيدا معرفة جيدة ولم يفته ما يكنه لدميانة ولا ما في قلب دميانة له مع أنها لم تذكر له شيئا من ذلك. وكان يرى بينهما تناسبا، ويتمنى أن يتم زواجهما. فلما التقى بهما في تلك الخلوة بادرها قائلا: «لقد شغلنا عليك يا مولاتي لغيابك ولو علمت أنك التقيت بمولانا المهندس لما تحملت مشقة السعي إليك ولكن سيدي والدك استبطأك فأمر بتعجيل مجيئك.»
Bog aan la aqoon
قالت: «نعم أبطأت فقد شعرت بحاجة إلى الصلاة والاعتراف فجئت إلى الكنيسة وطال وقوفي أمام صورة سيدتنا فغابت الشمس قبل خروجي واتفق مرور جارنا الشهم فترجل عن فرسه ومشي معي.»
فابتدرها زكريا قائلا: «فوجب علينا شكره على هذه الأريحية.»
والتفت إلى سعيد وقال: «أشكرك على تحملك هذه المشقة، فإذا شئت فاركب فرسك إلى منزلك وأنا أمشي في خدمة مولاتي إلى البيت، فإننا على مقربة منه.»
فنظرت دميانة فإذا هي بجانب بيت أبيها، ولم تكن تحسب أنها على مثل هذا القرب منه، فبغتت، وجعلت تصلح من شأنها وتهدئ روعها؛ لئلا يبدو حالها لأبيها. أما سعيد فودعها وربك فرسه وتحول إلى منزل أبي الحسن، وما زال يلتفت نحوها ويشير مودعا حتى توارت عن بصره. •••
مشت دميانة خطوات قليلة حتى رأت الأنوار في حديقة بيت أبيها، ووقع نظرها على ضفة النيل التي تليه، فرأت أنوارا عديدة لم تعهد مثلها هناك، فقالت: «ما هذه الأضواء التي أراها في النيل؟»
قال: «هذه سفينة المارداني صاحب الخراج وأهلها أضياف عندكم.»
فتذكرت أنها رأتها تجري في الماء أصيل ذلك اليوم فقالت: «ما لنا وللمارداني لا أذكر أنه يزورنا ولا أعرف وجهه، فما الذي أتى به اليوم؟»
قال: «إن السفينة للمارداني ولكنه هو لم يأت فيها.»
قالت: «من أتى بها إذن.» قال: «إسطفانوس ابن المعلم يوحنا كاتب المارداني، وهو صديق سيدي والدك، وقد جاء في هذه السفينة الفخمة مبالغة في الأبهة.»
فلما سمعت اسم إسطفانوس امتقع لونها ووقفت وقد جمد الدم في عروقها. ولم يجهل زكريا سبب المفاجأة، ولكنه تجاهل وقال: «هيا بنا يا سيدتي؛ فقد طال بأبيك انتظار قدومك.»
Bog aan la aqoon
قالت: «طال انتظاره بقدومي؟ وهل يهمه أمري؟ وعنده من السراري والجواري ما يشغله عن هذه اليتيمة المسكينة التي فقدت سعادتها بفقد والدتها - رحمك الله يا أماه.» قال ذلك وحرقت أسنانها ثم قالت: «ما غرض هذا الشاب الجاهل من الزيارة يا ترى؟ أظنه جاء لمعاقرة الخمر مع أبي وليمضيا الوقت في المجون والخلاعة على جاري العادة.»
فتأثر زكريا مما شاهده من المها فأراد تشجيعها فقال: «وما الذي يهمك من ذلك يا مولاتي؟»
قالت: «كيف لا يهمني أمر والدي يا عماه؟ ألا يهمني أن يكون من معاقري الخمر وأهل المجون؟ هل رأيته ذاهبا إلى الكنيسة يوما ما؟ أم هل سمعته يصلي؟ وما الذي أبقاه لآخرته وأنت تراه يقضي أوقاته في الخلاعة والمجون وهو الذي لا يصاحب إلا من كان على شاكلته، وما قولك في رجل يتخذ إسطفانوس هذا صديقا له ينفق أمواله عليه؟»
فأجابها على الفور: «ألا تعلمين لماذا يصاحبه ويكرمه؟ وهل يخفى عليك أن سيدي والدك صاحب ضياع وأموال يلحقها من الخراج الكثير، وهذا الشاب ابن كاتب الخراج وله دالة على المارداني، فيخدم أباك في تخفيف وطأة الخراج وقد مضت عدة أعوام لم يؤد أبوك من الخراج شيئا.»
قالت: «بئس الاقتصاد هذا، أراه ينفق عليه في المآدب والولائم والهدايا فوق ما يقتصده من الخراج، ثم إن الخراج حق للدولة لا ينبغي إمساكه عنها كأننا نسرقها. إن أهل الذمة والضمير لا يقبلون ذلك.»
وكان زكريا يمشي بين يديها وهما يسيران الهويناء لإتمام الحديث قبل الوصول إلى المنزل، فأعجب بتعقلها وصدق نظرها؛ لأنه سمع منها قولا لم يسمعه إلا من كبار الرجال المتفانين في نصرة الحق والعدل، ثم تذكر تقواها وتدينها فأدرك حفظها قول المسيح: «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله، وفكر في أمرها وما يهمها من أمر أبيها فاستوقفها وقال:
إن الذي يهمك من هذه الشكوى أمران: الأول أنك تخافين أن يبذر أمواله فيضيع حقك في الإرث و...
فقطعت كلامه قائلة: «إن المال لا يهمني كثيرا ولكن لدي أمرا آخر أهم منه.»
فقال: «لو صبرت لأتمم حديثي لاستغنيت عن هذا البيان. الأمر الثاني أنك تكرهين إسطفانوس وتكرهين عشرته وتخافين أن تئول صداقته لأبيك إلى تمكين عرى القرابة معه، فتعود العائدة عليك، وأنا أعلم أنك تبغضين هذا الشاب كما تبغضين جهنم.»
فسرها أن العم زكريا فهم مرادها، وعرف ما يكنه ضميرها وأحسن التعبير عن مقدار بغضها إسطفانوس. وفي الواقع أن أباها كان قد لمح لها مرة بأنه يحب أن يزوجها منه فلم تجبه على أنها لا ترى كل ذلك شيئا يستحق الذكر بالقياس إلى حرمانها من سعيد، ولاسيما بعد الذي سمعته في تلك الليلة. وهمت بأن تبوح بذلك لزكريا فمنعها الحياء. وكان زكريا يمشي بجانبها والمصباح بيده، فلما آنس منها الإطراق والسكوت والتفكير رفع المصباح إلى وجهها وتفرس فيه وهو يبتسم وقال: «وقد قرأت في وجهك شيئا آخر.» وتنحنح وسعل وصبر هنيهة ثم قال: «إن سعيدا رجل شهم، وهو وحده أهل لك.»
Bog aan la aqoon
فلما سمعت منه هذا التصريح أسرع خفقان قلبها وتولاها الخجل ولم تجب فابتدرها هو قائلا: «وهذا الأمر - على خطورته - لا ينبغي أن يهمك كثيرا إنك ستنالين كل ما تريدين بإذن الله ونعمة يسوع المسيح (وكان العم زكريا نصرانيا مثل سائر أهل النوبة في ذلك العهد). ستنالين سعيدا، وسيذهب إسطفانوس هذا مخذولا، وستكونين صاحبة هذه الثروة وحدك متى شئت. إنما يجب علينا أن نتوخى التؤدة والحكمة والله المستعان.» قال ذلك وأمارات الجد بادية في صوته ولو استطاعت دميانة التفرس في وجهه لرأت في عينيه معاني لا يعبر عنها النطق، على أنها فهمت قوة عزمه من لحن صوته، كأنه يتكلم عن ثقة وسلطان، لكنها حملت قوله محمل الحماسة لها تخفيفا عنها؛ لأنه يحبها ويريد راحتها.
فقالت: «إني لا أفتر عن الصلاة والدعاء مساء وصباحا، وأتوسل إلى السيد المسيح أن يبعد عني هذه التجارب، وأرجو أن يصغي لطلبتي.» وقد سرها تصدي العم زكريا للأخذ بناصرها فزادت استئناسا به وارتكانا عليه، وهي تعتقد صدق ولائه وإخلاصه. ومشيا حتى اقتربا من الدار، ففتح لهما البواب فدخلا، فأطلا على حديقة أنيرت بمصابيح ملونة معلقة بأغصان الشجر. وقد مدت المائدة تحت شجرة كبيرة تدلت المصابيح من أغصانها كالعناقيد، وعلى المائدة الأقداح والأباريق فيها أصناف الخمر يتخللها أطباق الفاكهة والأطعمة وباقات الرياحين. فتحولت دميانة إلى غرفتها وظل زكريا في طريقه حتى أقبل على سيده وكان جالسا على وسادة عالية بجانب المائدة وبجانبه صديقه إسطفانوس وقد لعبت الخمر برأسيهما.
مرقس وإسطفانوس
كان مرقس كهلا متصابيا يؤلمه التفكير في كهولته وإذا بدا له أنه أشرف على الستين غالط نفسه وزعم أن أباه أخطأ في رصد عام ولادته. فكيف إذا سئل عن سنه إذن لاستشاط غضبا من قحة السائل! ومثله مثل كثيرين من كهول هذا الزمان الذين يشق عليهم أن يعرف الناس حقيقة أعمارهم، فإذا ظهرت سن أحدهم ظهورا لا سبيل إلى إنكاره ملكت قياده إذا قلت له : «يظهر أنك أصغر سنا من ذلك بكثير.» فيعد قولك تقريظا له فيثني عليك كأنك أطريت مناقبه فذكرت مآثره في المجتمع الإنساني أو تفوقه في العلم على أقرانه أو بلاءه في الدفاع عن وطنه!
هكذا كان شأن صاحبنا مرقس، وقد زاده تمسكا بظواهر الشباب انصرافه على إرضاء سراريه الكثيرات واكتساب إعجابهن، فكان لا يدخر وسعا في إخفاء علامات الكهولة، وأصبح منذ انصراف الشباب عنه، إذا ابيضت شعرة في شاربيه أو لحيته أو رأسه نزعها، فلما تكاثر الشيب عمد إلى الخضاب يسود به وجهه، فبدلا من أن يكون الشعر نظيفا كما خلقه الله يطليه بكلس اسود كما تطلى الجدران بالكلس الأبيض، أو يصبغه بالعقاقير كما تصبغ الجلود أو الأنسجة.
فهو يخدع نفسه لأنه يود أن يظهر من حاله غير ما هو عليه، ولكن خداعه لا يجوز على أكثر الناس. ولو أن واحدا من هؤلاء توسم فيك مداجاة أو خداعا لاحتقرك وتجنب عشرتك مع أنه يداجي الناس بخضابه فيريهم من أحواله غير الواقع ويوهمهم أنه شاب وهو كهل. وأنه أصغر سنا مما هو، فكأنه سئل عن عمره فكذب ومع أنهم يكرهون أنواع الرياء والكذب فإنهم يعدون الخضاب من قبيل المبالغة في إصلاح الهندام، ناسين أن النظافة أول شروط جمال الهندام.
وكان كل أمل مرقس أن يحتفظ بمظاهر الشباب بين يدي أهله؛ ولذلك كان إذا أحس بانحطاط في قواه الجسدية عمد إلى المنبهات، فشرب الخمر وأكثر في طعامه من اللحوم الطازجة والأفاويه، وتنشق العطور ولازم الراحة والخمول - وهما من بواعث السمن - فانتفخ وجهه وجحظت عيناه وغلظ عنقه وتعالى صدره وبطنه، فأصبح لقصر قامته إذا لبس السراويل والقباء يكاد يكون عرضه كطوله وتراه أكثر ما نراه ضاحكا طروبا كأن الطبيعة طوع إرادته لا يخاف مستقبلا ولا يرهب قدرا مخبئا، همه أن يتمتع بالحياة جهد طاقته فلا يروق له إلا مجلس المتهتكين المستهترين وينفر من أحاديث الجد بل هو لا يقوى على إعمال الفكر برهة ولا يلبث حتى يمل ويضيق صدره، فقد اعتاد أن ينأى بجانبه عن التعب بعد أن أتته الثروة فأغنته عن العمل.
ولرغبته في الشباب كان لا يصاحب الكهول؛ إذ يغلب فيهم الرزانة والبعد عن المجون والتهتك، فكان يعاشر الشبان ويقلدهم في حركاتهم وسكناتهم، فيجالسهم ويشاربهم ويؤاكلهم، وكان حديثه طليا فكها يتخلله كثير من النكات والمغامز اللطيفة، فإذا سمع نكتة ضحك لها وقهقه طويلا.
وكان إسطفانوس من بين عشرائه الشبان، وهو في نحو الخامسة والعشرين من عمره، وكان مرقس عشير أبيه من قبله. وكان هذا رجلا عاقلا وجيها اسمه المعلم حنا ترقى في مناصب الدولة حتى صار كاتبا للمارداني صاحب الخراج، ونال نفوذا كبيرا، وجمع ثروة حسنة، وقد أحسن كل عمل إلا تربية ابنه إسطفانوس، فلقد غلب ضعفه على عقله في أمره. أو لعل الذنب ليس ذنبه بل للفطرة؛ لأنك إذا تدبرت أحوال الناس في تربية أبنائهم قلما رأيت للتربية تأثيرا في ذلك، وما هي إلا كالصقل للمعدن تجلو ظاهره ولا تغير جوهره.
ومهما يكن السبب فقد شب إسطفانوس على الانهماك في اللذات والإخلاد إلى الرخاء ولم يكن مضطرا إلى العمل ولا فيه ميل إليه، فنشأ في عيش سهل لا هم له إلا أكله أو شرابه. وكان وحيدا لأبيه وله دالة عليه لا يطلب أمرا إلا ناله وعرف مرقس ذلك فازداد رغبة في تقريب إسطفانوس منه فضلا عن اتحاد الطباع وقد استفاد من عشرته إغضاء جباة الخراج عن تحصيل خراج أطيانه عدة أعوام.
Bog aan la aqoon
وكان إسطفانوس يتقرب من مرقس لثروته، وقد عرف دميانة من صغرها فأحبها، وكان جميل الطلعة معجبا بشبابه، وعنده أن الإنسان إنما تقاس منزلته برواء طلعته. وقد يصح هذا الزعم في النظرة الأولى وربما تعداها إلى ما بعدها؛ فإنك ترى أكثر الناس يأخذون الأمور بظواهرها فيبنون أحكام سيرتهم ومعايشهم على وسامة الشكل فيخلف ظنهم الرجل الطرير. واعتبر ذلك في اختيار الأزواج فكم من فتى غره الطرف الكحيل والخد الأسيل والقد الرشيق، وكم من فتاة خدعها جمال الطلعة وفخامة المظهر وقد يكون وراء ذلك ما يبكي العيون ويدمي القلوب.
ولم يخل عصر من شبان يعولون في الزواج على جمالهم فقط. وكان إسطفانوس من هؤلاء، وقد طمع في دميانة لجمالها ومالها، وخيل إليه أن أمرها بيد أبيها فجعل يتزلف إليه بإسدائه الخدمات أو بإطراء ذكائه وطلاوة حديثه، ويأتيه من مواضع الضعف فيه فينوه بما في وجهه من نضارة الشباب حتى لتكاد تظنه ابن ثلاثين، وكان من الجهة الأخرى يحسب رضا الفتاة أمرا مقضيا؛ إن لم يكن لجاه أبيه أو تبعا لرأي أبيها فلجماله، فكان إذا زارهم أصلح من شأنه وتطيب ولبس أحسن ثيابه وأثمنها، وكانت دميانة تنفر من تأنقه ومن تطيبه وتعدهما تخنثا أو خلاعة؛ ولاسيما بعد أن عرفته من المدمنين للخمر ولكنها لم تكن تظهر شعورها وتكتفي بتجنب مجلسه، فتدخل غرفتها تصلي أو تقرأ أو تجالس بعض جواري القصر ممن ربينها منذ صغرها. •••
لما أطل زكريا على مرقس وإسطفانوس وهما على المائدة قال له مرقس: «أين كانت دميانة، وما الذي عاقها؟»
فقال: «كانت في الكنيسة تصلي وتعترف وقد عادت.»
قال: ادعها لتتناول شيئا من الفاكهة.»
فأشار مطيعا وذهب إليها فرآها واقفة أمام المرآة الفضية تبدل ثيابها وتتأهب للرقاد، فقال: «إن سيدي يدعوك إليه.»
قالت: «قل له إني ذهبت إلى الفراش.»
قال: «لا يصدقني لأنه رآك داخلة، ولا أرى بأسا من جلوسك هنيهة معه ثم تعتذرين بالنعاس وتذهبين.»
فأطاعت والتفت بمطرفها وخرجت إلى الحديقة فاستقبلها أبوها ضاحكا مازحا وقال: «لقد طال غيابك في الكنيسة يا دميانة ألا تشبعين من الصلاة؟»
قالت وهي تجلس على وسادة في طرف البساط المفروش هناك: «إن الصلاة لذيذة يا أبي.» قالت ذلك وابتسمت.
Bog aan la aqoon