أما أبو الحسن فقد كان كهلا جليل القدر مع أنس ولطف جاء في ذلك المساء بلباس البيت وهو جلباب من الحرير المخطط فوقه عباءة رقيقة، وعلى رأسه طاقية حولها عمامة صغيرة. وكان مرقس وإسطفانوس قد سبقاه إلى القاعة وهي غرفة واسعة مفروشة بالبسط والسجاد الجميل وعلى نوافذها ستائر من الديباج المطرز صنع (تنيس) مما يندر اقتناؤه في القرى، وعلى جدران القاعة صور دينية وفي الوسط مشمعة كبيرة قد أنيرت شموعها وحول الأبسطة وسائد مطرزة بقرب الجدران.
فلما أقبل أبو الحسن خف مرقس لاستقباله والترحيب به، فسلم أبو الحسن عليه، ثم سلم على إسطفانوس، وقال له: «لقد آنست قريتنا يا معلم إسطفانوس.»
فقال: «إن الأنس بجوارك يا سيدي.»
ودعاه مرقس إلى الجلوس على وسادة قدمها له فقعد عليها، وبعد أن تبادلوا التحية والسلام مرارا قال أبو الحسن: «لماذا لا يأتي المعلم حنا والدكم لقضاء بضعة أيام عندنا؛ يستريح فيها من عناء الأعمال ويبعد عن ضوضاء الفسطاط؟»
قال وهو يشمخ بأنفه افتخارا بوالده: «إن الشواغل عنده كثيرة يا سيدي؛ إذ لا يخفى عليكم أهمية مركزه. وقد ألف العمل حتى غدا لا يرى راحة إلا به، وكثيرا ما أتوسل إليه أن يخرج للتنزه فلا يرضى.»
قال أبو الحسن: «أظنه الآن منهمكا في حسابات الخراج والعشور، فهذا الفصل.»
قال: «نعم ولا أدري متى يفرغ من العمل؛ فإن كل أيام السنة عمل عنده حتى إننا لا نراه في منزله إلا نادرا وإذا جاء المنزل تهافت عليه الوجهاء بين زائر يستشيره أو صاحب حاجة يتوسل إليه أو متخاصمين يحكمونه.» قال ذلك تفاخرا وبدا الإعجاب في وجهه؛ فهو يفاخر الناس بحكمة أبيه ووجاهته، ونسي أنه غر خامل قد يكون سببا في ذهاب تلك الوجاهة - وذلك دأب كثيرين من أبناء الوجهاء لا يضيع أحدهم فرصة يدخل فيها اسم والده في الحديث، وإذا سنحت له تلك الفرصة استأثر بالجلسة وأخذ يعدد مناقب الوالد ووجاهته فيقص على سامعيه من نوادره ومعجزاته ما يثقل سمعه ويعسر تصديقه وقد يتلطف في الاستطراق إلى التحدث عن والده بأسلوب يوهم السامعين أن ذكر الوالد جاء عرضا ثم عمد إلى القص والإطراء، ذلك هو شأن صغار الأحلام ضعاف الرأي وإسطفانوس واحد منهم. •••
وكان أبو الحسن من ذوي العقول الراجحة، واسع الصدر، يغضي عن الصغائر وينظر إلى الجوهر فقال: «أظنكم تقيمون بالفسطاط الآن؟»
قال: «كنا نقيم هناك ثم انتقلنا إلى بابلون بجانب الفسطاط لأن الفسطاط كثيرة الزحام وأبي يحب السكينة في ساعة الرقاد.»
قال: «لا أظنه ترك الفسطاط لازدحامها فقط، ولكنكم تفضلون الإقامة ببابلون؛ لأن سكانها من القبط، فتكون أماكن العبادة قريبة منكم.» وتبسم.
Bog aan la aqoon