فبش لها أبوها، وقال: «بورك فيك يا ولدي، إني لا أحب أن أحملك إلا على ما لا تريدين، ونحن ذاهبون فاستعدي.»
فانبسطت أسارير إسطفانوس، وأبرقت عيناه، وأخذ ينتفخ ويعالج مجلسه ليلفتها إلى جمال عينيه وعظيم هيبته، وهي لا تزداد بذلك إلا نفورا منه حتى ضاقت ذرعا بتلك الجلسة، وهمت بالنهوض. وإذا بالعم زكريا أقبل مسرعا يقول: «إن جارنا أبا الحسن بعث يستأذن في السهرة عندنا.»
فلما سمع مرقس ذلك بغت، وقال: «دعه يدخل من الباب الآخر، ونحن قادمون لملاقاته وأنر القاعة الكبرى بالشموع جيدا.» فنهض وأخذ يمسح شاربيه ولحيته ويصلح هندامه، ودعا إسطفانوس للدخول معه وتركا دميانة لتذهب على غرفتها من طريق آخر؛ لئلا يراها الضيف أو الجار. ولم يكن الحجاب يومئذ شائعا عند القبط، أو لعله كان في أول شيوعه وسببه في الغالب أن المسلمين كانوا يحجبون نساءهم عن النصارى كما يحجبونهن عن سواهم، فلما كانت إقامتهم بالمدن لم يكن لذلك تأثير على القبط، فلما نزلوا القرى وجاوروا القبط أصبح القبطي إذا زار جاره المسلم يحجب عنه امرأته وسائر نسائه، فأصبح هو يفعل ذلك إذا زاره المسلم فيحجب أهله عنه، وتنوقل ذلك في الأعقاب بتوالي الأجيال حتى صارت عادة محكمة فرضها تقليد المحكوم للحاكم. •••
أما دميانة فأخذ قلبها يدق عند سماعها اسم أبي الحسن وعزمه على الزيارة في تلك الساعة. وكانت زياراته نادرة قلما يأتي إلا لغرض. وتذكرت مقابلتها سعيدا في ذلك المساء فحدثتها نفسها بأنه قد يكون قادما لشأن يتعلق بها وأصبحت شديدة الشوق لمعرفة ما إذا كان سعيد آتيا مع أبي الحسن. ووقفت هنيهة تفكر في ذلك بعد ذهاب أبيها وإسطفانوس، ثم اتجهت إلى غرفتها وهي تتوقع أن يأتي زكريا ليطمئن بالها، فتشاغلت بتبديل ثيابها حتى أتى فسألته، فقال: «أتى أبو الحسن وحده يا سيدتي ، وهذه الزيارة لإسطفانوس وليست لوالدك؛ فقد سمعت أبا الحسن يذكر أنه لما علم بوجود إسطفانوس ابن المعلم حنا في القرية اغتنم الفرصة للسلام عليه.»
فأجابت دميانة بقلب شفتها السفلى - وهي تعجب تهكما واستخفافا - ولسان حالها يقول: «ما شاء الله، ابن المعلم حنا شيء عظيم وزيارته فخر كبير!»
فلحظ زكريا ذلك منها فقال: «لا تستخفي به يا مولاتي؛ فإن أباه يكاد يكون صاحب النفوذ الأول وليس أكثر نفوذا منه إلا المارداني صاحب الخراج ...»
فقطعت حديثه قائلة: «هل جاء أبو الحسن وحده؟»
فابتسم وقال: «نعم وحده.»
فقالت: «أراني أهم بأن أنام.»
قال: «ألا تتناولين العشاء؟» قالت: «لا أشعر بالجوع.» فتركها وخرج.
Bog aan la aqoon