فقال إسطفانوس: «نعم ندمت ومن ذا الذي يرى هذه الأخلاق العالية وهذه الصدور الرحبة ولا يندم؟ إني أحب أن أكون من أحقر أصدقائك.»
فقال: «دعنا من الصداقة، فقد صفحت عنك والسلام.»
فأشار ابن طولون إشارة سكت لها الجميع وأصغوا لما يقول فقال: «يسرني أنكم تصالحتم وسأؤيد هذا الصلح لاحتفال العرس الذي سأقيمه بعد قليل بحضور الأب البطريرك.»
وفهم الحضور أنه يريد الانصراف فنهضوا وإذا بصوت خرج من طرف القاعة، فالتفت الجميع فرأوا سمعان النوبي، وكان واقفا يسمع ما يقال، فلما سمع ما قاله زكريا عن أصله وأنه كان من جملة هدية ملك النوبة للمأمون؛ علم أنه أخوه الضائع وأحب أن يتصدى للكرم فلم يسعفه المقام، فظل صابرا حتى فرغ القوم من المحاكمة، فتقدم وقال: «يأذن لي الأمير في كلمة، إني رسول ملك النوبة إلى البطريرك؛ لأحضه على ما حضه عليه سواي من قبل، أما بعد أن شاهدت من عدلك وعظيم خلقك ما شاهدت؛ فإني أرى غير رأي ملك النوبة، وأنا عائد إليه لأثنيه عن عزمه، وأعيد العلاقة بينه وبين المسلمين إلى خير ما تكون.»
فقال ابن طولون غير مكترث: «لك ذلك.» وتحول، وخرج من باب خاص في تلك القاعة، وبقي الحضور يتصافحون ويتصالحون والبطريرك يباركهم ويخفف عنهم فقبلت دميانة يد أبيها، فقبلها هو وبكى، ووعدها بأن يخرج من في منزله من السراري والجواري وأن يعيش لله ولها ويكون طوع إرادتها، وتقدم إسطفانوس إلى سعيد يستغفر ذنبه ويصالحه، فقال له: «ليس في نفسي شيء منك، وقد صفحت عما فعلته، لكنني لا أميل إلى مصادقتك؛ لأن من كان لا يغضب لنفسه ولا يحفظ كرامتها لا يليق بالصداقة.»
فلما سمع إسطفانوس قوله كاد يذوب من الخجل، وتحول، وخرج وهو يبكي، فأشفق سعيد عليه وقال له: «إذا شئت أن نكون أصدقاء فأصغ لما يقوله أبوك؛ فإنه أطيب الناس قلبا وأحسنهم خلقا، فإذا عملت برأيه كنت من أصدقائنا.»
وأما سمعان فأكب على زكريا، وجعل يقبله ويقول له: «أخي إبراهيم! إبراهيم»
فبغت زكريا والتفت إلى سمعان وتفرس فيه وقال: «أخي سمعان، أخي حقيقة!» وتعانقا.
وكان أجمل منظر بين أولئك المجتمعين وأوقعه في النفس هو اجتماع سعيد بدميانة، فقد تخاطبا وتشاكيا طويلا بلسان لا يفهمه سواهما، أعني: لسان العيون فضلا عن الكلام، وطال وقوفهما وفرغ الآخرون من أحاديثهم وهما غارقان في حديث المحبين، فتقدم زكريا أخيرا وقال «هل تريد مولاتي أن تخرج، وإلى أين؟»
فانتبهت لنفسها، وسألت سعيدا فقال: «هل تأتون إلى قصري هنا؟» فخجلت دميانة من هذه الدعوة وأدرك زكريا خجلها فقال: «نذهب الآن إلى دير المعلقة؛ لأن سيدتي تحب الأديار، وأظن أبانا البطريرك نازلا هناك؟» فأشار البطريرك أن نعم، فقال: «فنذهب إذن إلى هناك للتبرك، وريثما يأمر الأمير بعقد الزواج فنجتمع ونقيم بقصر المهندس الفرغاني.»
Bog aan la aqoon