فقلت: وماذا عمل بها؟ فأجاب: سد بوزك. لا تضيع الوقت.
وفي الثامنة عشرة من عمري انتشرت الحمى في المدرسة فكانت لنا فرصة مرفع في شباط، والتلميذ يرحب بالطاعون إذا كان يعطي فرصة. وفي طريقي إلى البيت نزلت على صاحب لوالدي وبت عنده فكان حديث السهرة عن عنترة الشهور وكم جادت يداه بعاجل طعنة. فقال صاحب البيت: شباط قاشوش. فابتسمت، فقال لي: إن شاء الله تكبر وتخبرنا فيما بعد. فأوحت إلي كلمته أن أكتب مذكرات شباطية. ولما عدت إلى المدرسة شاورت (مرشدي) في الأمر فقال: اكتب، ولكن توق الفلسفة، فالتفت إليه مستفهما فأومأ بيده إيماءة من لا يريد البحث، وقال: ليس، اكتب. فشرعت في عملي بعد سنوات وهذا بعض ما كتبت: في الثانية والعشرين كنا ندرس كتاب الذمة - كانوا يسمون علم اللاهوت هكذا، يوم كانت شئون الذمة وشجونها تشغل البال - فرفعت أصبعي في أحد أيام شباط وقلت: مسألة.
فأجاب المعلم: هاتها. فقلت: هذي العلامات التي نراها على الأبواب في شباط، ألا تظن أنها مأخوذة عن العبرانيين عندما أمرهم الرب أن يعلموا بيوتهم بعلامة لئلا يدخلها غلطا ويقتل أبكارهم خطأ؟ فقال مغيظا: هذي من مذكرات شباط؟ اقعد يا ابني. بس.
في الخامسة والثلاثين بدأت أحس بوجود شهر اسمه شباط. أما في السنين التي مرت قبلها فكنت أفرح بقدومه ويعجبني ثلجه وهواه وشمسه وشتاه، وأتهلل حين أرى اللوزة تتخطر بثوب الزهر. وأذكر لما كنت صبيا، أنني رأيت جملا يرغي ويزبد دالقا جرابه الأحمر، فقلت لعشير أكبر مني وأخبر: أتقول قلبه يوجعه؟ فأجابني ضاحكا من سذاجتي: عجل، هات له الطست!
ولما بلغت الأربعين تهيبت شباط ولبست لاستقباله طاقا فوق طاق، فقالت الشباب: صرت تخاف شباط! فأجبت: درهم وقاية خير من قنطار علاج، فقال أحدهم: وكيف يكون قنطار العلاج إذا لم يكن هذي الثياب التي عليك.
وبين الخمسين والستين صرت كلما انقضى شباط أقول في قلبي: دعسنا رقبته. وفي الستين أحسست برقة جلد ووهن عظم، ولكنني كنت أتجاهى بقوتي عند من جاوزوا حد الأربعين، لتطمئن قلوبهم. يظهر أن الإنسان متى كبر يظهر من الضعف قوة.
في الثانية والستين غطى الثلج البلاد حتى المراكب في المينا، ومع ذلك انقضى شباط ولم يمت إلا طفلة بنت ستة شهور.
في السابعة والستين، غريب شباط، المرفع فيه، والأعراس فيه، وأكثر الأمراض والوفيات فيه، جمال تهدر. وسنانير تتنادى من كل فج - لكل خطاب يا بسين جواب - وفي زوايا البيوت شيوخ وعجائز تغص بسعالها وتشرق بريقها، متضايقين من ضجيج الحياة حولهم، فيصرخون ولعابهم يسيل: الله يقطع جنسكم، ما أفضى بالكم! وما يكون الجواب غير مواء موسيقي منغم.
في السبعين ارتخت ركبتاي فدعمتهما بالعصا. أغلقت الباب طول الشهر، صارت أخف نسمة هوا تفزعني. وإذا تجولت في يوم دافئ تحسبني فراشا يمشي على الأرض.
في الثالثة والسبعين زارني أبو الركب فهد حيلي، الله يهد عظامه، ولكن رحمة الله كانت واسعة. تخلصنا منه.
Bog aan la aqoon