وكان يجن جنونه كلما وقعت عينه على تلك الوريقات الملصوقة على أبواب الكنيسة والدكاكين، محددة موعد المزايدة في عقار الشيخ. وقعد عصاري آخر يوم من أيلول يفكر كيف يخرج من مضيقه، فلم يلح له بصيص أمل فتنهد وقال بلا وعي: فرجك قريب يا رب.
وما كاد ينتهي من دعائه حتى ماد به البيت. سمع طقطقة على السطح أشبه بوقع حوافر معزى تركض فاستبق وزوجته الباب، وما أطلا حتى سمعا قرقعة انهيار الجدران هنا وهناك. رأيا الغبار يتصاعد والأرض تميد، فسقطت زوجته على الأرض مذعورة، فصاح بها: لا تخافي، الدنيا تنهز ولا تقع.
وسارت الهزة الأرضية في سبيلها وراح الشيخ يتفقد جدران بيته، فرأى العيب في واحد منها فقعد يناجي ربه وهو بين الباكي والضاحك: أهذا فرجك يا رب؟ طلبنا منك الفرج فزعزعت أركان البيت؟!
وما انتهى من معاتبة ربه ومحاورته حتى أقبل عليه الناطور صائحا: البشارة لك يا شيخ. عوض الله عليك وطلع النبع. والله العظيم ثخن بوز الجرة.
فالتفت الشيخ إلى زوجته وقال: صدقت. قلت لك كنت آكلها من قلب السبع، واليوم أكلتها من قلب الأرض.
فاستدارت عينا أم شاكر، وانشق فمها، ولكن الكلام بقي محاصرا هناك.
مذكرات شباط
شباط شهر ناقص لا تفعل فعله ملوك الشهور. حقا، إن كل ذي عاهة جبار. كانت أمي تخاف شباط وتخوفني منه. فلا تنتشر غيمة في الجو حتى تغرزني حد الموقد كالوتد، ولو قدرت أن تكتفني وتربطني بخناق، لفعلت.
كان حديث الشتاء حديث شباط متى جاء. فكلما مات شيخ أو عجوز كنت أسمعهم يقولون: أخذه أو أخذها شباط. وكانت أمي تردد، دائما، هذه اللازمة: ومن يعصي عليه. وأخيرا فارقت هي فيه.
ودخلنا المدرسة فأنستنا الشيطنة حديث شباط، إلى أن كانت سنة قارسة البرد فقلنا: راح شباط وراح معه الشتاء، فقال معلمنا وكان يفخم اللفظ ويؤثر الغريب من الكلام: رويدكم يا أولادي، راح الصن ونحن اليوم في الصنبر. فقلنا كالمستهزئين: وما الصنبر؟ فأجاب: هو ثاني أيام العجوز. فضحكنا ورددنا: أيام العجوز؟ فصاح: هيهيء. أي نعم أيام العجوز، المستقرضات في لغة العوام، أربعة أيام من شباط وثلاثة اقترضها شباط من إذار ليتشفى من عجوز شمتت به.
Bog aan la aqoon