فقال سليمان قتلتني يا شيخ، قتلك الله، ونهض أبو العباس فوضع المنديل في عنق سليمان، وقتل من ساعته. ودخل شبل بن عبد الله على عبد الله بن علي فأنشده محرضًا على بني أمية وعنده منهم ثمانون رجلًا:
أصبح الملك ثابت الأساس ... بالبهاليل من بني العباس
منها:
لا تقيلن عبد شمسٍ عثارا ... واقطعن كل رقلة وأواسي
ذلها أظهر التودد منها ... وبها منكم كحز المواسي
ولقد غاظني وغاظ سوائي ... قربها من نمارق وكراسي
أنزلوها بحيث أنزلها الل ... هـ بدار الهوان والإتعاس
واذكروا مصرع الحسين وزيد ... وقتيلا بجانب المهراس
والقتيل الذي بحران أمسى ... ثاويًا بين غربة وتناس
نعم شبل الهراش مولاك شبل ... لو نجا من حبائل الإفلاس
فلما سمع؛ تنكر؛ وأمر بهم فقتلوا، وألقى عليهم البسط، وجلس للغداء، وإن أحدهم ليسمع أنينه لم يمت بعد. وقد قيل: إن المخاطب بهذه الأبيات أبو العباس السفاح، ويروى أنه قال لشبل: لولا أنك خلطت كلامك بالمسألة لأغنمتك جميع أموالهم، ولعقدت لك على جميع موالي بني هاشم. وقال العبدي الشاعر: دخلت على عبد الله بن علي السفاح، وعنده من بني أمية اثنان وثمانون رجلًا، والغمر بن يزيد بن عبد الملك جالس معه على مصلاه، فاستنشدني، فأنشدته قصيدتي الرائية:
وقف المتيم في رسوم ديار
وهو مطرق حتى انتهيت إلى قولي:
أما الدعاة إلى الجنان فهاشم ... وبنو أمية من دعاة النار
أأمي مالك من قرار فالحقي ... بالجن صاغرة بأرض وبار
ولئن رحلت لترحلن ذميمة ... وكذا المقام بذلة وصغار
قال: فرفع الغمر رأسه إلي وقال: يا بن الفاعلة، ما دعاك إلى هذا؟ فضرب عبد الله بقلنسوته الأرض، وكانت العلامة بينه وبين أهل خراسان، فوضعوا عليهم العمد حتى ماتوا، وأمر بالغمر فقتل صبرًا.
وكان ابن حزم أميرًا على المدينة، فتحامل على الأحوص الشاعر تحاملًا شديدًا، فشخص إلى الوليد بن عبد الملك، فأنشده قصيدة رائية أيضًا يمتدحه فيها، فلما بلغ منها إلى قوله الذي يشتكي ابن حزم ويظلمه:
لا ترثين لحزمي ظفرت به ... يومًا ولو ألقي الحزمي في النار
الناخسين بمروان بذي خشب ... والداخلين على عثمان في الدار
فقال له الوليد: صدقت، والله غفلنا عن حزم وآل حزم. ثم كتب عهد عثمان بن حيان المري على المدينة، وعزل ابن حزم، وأمر باستصفاء أمواله وأموال آهل، وإسقاط جميعهم من الديوان.
وهذه الحكايات والأخبار فلها أشباه كثيرة وأنظار لو توضع فيها لطال بابها ولم يضمن مع ذلك استغراقها واستيعابها.
وبعد فكل ملك إذا أخذ أهبة مملكته تكبر، وإذا انتصب في مقر عظمته طغى وتجبر، ومولانا - خلد الله ملكه - إذا علا دسته ورقي سريره رأى الناس أفضل الملوك سيرة، وأحسنهم مع الله سريرة، لا يعجل بالعقاب، ولا يؤجل الثواب، ولا يتجاوز في حكمه الصواب، ولا يمنع أحدًا يستقي الحجة ويستوفي الخطاب هذا على انبساط قدرته، واعتلاء شأنه وانتشار هيبته، واتساع سلطانه، وإنه إذا استقر في منصبه، وحف الأكابر والعظماء به، وحضر رسل الملوك وسفراؤهم لديه، ووقف الأماثل سماطين بين يديه، وأذن لمن ببابه من أعيان الوفود، وغصت الأماكن الفسيحة بالعساكر والجنود، وتعرض الخدم لامتثال المراسم، واشتكت إليه الأرض من وقع المياسم؛ رأيت شرف الدنيا وعز الأبد، وسلطانًا عظيمًا قوي المدد، وملكًا كثيرًا لا ينبغي لأحد، ونظرت الأنوار قد سطعت وأشرقت، والأبصار قد خضعت وأطرقت، وشاهدت مقامًا مهيبًان ومنظرًا هائلًا، وألفيت كل لسان معقولًا بالمخافة وقد كان جائلًا قائلًا، وتمثلت ضرورة بقول الله تعالى في محكم الكتاب: (هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب) فالله تعالى يجعل مملكته مخلدة، وسعوده أبدًا مجددة، وقلوب الأداني والأقاصي جنودًا في طاعته مجندة بفضله وقدرته وجوده ومشيئته.
وإذ قد قام الدليل على شرف العفو وفضله، وتعين بالواجب تعظيم من كان من أهله؛ فلا بدّ في هذه الرسالة من ذكر شيء مما جاء فيه، وإيراد طرف في الاستعطاف والاسترحام؛ إذ كانا من أسباب ودواعيه.
فصل مما جاء في العفو
قال الله عز من قائل: (فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين) .
1 / 4