كتاب الأفضليات
رسالة العفو
بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ أبو القاسم علي بن منجب بن سليمان الكاتب: هذه الرسائل التي صنفتها منذ الأيام الأفضلية، فأولها رسالة العفو التي ترجمتها استنزال ... مما خدم به المجلس العالي الملكي الأفضلي مملوكه فلان، الحمد لله راحم خلقه وإن عظمت ذنوبهم، وكاشف ضرهم فيما يطرقهم وينوبهم والمتفضل عليهم بنعمة وهم غافلون، والقائل في محكم كتابه: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون) وصلى الله على سيدنا محمد نبيه الذي شرفه بالقرآن الكريم، ووصفه بالخلق العظيم، وفضله على كافة الأنبياء الذين بعثهم وأرسلهم، وأمره في أصحابه بقوله - عز من قائل -: (فاعف عنهم واستغفر لهم) وعلى أخيه وابن عمه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي أجاب إلى الإيمان مسارعًا مبادرًا، وصفح عن عدوه وكان عليه قادرًا، وأعربت شيمه عن الشرف الصريح، ومنعه كرمه أن يجهز على جريح، وعلى آلهما الطاهرين الذين طهر بهم من الأدناس صلاة دائمة الاتصال، مستمرة في الغدو والآصال، وسلم وكرم ومجد وعظم. أجمعت البرية على اختلاف ألسنتها وألوانها، وتغاير عصورها وأزمانها، وتباين عقولها وآرائها، وتفاوت أغراضها وأهوائها أن أفضل ما اكتسبه المرء في وجوده، وأشرف ما منحه من كرم الله تعالى وجوده ما يوفق له من إصلاح أخلاق النفس وتهذيبها، وتبليغها غاية تجود الخواطر فيها وتهذي بها، وإن من أدرك ذلك فقد نال الرتبة العلية، وحاز السعادة الحقيقية؛ لأنه حصل على فضيلة الذات، ووصل بها إلى أعظم اللذات، وهذه قضية لا تنتقض، ومقدمة لا يخالف أحد فيها ولا يعترض. فأما النتيجة عنها فهي فعل الحسن والمثابرة عليه، والتنزه عن القبيح وإن دعت المكافأة إليه وأفضل الحسن ما بقي ذكر المرء بعده، وجعله بالوصف قريبًا وإن أطالت الأيام عهده، إذ كان بقاء ذكر الإنسان عمرًا يستجده، وكنزًا يذخره لوارثه ويعده. ومن أمثالهم: (البشر أحد الجودين، والذكر أحد الخلودين، والبيان أحد السحرين، والثناء أحمد العمرين) وما أحسن قول أبي الطيب:
كفل الثناء له برد حياته ... لما انطوى فكأنه منشور
وقد سبقه إلى هذا المعنى غيره. قال التيمي:
ردت صنائعه على حياته ... فكأنه في طيه منشور
وقال آخر:
طوته المنايا والثناء كفيله ... برد حياة ليس يخلقها الدهر
وبعد أبي الطيب قال مهيار:
أفنى الثراء على الثناء لعلمه ... أن الفناء مع الثناء خلود
1 / 1
وإذا تؤملت المناقب التي تخلد حسن الذكر، وتمثلت صورًا تستشف في مرآة الفكر؛ وجد أحسنها منظرًا، وأشفها جوهرًا ما كانت النعمة فيه تتعدى، والآمال تتعرض نحوه وتتصدى، فلذلك عظم رب المنائح والصلات، وفضل المتنفل بالصدقة على المتنفل بالصلاة؛ وذلك (أن) المصلي لا تتجاوزه مثوبة ما صنع، والمتصدق فقد نفع غيره وهو لا محالة قد انتفع. وهذا أمر قائم الدليل، واضح برهان التفضيل. ثم إن هذه النعمة المشتركة بين منعم عليه بها، ومنعم يثاب بسببها، تنقسم في قسمين أيضًا: أحدهما البر المعهود والصدقة المعروفة، والآخر العفو عن الجرائم التي تأبى احتمالها الطباع العزوفة. وتفضيل من يعفو على من يتصدق فرض واجب، وترجيحه عليه أمر متعين وحق لازب؛ لأن المتصدق لا يتجاوز حالًا مختلة يسد خصاصتها وفاقتها، والعافي عن الذنوب فقد يحقن دماء يوجب العدل سفكها وإراقتها. فالأول يولي جميلًا ويحسن صنيعًا، والثاني يحيي نفيسًا (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا) فبينهما هذا التفاوت الذي لا يخفى قدره، والتباين الذي لا يستتر على ذي تصور أمره، فقد استقر بهذه السياقة أن العفو أكرم الخصال، وأعلى منازل الكمال، وأحمد الأفعال عاقبة في العاجلة والمآل. ومن لطائف الله تعالى بأهل هذا العصر، ومواهبه التي تتعدى مدى الإحصاء والحصر؛ أن جعل هذه الفضيلة التي قام بها البرهان على أنها الأولى في العدد، وارتفع الخلاف في كونها الأولى بتعظيم كل أحد، أغلب الخلال على خلائق مولانا الملك السيّد الأجل الأفضل أمير الجيوش، سيف الإسلام، ناصر الإمام، كافل قضاة المسلمين، وهادي دعاة المؤمنين، عضد الله ملكه بالتخليد، وشد ببقائه أزر الإيمان والتوحيد، الذي ملأ جماله العيون، وصدق إحسانه الظنون، ووضحت الدلائل على أن مثله لم يكن قط ولن يكون:
هيهات قامت معجزات العلا ... فيه وماتت آية الانفراد
جل عن الناس فما عابه ... شيء سوى تشبيهه بالعباد
ثم إنه بسط الله اقتداره، وأعز أولياءه وأنصاره لم يعرض من الصفح بما ألف، ولم يقنع من العفو بما عرف مما يجود منه على الجاني ببقاء روحه، ويحول به بين المجرم وبين سكنى ضريحه، حتى أبان من التذاذه بالغفران، وإحسانه إلى من قابل نعمته بالكفران ما جعل المذنبين يتقربون إليه بالجرائر، والمسيئين يتوسلون عنده بالكبائر، فحمدوا خطأهم وما عهدنا الخطأ مع غير كرمه يحمد، وجحدوا براءتهم وما عرفنا البراءة لولا فيض فضله تنكر وتجحد، وصارت إساءتهم من مواتهم إليه وشوافعهم، وجنايتهم من حرماتهم لديه وذرائعهم. فما أصدق ما قال أحد شعراء مجلسه العالي شيد الله مبانيه، وبلغ كلًا من مماليكه آماله وأمانيه:
وسعت مراحمك الجناة بأسرهم ... وأقلت كلًا منهم عثراته
وجزيت مرتكب الكبيرة منهم ال ... حسنى فأصبح شاكرًا زلاته
وهذا المعنى وإن كان مجيدو الشعراء قد ألموا به، وأبدعوا فيه، وسلكوا منه مذهبا لا يسلكه غيرهم ولا يقتفيه، كقول مهيار - وهو من المستحسن المختار -:
وإذا الإباء المر قال لك: انتقم ... قالت خلائقك الكرام: بل احلم
شرع من العفو انفردت بدينه ... وفضيلة لسواك لم تتقدم
حتى لقد ود البريء بأنه ... أدلى إليك بفضل جاه المجرم
1 / 2
فإنه في أوصاف مولانا - أدام الله ملكه - صدق وحق، وفي مدائح غيره من الملوك زور ومذق، ولسنا نطلق هذا الحكم خاليًا من شاهد يصححه، ولا عاطلًا من قياس يبينه ويوضحه. فنقول: إن كل خلة شريفة، وكل فضيلة لملك أو خليقة، مما يتداول بالروايات، ويتناقل بالأخبار والحكايات، مثل ما اشتهر من عدل كسرى أنوشروان، وانتشر من ورع عمر بن عبد العزيز بن مروان، ومثل ما ذكر من حزامة الجعدي، وشكر من سماحة المهدي، ووصف من صبر المعتمد، وعرف من سياسة المعتضد، إلى غير ذلك من الفضائل التي شهدت لهم بحسن الأثر، وتضمنها ما ثبت من أخبارهم في التواريخ والسير، ولم نعلم أحدًا اشتهر بالعفو اشتهار المأمون حتى كأن هذه المنقبة عليه موقوفة، وكأن الأمة مدفوعة عنها مصروفة. وأبهر ما حوته من آياته، وأكثر ما تضمنته من معجزاته، عفوه عن إبراهيم بن المهدي عمه، وتكرمه في تجرع غيظه منه وكظمه، وقد شاع ذلك عنه وذاع، وملأ ذكره ووصفه الأسماع، وإنما هو شخص مفرد، ورجل واحد، وصنو لأبيه. وكل عم أب ووالد. وقد كان استشار فيه من ثبت عنده عقله وفهمه، فقال: يا أمير المؤمنين، أكره أن يقال يومًا: أخوه، ويومًا: عمه. وهذا كلام يرفع القلب له حجابه، ويعلم سامعه صحته وصوابه. فلم انتقم منه لظاهر بالقساوة والعقوق، ولو شفى غيظه لجاهر بالإضاعة للحقوق، وأيضًا فإنه وصل إلى بغداد عقيب استخفاء إبراهيم واستتاره، واستقر بها بعد خمول ذكره وخمود ناره، فما ظفر به حتى انكسرت مغائظه، وتناقصت حقوده وحفائظه، وتمكن له من السلطان ما ترفع معه أن يأتي الانتقام، وحصل له من الاقتدار ما رغبه في ثناء إذا تقضت الأيام ثبت وأقام، ومع ذلك فما كان يقين إبراهيم بعفو المأمون حسنًا، ولا اعتقاده في صفحة قويًا من قلبه ولا متمكنًا، ومن دلائل ذلك أنه كان عند وثوبه اقترض مالًا كثيرًا من التجار، وكان فيه لعبد الملك الزيات والد محمد عشرة آلاف دينار، فلما لم يتم أمره لواهم أموالهم، فعمل محمد بن عبد الملك الزيات قصيدة يخاطب بها المأمون، وقال فيها عند ذكر إبراهيم بن المهدي:
ووالله ما من توبة نزعت به ... إليك ولا حب نواه ولا ود
فلا تتركن للناس موضع شبهة ... فإنك مجزي بحسب الذي تسدي
فكم غلط للناس في نصب مثله ... بمن ليس للمنصور بابن ولا المهدي
فكيف بمن قد بايع الناس فالتقت ... ببيعته الركبان غورا إلى نجد
ومن صك تسليم الخلافة سمعه ... ينادى به بين السماطين من بعد
وأي امرئ سمى بها قط نفسه ... ففارقها حتى يغيب في اللحد
فإن قلت قد رام الخلافة غيره ... فلم يؤت فيما كان حاول من جد
فلم أجزه ... إذ خيب الله سعيه
على خطأ قد كان منه ولا عمد
ولم أرض بعد العفو حتى رفدته ... وللعم أولى بالتغمد والرفد
فليس سواء خارجي رمى به ... إليك سفاه الرأي والرأي قد يردي
وآخر في بيت الخلافة تلتقي ... به وبك الآباء في ذروة المجد
وعرضها على إبراهيم، ولم يكن محمد حينئذ من أهل النباهة، ولا من أرباب الوجاهة، فسأله إبراهيم كتمانها، واستحلفه على ذلك، وأدى مال أبيه دون مال جميع التجار. فلو كان واثقًا بعفو المأمون لما التفت إلى هذا الإغراء، ولا عرج على هذا الافتراء، وكيف يثق به وهو لم يخل في أيامه من الترويع، ولا سلم من مخاوف التعنيف والتقريع؟! لا جرم أنه ما أمن حتى قضى المأمون نحبه، ولا اطمأن إلى أن مضى ورضوه ... حتى قال أحدهم في بعض ما خدم به من القصائد:
فإن تعف عنهم فانفهم عن ديارهم ... وإن تنتقم فاضرب مناط القلائد
فخالف - خلد الله ملكه - من أتى بهذا القول مشيرًا، وشملهم من العفو بما بدل ناعيهم بشيرًا. على أنا ما علمنا ملكًا حرض على محرم فعف، ولا خليفة حمل على مكروه مسيء فتأخر عنه ولا كف. هذا سديف بن ميمون دخل على أبي العباس السفاح وعنده سليمان بن هشام فأنشده:
لا يغرنك ما ترى من أناس ... إن بين الضلوع داء دويا
فضع السيف وارفع السوط حتى ... لا ترى فوقها ظهرها (أمويا)
1 / 3
فقال سليمان قتلتني يا شيخ، قتلك الله، ونهض أبو العباس فوضع المنديل في عنق سليمان، وقتل من ساعته. ودخل شبل بن عبد الله على عبد الله بن علي فأنشده محرضًا على بني أمية وعنده منهم ثمانون رجلًا:
أصبح الملك ثابت الأساس ... بالبهاليل من بني العباس
منها:
لا تقيلن عبد شمسٍ عثارا ... واقطعن كل رقلة وأواسي
ذلها أظهر التودد منها ... وبها منكم كحز المواسي
ولقد غاظني وغاظ سوائي ... قربها من نمارق وكراسي
أنزلوها بحيث أنزلها الل ... هـ بدار الهوان والإتعاس
واذكروا مصرع الحسين وزيد ... وقتيلا بجانب المهراس
والقتيل الذي بحران أمسى ... ثاويًا بين غربة وتناس
نعم شبل الهراش مولاك شبل ... لو نجا من حبائل الإفلاس
فلما سمع؛ تنكر؛ وأمر بهم فقتلوا، وألقى عليهم البسط، وجلس للغداء، وإن أحدهم ليسمع أنينه لم يمت بعد. وقد قيل: إن المخاطب بهذه الأبيات أبو العباس السفاح، ويروى أنه قال لشبل: لولا أنك خلطت كلامك بالمسألة لأغنمتك جميع أموالهم، ولعقدت لك على جميع موالي بني هاشم. وقال العبدي الشاعر: دخلت على عبد الله بن علي السفاح، وعنده من بني أمية اثنان وثمانون رجلًا، والغمر بن يزيد بن عبد الملك جالس معه على مصلاه، فاستنشدني، فأنشدته قصيدتي الرائية:
وقف المتيم في رسوم ديار
وهو مطرق حتى انتهيت إلى قولي:
أما الدعاة إلى الجنان فهاشم ... وبنو أمية من دعاة النار
أأمي مالك من قرار فالحقي ... بالجن صاغرة بأرض وبار
ولئن رحلت لترحلن ذميمة ... وكذا المقام بذلة وصغار
قال: فرفع الغمر رأسه إلي وقال: يا بن الفاعلة، ما دعاك إلى هذا؟ فضرب عبد الله بقلنسوته الأرض، وكانت العلامة بينه وبين أهل خراسان، فوضعوا عليهم العمد حتى ماتوا، وأمر بالغمر فقتل صبرًا.
وكان ابن حزم أميرًا على المدينة، فتحامل على الأحوص الشاعر تحاملًا شديدًا، فشخص إلى الوليد بن عبد الملك، فأنشده قصيدة رائية أيضًا يمتدحه فيها، فلما بلغ منها إلى قوله الذي يشتكي ابن حزم ويظلمه:
لا ترثين لحزمي ظفرت به ... يومًا ولو ألقي الحزمي في النار
الناخسين بمروان بذي خشب ... والداخلين على عثمان في الدار
فقال له الوليد: صدقت، والله غفلنا عن حزم وآل حزم. ثم كتب عهد عثمان بن حيان المري على المدينة، وعزل ابن حزم، وأمر باستصفاء أمواله وأموال آهل، وإسقاط جميعهم من الديوان.
وهذه الحكايات والأخبار فلها أشباه كثيرة وأنظار لو توضع فيها لطال بابها ولم يضمن مع ذلك استغراقها واستيعابها.
وبعد فكل ملك إذا أخذ أهبة مملكته تكبر، وإذا انتصب في مقر عظمته طغى وتجبر، ومولانا - خلد الله ملكه - إذا علا دسته ورقي سريره رأى الناس أفضل الملوك سيرة، وأحسنهم مع الله سريرة، لا يعجل بالعقاب، ولا يؤجل الثواب، ولا يتجاوز في حكمه الصواب، ولا يمنع أحدًا يستقي الحجة ويستوفي الخطاب هذا على انبساط قدرته، واعتلاء شأنه وانتشار هيبته، واتساع سلطانه، وإنه إذا استقر في منصبه، وحف الأكابر والعظماء به، وحضر رسل الملوك وسفراؤهم لديه، ووقف الأماثل سماطين بين يديه، وأذن لمن ببابه من أعيان الوفود، وغصت الأماكن الفسيحة بالعساكر والجنود، وتعرض الخدم لامتثال المراسم، واشتكت إليه الأرض من وقع المياسم؛ رأيت شرف الدنيا وعز الأبد، وسلطانًا عظيمًا قوي المدد، وملكًا كثيرًا لا ينبغي لأحد، ونظرت الأنوار قد سطعت وأشرقت، والأبصار قد خضعت وأطرقت، وشاهدت مقامًا مهيبًان ومنظرًا هائلًا، وألفيت كل لسان معقولًا بالمخافة وقد كان جائلًا قائلًا، وتمثلت ضرورة بقول الله تعالى في محكم الكتاب: (هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب) فالله تعالى يجعل مملكته مخلدة، وسعوده أبدًا مجددة، وقلوب الأداني والأقاصي جنودًا في طاعته مجندة بفضله وقدرته وجوده ومشيئته.
وإذ قد قام الدليل على شرف العفو وفضله، وتعين بالواجب تعظيم من كان من أهله؛ فلا بدّ في هذه الرسالة من ذكر شيء مما جاء فيه، وإيراد طرف في الاستعطاف والاسترحام؛ إذ كانا من أسباب ودواعيه.
فصل مما جاء في العفو
قال الله عز من قائل: (فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين) .
1 / 4
وقال: (وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم وقال: (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) وجاء في الحديث عن النبي ﷺ أنه قال: (إذا كان يوم القيامة ينادي مناد ألا فليقم من كان أجره على الله، فلا يقوم إلا من عفا) وعنه ﷺ أنه قال: (لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم) وما أحسن قول بعض الزهاد: إن الله ﷿ أمر بالعفو، وهو لا يكون عن البريء، وإنما يكون عن المذنب المسيء. ألم تسمع إلى قول الله تعالى: (وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم) فو الله ما قال: على إحسانهم، ولا على عدلهم.
الحسن بن هانئ وهو آخر شعر قاله:
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة ... فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن ... فمن الذي يرجو ويدعو المجرم؟
أدعوك رب كما أمرت تضرعًا ... فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم؟
ما لي إليك وسيلة إلا الرجا ... وعظيم عفوك ثم أني مسلم
حكي عن بعض ملوك العجم أنه أتى بأسير عظيم الجرم، فقال له: لو كان هواي في العفو عنك لخالفته إلى قتلك ولكن لما كان هواي في قتلك خالفته إلى العفو عنك. وعفا عنه. فمن بركة العفو أنه صرف هذا الملك عن موافقة هواه، وعدل به إلى متابعة هداه وتقواه.
ذكر أن أحد خدم الملوك قال له يومًا: إني لأتعمد الخطأ في خدمتك، وليس ذاك جهلًا بشرف طاعتك، (فقال: وما يحملك على ذاك؟ فقال رأيتك شديد السرور) إذا عفوت، فقصدت ما يؤدي إلى مسرتك. ومن ها هنا أخذ ابن القمي قوله:
وعبدك إن يأت الذنوب فإنما ... تعمد أن يهفو لأن تتغمدا
وكان أبو محمد الخازن قد بعد عن الصاحب وفارق خدمته، ثم عاد إليه، فتلقاه بالترحيب، وجعل إقالته العثرة سالمة من اللوم والتثريب، فكتب إلى أبي بكر الخوارزمي كتابًا منه: ولقد كنت أحسب العفو عني حلمًا ولا أقدر ما جنيت يعقب حلما، فكأني ما خطوت إلا في التماس قربة، ولا أخطأت إلا لتأثيل إيثار ومحبة.
ولما وصل الفتكين الشرابي غلام معز الدولة أبي الحسين أحمد بن بويه إلى الشام في خلافة العزيز بالله ﵇، وسيرت العساكر إليه تقرر الصلح بينه وبني القائد جوهر على أن ينادي بشعار الدولة ثم نقض ذلك، ولم يزل يقرره ثم ينقضه، حتى خرج العزيز بالله ﵇ إليه، وتولى قتاله بنفسه بعد أن أبى ما أعطاه من الأمان، وبذل له من الإحسان. فلما ظفر به ضرب له فازة، وأمر بأن تحمل إليه أنفس الفرش والألات، ورد إليه كل ما عرفه من المنهوب له، وكان جماعة قد أشاروا بأن يشهر على الفيل، وبأن يجعل في قفص، فأبت خلائقه إلا عفوا، وموارد كرمه إلا صفوا. ويقال إنه أنفق في توبته إلى أن حصل في قبضته ألفي ألف دينار.
وحكى بعض البغداديين قال: كنت ببغداد في سنة ثمان وستين وثلاث مئة حين ورد كتاب أحد التجار بما فعله العزيز بالفتكين، فوقعت ضجة، واجتمع خلق لا تحصى، ورفعوا أصواتهم بالدعاء له، وخرجوا إلى مسجد براثا يدعون، وأظهر الشيعة ما في نفوسهم من الولاء فما أمكن الملك فناخسرو إنكار ذلك لكثرة الناس. قال أبو الفتح بن المقدر المتكلم: استدعى الصاحب أبو القاسم في بعض الأيام شراب السكر، فأحضر قدح منه، فلما أراد أن يشربه قال له أحد خواصه: لا تشربه، فإنه مسموم. وكان الغلام الذي ناوله إياه واقفًا، فقال للرجل المحذر له منه: وما الشاهد على صحة قولك؟ قال: أن تجربه على من أعطاكه، فقال: لا أستحسن ذاك ولا أستحله. قال: فعلى دجاجة. قال: إن التمثيل بالحيوان لا يجوز. ورد القدح، وأمر بأن يقلب ما فيه، وقال للغلام: انصرف عني، ولا تدخل داري. وأمر بإقرار جاريه وجرايته عليه، وقال: لا يدفع اليقين بالشك، ولا تحسن العقوبة بقطع الرزق.
ابن حيوس:
لعمري لقد بذَّ الملوك جميعهم ... بأربعة في غيره لن تألفا
بأمن لم يخشى، وقهر لمن طغى ... وسبق لمن جارى، وعفو لمن هفا
ملي بأن يأتي الجميل خليقة ... إذا ما أتاه المحسنون تكلفا
إبراهيم بن المهدي:
لغفوت عما لم يكن عن مثله ... عفو ولم يشفع إليك بشافع
إلا العلو عن العقوبة بعدما ... ظفرت يداك بمستكين خاضع
ورحمت أطفالًا كأفراخ القطا ... وحنين وآلهة كقوس النازع
أبو سعيد الرستمي:
1 / 5
يا بن الذين إذا بنوا شادوا وإن ... أسدوا يدا عادوا، وإن يعدوا يفوا
إن حاربوا لم يحجموا، أو قارنوا ... لم يندموا، أو عاقبوا لم يشتفوا
ومتى استجيروا أسعفوا، ومتى استني ... لوا أسرفوا، ومتى استفيدوا أضعفوا
مهيار:
وكم آبقٍ من رق ملكك غامطٍ ... لنعماك لم ينهض بما قد تحملا
عفوت مرارًا عن تمادي ذنوبه ... وأبطرته بالعفو حتى توغلا
فصل في الشفاعة والاستعطاف
لما قتل الحارث بن أبي شمر الغساني المنذر بن ماء السماء - وهو المنذر الأكبر، وماء السماء أمه - أسر جماعة من أصحابه، وكان فيمن أسر شأس بن عبدة في تسعين رجلًا من بني تميم، وبلغ ذلك أخاه علقمة بن عبدة الشاعر فقصد الحارث ممتدحًا بقصيدته المشهورة التي أولها:
طحا بك قلب في الحسان طروف ... بعيد الشباب عصر حان مشيب
فأنشده إياها حتى بلغ إلى قوله:
إلى الحارث الوهاب أعملت ناقتي ... لكلكلها والقصريين وجيب
إليك ... أبيت اللعن
كان وجيفها
لمشتبهات هو لهن مهيب
هداني إليك الفرقدان ولا حب ... له فوق أعلام المتان علوب
فلا تحرمني نائلًا عن جناية ... فإني امرؤ وسط القباب غريب
وفي كل حي قد خبطت بنعمة ... وحق لشأس من نداك ذنوب
فقال الحارث: نعم، وأذنبة، وأطلق له شأسا أخاه وجماعة أسرى بني تميم، ومن سأل فيه من غيرهم.
ومن الشفاعات التي تضاعف الانتفاع بها لتصحيف اتفق فيها، وقلما ينتفع بالتصحيف، ما حكاه أبو عبد الله حمزة بن الحسين الأصبهاني قال: ورد على الفرزدق البصرة مولى له من البادية، فأخبره أنه خلف بسفوان امرأة قد عاذت بقبر أبيه غالب، فرد الفرزدق مولاه من فوره إلى سفوان ...
علي بن الجهم:
لئن جل ذنب ولم أعتمد: ... لأنت أجل وأعلى يدا
أقلني أقالك من لم يزل ... يقيك ويصرف عنك الردى
سعيد بن حميد:
اغتفر زلتي لتحرز فضل ال ... عفو عني ولا يفوتك أجري
لا تكلني إلى التوسل بالعذ ... ر لعلي أن لا أقوم بعذري
كاتب بكر:
ولو أن فرعون لما طغى ... وقال على الله إفكا وزورا
أناب إلى الله مستغفرا ... لما وجد الله إلا غفورا
الشهزروري:
يستوجب العفو الفتى إذا اعترف ... بما جناه وانتهى عما اقترف
بقوله: (قل للذين كفروا ... إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف)
مهيار:
أعيذك بالمجد المحسد أن يرى ... جنابك عني ضيقًا وهو واسع
وأعجب ما حدثته حفظك العلا ... وعبدك في أيام ملكك ضائع
أبو إسحق الصابي:
أمولاي مولاك الذي أنت ربه ... إليك على جور النوائب يستعدي
وهذي يدي مدت إليك بقصة ... أعيذك فيها من إباء ومن رد
1 / 6
وللملوك مقرر هذه الرسالة خدمة كان رفعها إلى المجلس العالي المالكي - خلد الله سلطانه وشيد أركانه - وهي: (وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر) لو كان للمراحم عن الشيم الشريفة الأفضلية معدل، أو للعواطف عنها مرجع أو موئل؛ لما منع ذلك ذوي العقول من قصد الجناب الكريم المالكي الأفضلي وقوفًا بآمالهم في رحيب ساحاته، وتخييمًا برجائهم في مصون عرصاته؛ إذ كان كل مملوك فإلى مالكه معاذه ومفزعه، ولسلطان عصره ملاذه وإليه مرجعه، فكيف وأنواع الرأفة إلى مولانا - خلد الله ملكه - منسوبة، وأقسام العواطف من سمائه مستنزلة مطلوبة، والجرائم عنده - وإن عظمت - مسموح بها مرهوبة على أن سطوته بالإجماع مخوفة، وهيبته مرهوبة. لا جرم أن الله تعالى خصه من الرحمة بما هو معدود من صفاته، وأفرده من الخصائص ببدائع الفضل ومعجزاته. والله أحكم بتدبير خلقه، وأعلم حيث يجعل رسالاته. والمملوك يقبل الأرض بالمقام الكريم، وينهي ما هو عليه من ضر قد قصر عنه جلده، وضاق فيه بروحه جسده، وأصار راحمه من كان يحسده، وقد تهكته العطلة والبطالة، أطال الزمان دفاعه عن الحظ ومطاله، وله حرمة من نشأ في ظل دولته القاهرة، وفاضت عليه سحائب مكارمه الغامرة وربي في دواوين مملكته السعيدة، وتميز بالمسير تحت ركابه في الأسفار القريبة والبعيدة، وما نعرف ذنبًا أتاه كفر به نعمته وإحسانه، ولا أنه خرج في الإخلاص له والعبودية عما هو عليه الله سبحانه، لكنه يعلم أن أحدًا من المماليك لا يكون في أمر يكرهه ويسوؤه إلا لذنب متقدم أحصاه الله ونسوه، فلذلك يعترف بين يدي مولاه ومالكه بمثل ما اعترف به أول مخلوق إلى بارئه وخالقه، فيقول: (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) . ومعلوم أن كل كبيرة تغرق في بحار رحمته، وكل عظيمة تضيع في واسع مغفرته، فبموضع الله من قلبه إلا رحم منه ذليلًا ضعيفا بين الميت والحي، وعبدا مملوكا لا يقدر على شيء، ومسكينا يقول في استرحامه ومناجاته مثل ما قاله الأعرابي في استغفاره ومناداته: اللهم اغفر لي؛ فإنك تجد من تحاربه غير، ولا أجد من يغفر لي غيرك. وقد تحرم بصدق الرجاء في نجح طلبه، واستشفع بمن لا يخيب من استشفع به:
شفيعي إليك الله لا شيء غيره ... وليس إلى در الشفيع سبيل
وقد ختم المملوك رسالته بهذه الخدمة تجديدًا لشكوى حاله، وطلبًا للرحمة الشاملة لأمثاله، فقد والله اشتد ضره وزاد، وبلغ به الدثور أو كاد:
ومن كان في أيام ملكك خاملا ... ففي أي ملك يستريش ويستعلي؟
بقيت بلا بعد يرجى انتظاره ... كما أنت إن عد الملوك بلا قبل
آمين آمين آمين (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) وصلى الله على سيد المرسلين محمد نبيه وعلى آله الطاهرين، وسلم تسليما. الله حسب المملوك ونعم الوكيل.
رسالة رد المظالم
رسالة سماها رد المظالم
الحمد لله العادل في أحكامه، الشامل بإنعامه، الجاعل مملكة أرضه فيمن يستكمله ويرتضيه، والمستخلف في تدبير خلقه من توجبه الحكمة وتقتضيه، والكافل بالخيرة لعباده وإن كان منها ما يباين إرادتهم، والفاعل فيها ما يشاء من تفاوت رتبهم وتباعد درجاتهم، والقائل في كتابه الكريم حجة للمفوضين، وردًا على المعترضين (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريًا ورحمة ربك خير مما يجمعون) .
1 / 7
لا إله إلا هو، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه يرجعون. وصلى الله على سيدنا محمد رسوله الذي شرفه واجتباه، وأظهره على من خالف دينه وأباه، وفضله على من سبقه من الأنبياء وتقدمه، ومكنه ممن عصاه وأباح بحد سيفه دمه، وعلى آله الأئمة الطاهرين الذين أوجب لهم على عباده إيثارًا وحبًا، وقال -عز من قائل -: (قل لا أسألكم عليه أجرًا إلا المودة في القربى) وسلم عليهم أجمعين سلاما متصل الدوام، باقيا ببقاء الليالي والأيام. قد اتفق أولو الدراية والعقل، وأجمع ذوو الرواية والنقل، على أن أحوال الأزمنة معلومة من سير ملوكها، وأن هذا المعتقد طريقة لا ضلال في سلوكها، وذلك في تفاضل الأيام هو السبب والعلة، والحجة التي قامت على صحتها البراهين والأدلة. وهذا أصل قوي يعبد طريق الإفصاح عما قصدناه، ومعنى جلي يمهد سبيل الإيضاح لما أردناه، فنقول: قد ثبت بالعيان والسماع، وعرف بالوفاق والإجماع شرف هذا الزمن الذي عمت فيه السعة، وعظمت به المنفعة، وأمن فيه ما يخشى ويتوقى، وأخذت مطالب أهليه تسمو وتترقى، ولم يبق إلا من غدت أمانيه متحكمة على زمانه، وآماله متأكدة الثقة بكفالة الحز وضمانه. وهذا بحسن سيرة مولانا الملك السيّد الأجل الأفضل، أمير الجيوش سيف الإسلام، ناصر الإمام، كافل قضاة المسلمين، وهادي دعاة المؤمنين، الذي خضعت لدولته جبابرة الملوك، وتنزه اليقين بذلك عن اعتراض الشكوك، وارتفعت صفاته عن استطاعة مخلوق وقدرته، وثبتت معجزاته فقامت بعذر المقصر في تقريظها وحجته، فإذا طالعت الأبصار نور بهائه ارتدت عنه وكلت، وإذا سلكت القلوب نهج علائه حارث فيه وضلت؛ لأن مناقبه أعلى من أن يسمو إليها المدح والصفة، ومفاخره أعظم من أن يحيط بها الإدراك والمعرفة.
هذي مناقب قد أغناه أيسرها ... عن الذي شرعت آباؤه الأول
قد جاوزت مطلع الجوزاء وارتفعت ... بحيث ينحط عنها الحوت والحمل
ومن أوضح براهينه لمن تمسك بالحق وتعلق بأسبابه، وأقوى الدلائل على سر الله الكريم وعنايته تعالى به؛ أن المجتهد في وصفه لا يخشى من يناقضه، ولا يخاف من يعارضه، ولا يتقي من يحمله على المبالغة والغلو، ولا يعلم أحدًا ينسبه إلى الظلم والعلو، بل لا يعدم من إذا سمعه استقصر وندى، وإذا استنزر ما أتى به نكص ولم يجد وزرًا، هذا إن اعتقد أنه وفى الامتداح حقه، وعفى مذاهب الانتقاد وطرقه، وتيقن تأديته الفريضة مكملة، وقضاءه إياها مرضية متقبلة. فأما إذا سلك المحجة القويمة، وتنكب السبيل المكروهة الذميمة، واستعذب قول الحق فأقر بعجزه، واعتمد على تصريحه دون إشارته ورمزه؛ فقد نافى ذوي التهمة والظن، وأجر ألسنة أولي العيب والطعن. وهذه حالنا فيما نورده من أوصافه، وقضيتنا في شكر الله سبحانه على تمليكه علينا واستخلافه. ونحن الآن نذكر المراد بهذا الجزء الذي جعلنا الخدمة به قربانا، ورجونا بما نحونا فيه سعادة أولانا وأخرانا.
فصل
اعلم أن النظر يقتاد كل عاقل مميز، ويضطر كل منتسب إلى العلم متحيز، إلى الإقرار بأنه أشرف الملوك وأكملهم، وأعمهم بضروب الرحمة وأشملهم. وبرهان ذلك أنه إذا تأمل الموجودات متيقظ، ورتبها في مراتبها ... زمن الأهواء متحفظ، فأشرفها بلا مخالفة في ذلك الحيوان، ثم المخصوص بالنطق منه وهو الإنسان، ثم مدبرو المدن الذين عضدتهم القوى الملكوتية، وفاضت عليهم الأنوار الإلهية، ثم الأقرب منهم فالأقرب، والأمثل فالأمثل، ثم الجامع لذلك وهو مولانا الملك السيّد الأجل الأفضل. وهذا ما لا خفاء به، ولا لبس فيه، ولا ريب يبعده عن محض الحقيقة وينفيه، فهو سيد أهل الأرض مذ فخرت البسيطة بظهوره، وسلطان هذا الخلق مذ استقر في دسته، واستوى على سريره، وظل الله الممدود على كافة المقرين بكلمة التوحيد، وصفوته الثابت علمها من جهة الاستدلال لا من جهة التقليد. فلا سبيل لعاقل أن ينكر ذلك ويجحده، بل الواجب على كل ناطق أن يقول بين يديه وينشده:
من شك أنك مخلوق لتملكه ... كمثل من شك أن الله خلاق
على أن مقامه الشريف يجعل كل بليغ لكنا، ويعيده حصرا، وقد كان فصيحا لسنا:
هو موقف تغضي العيون مهابة ... فيه ويعثر بالكلام المنطق
1 / 8
وقد ازدحمت بفنائه ضروب الأمم، وتواصلت إليه ملوك العرب والعجم، وهاجروا نحو بابه راجين مهطعين، وأموا ظله لاجئين إليه منقطعين ولقد ورد منهم اثنان متباعدا الأفقين، متباينا المنطقين وهما ملكا غانة وفرغانة، فأزال من قلب كل منهما أحقاده على الدهر وأضغانه، فاعتبروا يا أولي الأبصار كيف أحسن حتى إلى الدهر فأصلح القلوب له، وجعل ذلك من شكر الله على ما قمصه إياه وسربله. وهذا إشارة إلى القدرة التي خص بها، والعظمة التي استقر في أشرف منصبها. وإذا تأملنا ما سفر فيه البيان وتبرج، وأسفر به صبح الإبداع وتبلج، وأخرجت منه الضمائر جواهر كانت مستترة، ونظمت به الخواطر عقودًا ما زالت منتثرة؛ وجدنا ضروبًا من الأقوال متسعة، وأصنافا من المدح متشعبة متنوعة، تدعو الناظر المحرر، والمتأمل المتصور، والعامل بفريضة العدل تعرضا لجزائه، والمناضل عن الحق رغبة في انتسابه إليه واعتزائه، إلى القول إن كل لسان انطلق في أيامه بخدمة ملوكية فما قصد غير مدحه، وكل بيان انبعث في أوصاف حقيقة فما أراد سوى تفصيل ذلك وشرحه، فلله در أبي نواس إذ يقول:
وإن جرت الألفاظ يومًا بمدحه ... لغيرك إنسانا فأنت (الذي نعني)
وما أحسن قول ابن الرومي:
إن أسرق الشعراء شعرهم ... فجزاء ما سرقوا من المجد
سرقوك مجدك وهو مدخر ... من قبل أن تلقى إلى المهد
وكسوه قومًا لا يليق بهم ... من ماجد وسط ومن وغد
فرددت حقك غير معتذر ... منهم إلى حر ولا عبد
فعمدنا إلى هذا الباب ذاكرين منه أنموذجًا لنظائره، واقتصرنا عليه إذ لا طمع لنا في ذكر سائره، واعتمدنا على ما لم يبتذله الاشتهار، وقصدنا ما لم يكن للألسن به استهتار، واجتهدنا في إيراد ما لم تخلق الأسماع جدته، وخدمنا بما لم تسلب الرواية رواءه وهجته. وقد يأتي في تضاعيفه ما ليس من شرطه حسب ما يوجبه تفرع التصنيف، ويقضي به تشعب التأليف. وسمينا ذلك رد المظالم لأنه حق لمولانا.
وقد حليت على غير أكفائه عروسه، وأديرت على غير شربه كؤوسه، فافتضت أسماعهم أبكاره، وشربت أفهامهم عقاره. وهذا ظلم من ناظمه وقائله، وتعد من سامعه وقابله.
ومن أقسام سيرته الشريفة العدل في إعادة الحقوق إلى أربابها، واستخلاصها من دار ذلها واغترابها. فاستعملنا بعض سيرته في وصفه، ورجونا الله بذلك في دفع المكروه عنا وصرفه، والله يسعدها ويوفقنا وعليه توكلنا ومعتمدنا.
وهذه بداية الكتاب: قال محمد بن عيسى:
ملك الورى والندى والبأس أنصله ... هندية وعطاياه هنيدات
وبدر سبع وسبع تستنير به الس ... بع الأقاليم والسبع السماوات
ومن قصد بهذين البيتين وما يجاريهما صفة مولانا فكأنه لقول الحق إنما تلا قرآنًا، وهما على الحقيقة كغيرهما من المدائح الشريفة لأنهما لما كان مآلهما إلى العرض بالمقام الأعظم - ثبت الله سلطانه - وكانا يشتملان على بعض صفاته صارا كلتاهما من خدم شعراء المجلس العالي وعفاته. وهذا حكم باب المآل، ونهاية التصانيف للأقوال. قال الله ﷿: (إني أراني أعصر خمرا) والخمر لا يعصر، وإنما يعصر العنب، لكنه لما كان المآل إلى الخمر سمي المعصور خمرا.
ومثله قوله تعالى: (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) وإنما التقطوه ليكون لهم سرورا وولدا، لكنه لما كان مآله إلى العداوة جعل علمه للالتقاط.
قال عبد الله بن محمد بن سنان بن سعيد الخفاجي الحلبي:
لا يدعي الفصحاء فيك غريبة ... والبيض تنثر والأسنة تنظم
إن أحسنوا حنك الثناء فإنها ... نطقت بمدحك قبل أن يتكلموا
عجبا لوجهك كيف بارق بشره ... تهمي سحائبه ولا يتغيم
=ومن العجائب أن بيض سيوفه=تبكي دما وكأنها تتبسم فأما الأول فمن مليح التورية وقد أتى بها في قوله:
وصفوا بياض يد الكليم بمعجز ... فيه وكم لك من يد بيضاء
واستطرفوا إحياء عيسى ميتا ... فردا وجودك باعث الفقراء
وقال:
من القوم صال الدهر إلا عليهم ... وصالوا ببيض الهند حتى على الدهر
أشد احتقارًا بالردى من حسامه ... وأدنى إلى سر الأعادي على الذعر
له خلق في المحل غيث وفي الصبا ... نسيم وفي جنح الدجى غرة البدر
وقد استعمل تركيب هذا البيت في موضع آخر فقال:
1 / 9
ما هزه طرب العقار وإنما ... أعطته نشوة كأسها الأخلاق
هي في الهوى وعد الوصال وفي الكرى ... طيف الخيال وفي الوداع عناق
وهو مأخوذ من قول ابن نباتة:
إنها في السحاب وبل وفي الرْ ... رِيح نسيم ونشوة في الشراب
فأما قوله: أشد احتقارا بالردى من حسامه فهذا الصدر يصلح أن يعجز بقول أبي الطيب:
وأقدم بين الجحفلين من النبل
على أن صدر بيت أبي الطيب مناسب للعجز المذكور؛ لأنه قال:
أقل بلاء بالرزايا من القنا
فبصير هذا العجز مع صدرين.
قال محمد بن عباد بن عمرو:
سميدع يهب الآلاف مبتدئا ... ويستقل عطاياه ويعتذر
له يد كل جبار يقبلها ... لولا نداها لقلنا: إنها الحجر
ولو أمكنه أن يقول الحجر الأسود لكشف المراد وبينه، وأظهر المعنى وحسنه. وقد اتفق ذلك لمحمود بن القاضي الموفق أحد مماليك مولانا، و(كاتب) إنشاء دولته في قوله يصف كتابا ورده، ويذكر أن الفاتك والناسك يلقياه بالتبجيل، وقابلاه بالتقبيل كأنما قد حل فيه اللمى، أو ذاب فيه الحجر الأسود. على أن ابن مكنسة ذكر الحجر غير موصوف، فلم يشكل المراد فيه. وسبب ذلك ما قرنه به، وضمه إليه، فقال من قصيدة أولها: لمثل ذا اليوم كان السعد ينتظر منها:
كأنك البيت قد طاف الحجيج به ... وفي ركابيك حل الركن والحجر
فأما قصيدة محمد المقدم ذكره فإن لعبد الله بن سنان قصيدة على وزنها وفي معناها على تقارب العصرين وتباعد المستقرين، منها ما هو من شرط هذا الكتاب. قال منها:
ملك له سيرة في العدل معجزة ... لولا الشريعة قلنا إنها سور
قوم إذا طلب الأعداء عيبهم ... فما يقولون إلا أنهم بشر
تسمو البلاد إذا عدت وقائعهم ... فيها وتبتسم الدنيا إذا ذكروا
إن الخلافة ما زالت منابرها ... إلى سيوفهم في الروع تفتقر
فهم صوارمها والبيض نابية ... وشهبها وظلام الخطب معتكر
قال أحمد بن عبد الله:
ترى الدهر إن يبطش فمنكم يمينه ... وإن تضحك الدنيا فأنتم لها ثغر
عطاء ولا من وحكم ولا هوى ... وحلم ولا عجز وملك ولا كبر
طريقتكم مثلى وهديكم رضى ... ومذهبكم قصد ونائلكم غمر
وهذا ضد قول العباس بن الأحنف:
وصالكم هجر وحبكم قلى ... وقربكم بعد وسلمكم حرب
ومن مليح التقسيم قول ابن حيوس:
لعمري لقد بذ الملوك جميعهم ... بأربعة في غيره لن تألفا
بأمن لمن يخشى وقهر لمن طغى ... وسبق لمن جارى وعفو لمن هفا
وقوله أيضًا:
قصر السابقون دون مداها ... وتملكتها بست خصال
مكرمات مع اعتذار، وعفو ... باقتدار، وعفة في جمال
وقوله أيضًا:
ثمانية لم تفترق مذ جمعتها ... فلا افترقت ما ذب عن ناظر شفر
ومن مليح ما في هذا البيت ما تضمنه من ذكر الجواب قوله:
وبعد بيت رسول الله ما فخرت ... بمثل بيتك لا عجم ولا عرب
إن ناضلوا نضلوا، أو فضلوا ... أو حاربوا حربوا، أو خاطبوا خطبوا
وقد أحسن أحمد المقدم ذكره فيما أتى به من ذلك في الغزل فقال:
يا بائعا حظه مني ولو بذلت ... لي الحياة بحظي منه لم أبع
ته احتمل، واستطل اصبر، وعز أهن ... وول أقبل، وقل أسمع، ومر أطع
وهو كثير.
ولأحمد بن عبد الله أيضًا:
يا خير من ركب الجوا ... د وسار في ظل اللواء
لا زلت للدنيا فأن ... ت دواؤها من كل داء
وورثت أعمار العدا ... وقسمتها في الأولياء
وبقيت مفديا بنا ... إن نحن جزنا في الفدا
ومثل هذا لحسن بن عبد الصمد، وقد كانا في عصرن وإن لم يجتمعا في مصر، فلا أدري هل تسارقا أم توافقا:
لا زلت مخفوض العدا ... ما عشت مرفوع البنا
تفدى بنا إن كان ير ... ضى المجد أن تفدى بنا
ومن أجود ما في هذه القصيدة:
ما أحسن المال إذا ... صاحب ذكرا حسنا
ومنها:
لنا الثناء خالصا ... منه وما يحوي لنا
شاد الذي بنى له ... آباؤه ومكنا
عممت بالإحسان من ... ك مضرا واليمنا
ينقاد صعب اللفظ لي ... سهل القياد مذعنا
كأن في خواطري ... لكل معنى رسنا
1 / 10
ومن هؤلاء الشعراء من يحسن في كثير مما يتصرف فيه، ويتناول المعنى فيجيده ويستوفيه؛ فمن محاسن أحمد هذا ما كتب به مع تفاح أهداه إلى ابن عباد:
يا من تزينت الريا ... سة حين ألبس ثوبها
جاءتك جامدة المدا ... مِ فخذ عليها ذوبها
وهذا من قول الخليع:
الراح تفاح جرى ذائبا ... كذلك التفاح راح جمد
فاشرب على جامده ذوبه ... ولا تدع لذة يوم لغد
وقال السري:
وقد أضاءت نجوم مجلسنا ... حتى اكتسى غرة وأوضاحا
لو جمدت راحنا اغتدت ذهبا ... أو ذاب تفاحنا اغتدى راحا
والأصل في ذلك ما يحكى من قول كسرى: لست أدري: هل التفاح خمر جامد، أم الخمر تفاح ذائب؟.
وقد أكثر الشعراء من وصفها بذوب الجامد، فمنهم من يجعلها ذوب الذهب كقول الصنوبري:
رأيته والكأس في فيه قد ... صوبها كالكوكب الصائب
وجسمها من ذهب جامد ... وروحها من ذهب ذائب
وقول محمد بن عباد:
أبدى لنا من لطيف حكمته ... في جامد الماء ذائب الذهب
ومنهم من جعلها ذوب الورد كقوله:
لاح وفاحت روائح الند ... مختصر الخصر أهيف القد
وكم سقاني والليل معتكر ... في جامد الماء ذائب الورد
وقول الصنوبري:
من ينس لا أنس اتصال زماننا ... ويد السعود على الزمان مساعده
إذ نخبتي راح كورد ذائب ... وتحيتي ورد كراح جامده
وكل هذا تصرف في قول ابن المعتز:
وزنا لها ذهبا جامدا ... فكالت لنا ذهبا سائلا
وعلى ذكر الذهب وذوبه فحدثني إبراهيم بن شغب أنه ليم فيما أنفقه على جارية له، فقال:
ما الذهب الصامت مستكثرا ... إذ هابه في الذهب الناطق
قال أبو بكر محمد بن عمار:
ملوك مناخ العز في عرصاتهم ... ومثوى المعالي بين تلك المعالم
إذا قصر الروع الخطى نهضت بهم ... طوال العوالي في طوال المعاصم
وأيد أبت من أن تؤوب ولم تفز ... بجز النواصي أو بجز الغلاصم
إذا ركبوا فانظروا أول طاعن ... وإن نزلوا فارصده آخر طاعم
وهذه قطعة اتسع فيها، وأحسن التصرف في معانيها، فقال في صفة الفرس:
خذوا بين إن لم تهدروا كل سابح ... لريح الصبا في إثره أنف راغم
من العابسات الدهم إلا التفاتة ... إلى غيره أهدت له ثغر باسم
طوى بي عرض البيد فوق قوائم ... توهمته منهن فوق قوادم
ومن جيد ما فيها:
وليل لنا بالسدتين معاطف ... من النهر ينساب انسياب الأراقم
بحيث اتخذنا الروض جارا تزورنا ... هداياه في أيدي الرياح النواسم
وبتنا ولا واش يحس كأننا ... حللنا مكان السر من صدر كاتم
ولأبي بكر هذا:
ملك إذا ازدحم الملوك بمورد ... ونحاه لا يردون حتى يصدرا
قداح زند المجد لا ينفك من ... نار الوغى إلا إلى نار القرى
أيقنت أني من ذراه بجنة ... لما سقاني من نداه الكوثرا
وقال أيضًا:
جنيت ثمار النصر طيبة الجنى ... ولا شجر غير المثقفة الملد
ببدر ولكن من مطالعه الوغى ... وليث ولكن من براثنه الهندي
ورب ظلام سرت فيه إلى العدا ... ولا نجم إلا ما تطلع من غمد
ومنها في ذكر بلدة افتتحها وأحرقها:
فأرملتها بالسيف ثم أعرتها ... من النار أثواب الحداد على الفقد
فيا حسن ذاك السيف في راحة الهدى ... ويا برد تلك النار في كبد المجد
فقوله أرملتها بالسيف، وألبستها حدادا بالنار، من أحسن تركيب وأبدع تشبيه. ولقد ذكر عبد الله بن محمد مثل ذلك، وهو وأبو بكر متقاربا الزمن، متباينا الوطن؛ فهذا بالعدوة الدنيا وهذا بالعدوة القصوى. فقال وأحسن ما شاء:
غادرتها دمنا على أطلاعها ... يبكى الخليط وتذكر الأشواق
وشرعت دين قراك في عرصاتها ... فالنار تضرم والدماء تراق
وعلى هذا البيت من البهجة، وحسن الديباجة، ما لا أعلم لأحد مثله. ولقد ذكرت بالنار قول الآخر في حريق جامع دمشق:
فأتته النيران طولا وعرضا ... عن يمين من قتره ويسار
ثم مرت على حدائق نخل ... فإذا الجمر موضع الجمار
ومن قول أبي بكر:
1 / 11
كم من شجاع قدته نحو الردى ... بدم من الأوداج كأرسان
روى ليضرب فابتدهت بطعنه ... إن الرماح بداية الفرسان
وقال:
وفيت لربك فيمن غدر ... وأنصفت دينك ممن كفر
ولم تتقدم بجيش الرجا ... ل حتى تقدم جيش الفكر
فعاقر سيفك حتى انحنى ... وعربد رمحك حتى انكسر
وكم نبت في حربهم عن علي ... وناب عن النهروان النهر
وأبو بكر هذا من الأعيان المشهورين، والمجيدين المذكورين، والمحسين في خطاب الملوك، والمطلعين باستعطافهم شمسا آمنة من الدلوك. فمن ذلك ما كتب به إلى أحد السلاطين وهو مزمع على السفر لخوف لحقه منه:
أصدق ظني أم أصيخ إلى صحبي ... وأمضي عزيمي أم أعوج عن الركب
أخافك للحق الذي لك في دمي ... وأرجوك للحب الذي لك في قلبي
وهذا وإن كان مأخوذًا من قول مهيار في القصيدة التي أولها:
سل الركب إن أعطاك حاجتك الركب ... من الكاعب الحسناء تمنعها كعب
أحبك ودا من يخافك طاعة ... وأعجب شيء خيفة معها حب
فإنه ألذ مسموعا، وأحسن مصوغا. وقد أحسن الآخر في قوله:
تمر سفيهات الرياح بأرضه ... فترصن إجلالًا له وتوقر
وتشتاق عينيه الكرى وتخافه=فيأتي إلى الأجفان وهو مغرر ومن مليح الوصف بالخوف:
مخوف والصوارم لم تجرد ... ولا أخلت مرابطها الخيول
ويكسو الصبح من نقع خضابا ... كليل والنصول به نصول
وكتب إليه أبو بكر أيضًا:
إني لممن إن دعاه لنصرة ... يوما بساطا حجة وجلاد
أذكيت دونك للعدى حدق القنا ... وصمت عنك بألسن الأعماد
وهذا من أجزل عبارة، وأجود استعارة. ولله مهيار حيث يقول:
وهل تخفى المقاتل وهي بيض ... على مقل الذوابل وهي زرق
وقد أكثر الناس من الكناية عن السيوف، ومن مليح ما جاء في ذلك قول أبي تمام يصف سحابة:
سيقت ببرق ضرم الزناد ... كأنه ضمائر الأغماد
وهذا مما جعل منه الفرع أصلا؛ لأن المعتاد أن تشبه السيوف بالبروق، فتكون البروق أصلًا لأنها مشبه بها، وتكون السيوف فرعا لأنها مشبهة، فقلب مبالغة. وقال أبو الطيب: وأترك الغيث في غمدي وأنتجع فأما الأعشى النحوي فجعله جدولًا فقال:
ملك إذا ادرع الدلاص حسبته ... لبس الغدير وسل منه جدولا
ومثله قول محمد بن البين:
وجلوا ظلام الليل بالصبح الذي ... قسموه بين جيادهم أوضاحا
وأتوا بغدران المياه جوامدا ... قد فصلوها ملبسا وسلاحا
وقول محمد بن عثمان:
أنى يهاب ضرابهم وطعانهم ... صبا بألحاظ العيون طعين
فكأنما بيض الصفاح جداول ... وكأنما سمر الرماح غصون
وقد سماه قوم سليل الصاعقة، وسماه آخرون طبيب النفاق. وما أحسن قول الكموني:
لما التقى أسد العرين وشادن ... تحت الإزار وصارم بتار
قالت: أرى بيني وبينك ثالثا ... ولقد عهدتك بالدخيل تغار
أأمنت نشر حديثنا؟ فأجبتها ... هذا الذي تطوى به الأسرار
ومن غريب التصرف في وصفه، قول الآخر:
عقرت في سهك التراب خدودهم ... حتى ظننا أنها تتشيع
وتركت في عفر التراب رؤوسهم ... في الأرض تسجد عن سيوف تركع
وقوله أيضًا:
جعلت رؤوس القوم عرس سيوفنا ... تعصفر من أوداجهم وتطيب
إذا وعدتها البيض صادق وعدها ... بعثت لها البيض الرقاق تكذب
ومن قوله:
إذا سلبته عزمة منك غمدة ... كسته نجيعا فهو يكسى ويسلب
وإنما أخذه من قول السري:
يكسوه من دمه ثوبا ويسلبه ... ثيابه فهو كاسيه وسالبه
وأخذه السري من قول البحتري:
سلبوا وأشرقت الدماء عليهم ... محمرة فكأنهم لم يسلبوا
وقد جعلها ابن حيوس صوالج، فقال:
لك اليوم الذي شابت قرون ... به من بعد أن فنيت قرون
بحيث بنيت مرهفة المواضي ... صوالج والرؤوس لها كرين
وكرين: جمع كرة؛ لأنه يقال في جمعها كرات وكرين، ولهذا أخذ على القائل في وصف النارنج:
كأن السماء همت بالنضار ... فصاغت لنا الأرض منه أكر
وعلى أبي نواس قبله في قوله في أرجوزته:
يحدو بحقب كالأكر
1 / 12
قال ابن جني: قد أخطأ في جمع كرة على أكر، فإن كان أراد جمع أكرة وهي الحفرة، فشبه الأتن في استدارتها بالحفر المدورة؛ فقد أحال المعنى. ومن البديع قول ابن حيوس:
قدت الجحافل لم يقد معشارها ... كسرى الملوك ولا رآها تبع
قوم إذا راموا ممالك غيرهم ... حصدوا ببيض الهند ما لم يزرعوا
وقول ابن المحترق:
صيغ من الماء وصيغت له ... من لهب النيران خدان
وهذا نقل بيت ابن نباتة في وصف سكين:
ما أبصر الراؤون من قبلها ... ماء ونارا جمعا في مكان
على أن المملك قد فعل ما فعله ابن المحترق، فقال في وصف سيف مرصع: سيف تقام الحدود بحده، ويجتمع الماء والنار في غمده، ويتنازع ذوو الوصف في جوهري ترصيعه وفرنده. وقد أخذه حسن بن عبد الصمد، فقال:
فلم أر ماء قبله مترقرقا ... يخالطه ذاك اللظى المتلهب
إلا أن حسنا استعمله في الغزل وهو يصلح صفة للسيف.
ومن الشعر ما يحتمل معنيين، ولم يقصد الشاعر إلا أحدهما، كقول والبة بن الحباب في صفة الورد:
مثل الشموس طلعن في الإصان
ويصلح أن يدخل في باب الغزل.
وقول السري في شبكة صياد:
وهل يفات لحظها أو يسبق ... وكلها نواظر لا تطرق
وهذا يصلح أن يوصف به فهد، وقد نقله ابن السراج إلى وصفه فقال:
تنافس الليل فيه والنهار معا ... فقمصاه بجلباب من المقل
ومن محاسن هذه القصيدة:
يقصر الغيث عن آثار جودكم ... فحمرة البرق في قطريه كالخجل
وقد استعمل غيره هذا المعنى فقال:
يجود بالماء غيث الأفق منقطعا ... وغيث كفك بالأموال متصل
جارى نداك فلم يظفر ببغيته ... فذلك البرق في حافاته خجل
ثم أتى بزيادة على ذلك فقال من أخرى:
منعت مكارمه رويته ... فنداه طول الدهر مرتجل
جارت نداه السحب فارتجعت ... عنه ووابل ودقها وشل
فالرعد في أثنائها ضجر ... والبرق في أرجائها خجل
وقال:
قد قلت إذ قالوا: يداه سحابة ... سحبت ذيول مجلجل هطال
لا تضربوا مثلا له في جوده ... فحقيقة الأمثال للأمثال
وأبلغ من هذا قول الآخر:
ضربوا لك الأمثال في أشعارهم ... لكنني بك أضرب الأمثالا
فأما ما تقدم من وصف السيف بالماء والنار فقد نقل وبولغ فيه.
أنشدني ابن مكنسة قوله في الخمر من أبيات:
أيام عودك مطلول بوابلها ... والدهر في عقله من مسها خبل
تنزو إذا قرعتها كف مازجها ... كأنما نارها بالماء تشتعل
وقوله في وصف كأس:
وخضيبة بالراح يج ... لوها عليك خضيب راح
ما زال يقدح نارها ... في الكأس بالماء القراح
وقوله من أبيات:
كلما سلط المزا ... ج على نارها اشتعل
وهو من قول الآخر:
كم جوى مثله رسم مثل ... ودم قد طل أثناء طلل
وأدرنا لهبا في ذهب ... كلما أخمد بالماء اشتعل
وكأن مأخوذ من قول البحتري:
كل جون إذا التقى البرق فيه ... لمعت للعيون بالماء ناره
وقال محمد بن عيسى يصف أبياتا بعث بها بعض الملوك إليه:
بعثت بها يا واحد الدهر قطعة ... هي الماء إلا أنها تتلهب
فجئت بها في الحسن ورقاء أيكة ... ولكنها في العدم عنقاء مغرب
ومن مليح ما وصف به الشعر قول الآخر:
وقواف ليست تفارق مغنا ... ك على أنها تجوب البلادا
وقبيح أن أدعى الفضل فيها ... بعد أن أنطقت علا الجمادا
وكتب إليه أبو بكر في يوم غيم وقد احتجب:
تجهم وجه الأفق واعتلت النفس ... بأن لم يلح للعين أنت ولا الشمس
فإن كان هذا منكما عن توافق ... وضمكما أنس فيهنيكما العرس
وقال ابن خلصة:
ملك تملك حر الحمد، لا يده ... نالت بظلم ولا مالت إلى بخل
لم تدر قبلك عين أنها بصرت ... بالغيث والليث والرئبال في رجل
يغرهم بك ... والآمال كاذبة
ما جمعوا لك من خيل ومن خول
فأما قوله: لا يده نالت بظلم؛ فقد زاد الآخر فيه زيادة حسنة:
إذا هو ذاد الظلم عنا بعدله ... غدا ماله في كفه متظلما
يرى الذنب أن تسطو يداه بمذنب ... ويعتد جرما أن يعاقب مجرما
وقوله أيضًا:
1 / 13
تظلم ما تحويه فيك فلم يغث ... وقد جعلت في راحتيك المظالم
ومن عجب أن تظلم المال وحده ... ولم يبق في أيامك الغر ظالم
وقوله أيضًا:
يا عادلا في كل ما هو فاعل ... ما بال كفك في اللهى لا تعدل؟
تبقى أحاديث القتيل بسيفه ... فكأنما يحيي به من يقتل
وهذا البيت من قول ابن نباتة:
تبقى بهم أخبار من غلبوا ... فكأنهم أحيوا وقد قتلوا
وقال أبو الطيب:
وأن دما أجريته بك فاخر ... وأن فؤادا رعته لك حامد
وقال مهيار:
ويستطيل القرن لاقى الردى ... بهم وما في الموت من طائل
ويشرف السيف بما شامه ... ويفخر المقتول بالقاتل
ومن باب ظلم المال قول الآخر وذكر الخيل:
ما أوردوها قط إلا أصدرت ... جرحى الصدور سليمة الأكفال
وإذا انجلت عنهم دياجير الوغى ... عدلوا بفتكهم إلى الأموال
ووصفه الخيل من قول الرضي: (فُجعت بمنصلت) يعرف للقنا=أعناقها ويحصن الأكفالا وهو مأخوذ من قول الببغاء:
يلقى الطعان بصدر منه ليس له ... ظهر وهادي جواد ماله كفل
وقال محمد بن عثمان في وصف قصر، وهو بصفات مباني مولانا أليق، وأرجه في أرجائها أعطر وأعبق:
هو جنة الدنيا تبوأ نزلها ... ملك جبلته التقى والدين
راسٍ بحيث النون إلا أنه ... سام فقبته بحيث النون
فكأنما الرحمن عجله له ... ليرى بما قد كان ما سيكون
وكأن بانيه سنمار فما ... يعدوه تحسين ولا تحصين
وجزاؤه فيه خلاف جزائه ... شتان ما الإحياء والتحيين
ومحمد بن عثمان من المكثرين المبدعين، والمتصرفين التوسعين، ومن مليح تشبيهاته:
والسمر من قلب القلوب مواتح ... وكأنها موصولة الأشطان
والنبل في حلق الدلاص كأنها ... وبل الحيا في مائج الغدران
وقوله أيضًا:
وفويق ذاك الماء من شهب القنا ... حبب ومن خضر الصوارم عرمض
أهواهم وإن استمر قلاهم ... ومن العجائب أن يحب المبغض
وقوله في وصف هام المصلين:
وقد تلم بها الغربان واقعة ... كأنها فوق مخلوقاتها لم
وقال:
تكاد تغنى إذا شاهدت معتركا ... عن أن يسل حسام أو يراق دم
وما اجتدى الموت نفسًا (من نفوسهم) ... إلا وسيفك كعب الجود أو هرم
وهذا من القول المعجب، والنظم المطرب، والبيت الأول قول مهيار:
ألق السلاح فقد غنيت سعادة ... عن حمله واضرب بجدك واطعن
وإذا أردت بأن تفل كتيبة ... لاقيتها فتسم فيها واكتن
وقال الآخر:
أدل بجمعه فكفاك جد ... يفل سعوده الجيش اللهاما
ضربناه بذكرك وهو لفظ ... فكان القلب واليد والحساما
وقال:
وما خيلاء الخيل فيها سجية ... ولكنها لما امتطيت توائه
فنصرك أيا ما سلكت مساير ... وفتحك أيا ما اتجهت مواجه
وقال في وصف هذه القصيدة:
ففي أنفس الحساد منها هزاهز ... وفي ألسن النقاد منها زهازه
وهذا من العكس الذي يطرب له السامع، وتقل فيه المطالع، ومن بديعه قول ابن جاخ:
وتحت البراقع مقلوبها ... تدب على ورد خد ند
تسالم من وطئت خده ... وتلسع قلب الشجي الأبعد
وللنيلي أحد شعراء اليتيمة:
إذا دهاك الوداع فاصبر ... ولا يروعنك البعاد
وانتظر العود عن قريب ... فإن قلب الوداع عادوا
وقد أخذه ابن أبي وهب فقال:
قالوا تدانيت من وداعهم ... ولم نر الصبر عنك مغلوبا
فقلت للعلم إنني بغد ... أسمع لفظ الوداع مقلوبا
ومن ضروب العكس قول البحتري:
ولم ير يوما قادرا غير صافح ... ولا صافحا عن زلة غير قادر
وقول الآخر - وهو على دولاب -:
عبدك يا عبدون في نعمة ... صافية أذيالها ضافية
نديمتي جارية ساقية ... ونزهتي ساقية جارية
وعلى ذكر الدولاب فلم أسمع فيه أحسن من قول السلامي
وكأنما الدولاب ضل طريقه ... فتراه ليس يزول وهو يطوف
وقال أبو الطيب سالكًا مذهب البحتري:
فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله ... ولا مال في الدنيا لمن قل مجده
وقال ابن حيوس:
1 / 14
إذا طلب العلياء لم يهنه الكرى ... وإن طلب الأعداء لم ينهه الزجر
ثغور العدا إن رمتموهن كالفلا ... وكل فلاة رمتم منعها ثغر
ومن بديع القلب، ونوعه الغريب الصعب أن يقرأ الكلام من آخره كما يقرأ من أوله، كقوله ﷿: (كل في فلك) وكقولهم: سر فلا كبا بك الفرس. وقد جاء ذلك منظوما قال:
بلغت بلاغتنا مدى ... دم أنت غالب تغلب
ومثله قول الآخر:
أراهن ناد منه ليس لهو ... وهل ليلهن مدان نهارا
وقول الآخر:
قال بكر للمرادي ... دارم للركب لاق
وذكر أبو محمد القاسم بن علي الحريري البصري من هذا الباب: لم أخامل. كبر رجاء أجر ربك. سكت كل من نم لك تكس.
ومن المنظوم:
أس أرملا إذا عرا ... وارع إذا المرء أسا
أسند أخا نباهة ... ابن إخاء دنسا
اسل جناب غاشم ... مشاغب إن جلسا
وقال محمد يصف سماطا:
سمت السوام به الحمام كأنما ... أخذت بشأن من ذوي الشنآن
وتبعتها ذات الجناح كأنما ... فعلت جناحا قبل في الطيران
حتى غدا حمل السماء ونسرها ... حذرين مما حل بالحملان
نار بأرجاء المدينة سقطها ... مزر ببيت النار في أرجان
فلو المجوس تجوس حول ديارنا ... أمت لديك عبادة النيران
وقال:
فلا دولة إلا إليك نزاعها ... وما زال يطوى عن سواك لها كشح
إذا خيف أن تشتد شوكة مارق ... فلا رأي إلا ما رأى السيف والرمح
وقال حسان بن المصيصي:
ملك يظل ثرانا عنده قبلا ... فذو الغواية منا مثل عابدنا
نسقى ونسجد إجلالا لهيبته ... فنحن نشرب خسرا في مساجدنا
وقال:
مليك إن دعته الحرب يوما ... لما تعنو لهيبته الأسود
قسا قلبا وسن عليه درعا ... فباطنه وظاهره حديد
وقال مسعود بن محسن:
مليك تحلم الآمال فيما ... حواه من الطريف أو التلاد
وتزدحم المطامع في نداه ... لأن عليه أرزاق العباد
وقد أحسن الآخر في قوله:
إن غاض صوب الحيا فاضت أنامله ... جودا وروضت الدنيا مكارمه
يصرف الأمر في الآفاق خاتمه ... ويصبح الدهر طوعا وهو خادمه
وقال مسعود أيضًا:
وإنا إذا الأرواح ذابت مخافة ... متحنا بأشطان الرماح وكاياها
متى ما أردنا أن يذاق حديدنا ... خلقنا بحد المشرفية أفواها
وهذا من باب قول ابن نباتة:
خلقنا بأطراف القنا لظهورهم ... عيونًا لها وقع السيوف حواجب
ومسعود هذا مقل في شعره، محسن مطرب بغزله مفتن فمن ذلك قوله:
غزال يكون الفهد طوع يمينه ... ولم نر ظبيا قط مستخدما فهدا
ومن أعجب الأشياء أن بات آمنا ... من الثأر فينا وهو يقتلنا عمدا
وقوله:
حوراء تقتل من رمته بطرفها ... فكأن سهم لحاظها مسموم
وتصيب أسهمها وليس يرى دم ... فالقتل منها ظاهر مكتوم
وتكاد تسكر بالحديث لأنه ... عصرت بحيث يمر فيه كروم
وقال محمد بن عيسى:
وضحت به العليا فمنهج قصدها ... منه إلى ظهر المجرة مهيع
يندى عليك وأنت منه خائف ... وكذاك لج البحر مغن مفزع
وهذا من قول الآخر: هو البحر فيه الغنى والغرق على أن محمد بن عيسى قد ذكر هذا المعنى في موضع آخر، واحتاط للمدوح، فقال وأحسن:
براحته بحر محيط مسخر ... يفاد الغنى فيه ولا يذعر الركب
والذي دعاه إلى البيت العيني قوله بعده:
فأشد ما تلقاه عند ليانه ... وكذا الأرق من الحسام الأقطع
وقال:
تخللت حتى غابة الأسد الورد ... وأنزلت حتى ساكن الأبلق الفرد
وجردت دون الدين سيفك فانثنى ... من النصر في حلي من الدين في غمد
لقد ضم أمر الملك حتى كأنه ... نطاق بخصر أو سوار على زند
يغيثك في محل يغيثك في ردى ... يروعك في روع، يروقك في برد
جمال وإجمال وسبق وصولة ... كشمس الضحى، كالمزن، كالبرق، كالرعد
ومثل هذا التركيب، وعلى حكمه في الترتيب، قول محمد بن أبي سعيد:
جاور عليا ولا تحفل بحادثة ... إذا ادرعت فلا تسأل عن الأسل
1 / 15
سل عنه وانطق به وانظر إليه تجد ... ملء المسامع والأفواه والمقل
وقال محمد بن عيسى أيضًا:
ملك غدا الرزق مبعوثا ... وظل يجري على أحكامه القدر
يا من قضى الله أن الأرض يملكها ... عجل ففي كل قطر أنت منتظر
وقال:
يهوى قناتك قلب من لم تهوه ... فيكاد فوق سنانها يتقلب
أنت النهار فليس دونك نجعة ... والليل أنت فليس دونك مهرب
وفي هذا بيت النابغة وزيادة لأنه قال:
فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
وقد أجاد ابن أبي الفرات في قوله:
كأن فجاج الأرض كفاك إن يسر ... بها مجرم ضمت عليه الأناملا
فأين يفر المرء عنك بجرمه ... إذا كان يطوي في يديك المراحلا؟
وقال:
يجري النهار إلى رضاك وليله ... وكلاهما متعاقب لا يسأم
فكأنما الإصباح تحتك أشقر ... وكأنما الإظلام تحت أدهم
والخيل كانت تستريح من السرى ... لو لم يكن فوق البسيطة مجرم
تهوى قناك الطير فهي وراءها ... تهوي لتبصر حيث تطعن تطعم
بلغت إلى السمع الأصم صفاتهم ... وأبان فيهن اللسان الأعجم
قوله: تهوى قناك الطير هو المعنى الذي سبق الأفوه الأودي إليه، واتبع جماعة من الشعراء تمثيله فيه واحتذوا عليه. ومن المشهور في ذلك ما جاء للنابغة، ومسلم، وأبي نواس، وأبي تمام وغيرهم، ومن مليح ما أعرفه فيه قول مروان بن أبي الجنوب:
لا تشبع الطير إلا في وقائعه ... فأينما سار سارت خلقه زمرا
عوارفا أنه في كل معترك ... لا يغمد السيف حتى يكثر الجزرا
وقول الآخر:
ولست ترى الطير الحوائم وقعا ... من الأرض إلا حيث كان مواقعا
وقول عبيد الله بن قيس:
والطير إن سار سارت خلف موكبه ... عوارفا أنه يسطو فيقريها
وقول ابن نباتة:
إذا حومت فوق الجموع عقابه ... تباشر عقبان بها ونسور
حواجل أو ربد الظهور قشاعم ... قوانصها للدارعين قبور
وقول الآخر:
كأن النسور نافست فيهم الثرى ... فقد حصلت أجسامهم في الحواصل
وقوله:
وتطايرت في الجوار رزق أجادل ... طلبت مطاعمها وزرق نصال
وقول الآخر:
عتادهم خطية قد تكفلت ... برزق نسور حوم وخوامع
وقوله أيضًا:
فإن تك أسرى عفت البيض عنهم ... فمن بعد أن عافت ضباع وأنسر
والبديع كل البديع قول أبي الطيب:
يطمع الطير فيهم طول أكلهم ... حتى تكاد على أحيائهم تقع
وقال:
سألت أخاه البحر عنه فقال لي ... شقيقي إلا أنه الساكن العذب
لنا ديمتا ماء ومال فديمتي ... تماسك أحيانًا وديمته سكب
إذا نشأت مالية فله الندى ... وإن نشأت مائية فلي السحب
أقلوا عليه من سماع صفاته ... فإني لأخشى أن يداخله عجب
غفرت ذنوب الدهر لما لقيته ... ودهر به ألقاه ليس له ذنب
وأبلغ من هذا قول مهيار:
وما ذممت زماني في معاتبة ... وحجتي بك إلا وهو يخصمني
وقال محمد بن عبادة، فاستعمل أسلوبًا غريبا، وركب تركيبا غريبا عجيبا، لأنه خلط بمديحه غزلا وتشبيها:
نفى الحب عن مقلتي الكرى ... كما قد نفى عن يدي العدم
فقد قرَّ حبك في خاطري ... كما قرَّ في راحتيه الكرم
وفر سلوك عن فكرتي ... كما فر عن عريضه كل ذم
فحبي ومفخره باقيان ... فلا يذهبان بطول القدم
وقد شاب قولي بذكري له ... مديح أجل ملوك الأمم
وقال ابن مطرف:
يرى العواقب في أثناء فكرته ... كأن أفكاره بالغيب كهان
لا طرفة منه إلا تحتها عمل ... كالدهر لا دورة إلا لها شان
وقال عبد الحميد بن عبد الحميد:
أرح متن المهند والجواد ... فقد تعبا بجدك في الجهاد
قضيت بعزمة حق العوالي ... فقض براحة حق الجياد
وقال جعفر بن محمد:
وعصرك مثل زمان الربي ... ع لا تهجر الشمس فيه الحمل
تسامت علاك سمو النجوم ... وسارت أياديك سير المثل
وقال آخر:
لعزك ذلت ملوك البشر ... وعفرت تيجانهم في العفر
وأنت ملوك إذا شاجروا ... أظلتهم من قناهم شجر
1 / 16
بدور تجرد سيف الندى ... وتغمده في رؤوس البدر
وقال مصعب بن محمد:
مليك يجر الجيش جما عديده ... لأرض الأعادي زائر متعبد
يزعزع أقطار البلاد كأنما ... تحم به الأرض الفضاء فترعد
وقال:
إلى ملك لو لم أحل قلائدي ... به لم أكن من جوهر الفضل حاليا
ألا إنني لما عددتك أولا ... ختمت وما استثنيت بعدك ثانيا
وهذا المقدار دال على استنباط أمثاله من هذا الأسلوب، ومسهل استخراج أنظاره من هذا الغرض المطلوب، وهاد إلى ما يجب قصده في المدح واعتماده، وباعث على ما يلزم إضماره في الوصف واعتقاده. وقد أوردنا في هذا الجزء أنموذجًا لما يجاريه من بابه، واقتصرنا عليه لتعذر استقصائه واستيعابه. والله تعالى يديم على الأمة ظل مولانا ودولته، ويثبت سلطانه ومملكته، ويجعل تراب أرضه رثما في الشفاه، وغررا في الجباه، ولا زال عفوه كعبة الخائف الجاني، وجوده غاية تسمو إليها همم الأماني، وأيامه المشرقة الزاهرة موسمًا للبشائر والتهاني، ويرحم الله عبدًا قال آمينا إن شاء الله ﷿.
الحمد لله وصلى الله على سيد المرسلين محمد، وعلى آله الطاهرين، وسلم. الله حسب المملوك ونعم الوكيل.
رسالة لمح الملح
رسالة سماها لمح الملح
الحمد لله الذي كتب على نفسه الرحمة لأهل طاعته، وفرض الزلفة لمن أنضى فيها مطايا استطاعته، ووسع طرق الأعمال فيما يجازي عليه بالحسنى، ووفق المخلصين لما ينالون به شرف الحظ الأسنى، وأيدهم بروح منه، فوجب لهم الأجر الكريم، ووعدهم خلود جنات لهم فيها نعيم مقيم، (فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم) . وصلى الله على سيدنا محمد نبيه الذي أيده بعزيز نصره واختصه من الفضل بما يعجز ذوو العقول عن حصره، وأبان باصطفائه إياه عن رفيع منزلته وشريف قدره، وجعله رحيمًا بالمؤمنين، رؤوفًا بالمستضعفين، وناهيًا عن القنوط للجانين على أنفسهم والمسرفين، فقال تعالى على ما نطق به كتابه الكريم: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا إنه هو الغفور الرحيم) وعلى أخيه وابن عمه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب المشهور بالشرف الخالص، والمحبو بالمآثر والخصائص. والمجموع فيه ما تفرق في غيره من الفضائل الجمة، والمنصوص على علمه بما جاء في الحديث من كونه أقضى هذه الأمة. وعلى آلهما الأئمة الأطهار الذين تجلت بأضوائهم ظلم الشكوك، ووضحت حجتهم بهم حجة كفاتهم من العظماء والملوك، وسلم ومجد، وأجرى على أفضل ما عود. والحمد لله الذي أطلع من ملوك الأرض شموسا لا تتم المصلحة إلا بهم، وحفظ أسلافهم مذ تنقلوا أنوارا في ظهورهم، وأصلابهم، وأرشد بهم من الضلالة، وجعل آيتهم مبصرة، وأوضح المعذرة لمن كانت قوته في صفاتهم مقصرة، وحض على طاعتهم شعوب الأمم وفرقهم، وفضلهم على كافة بريته ولذلك خلقهم، وجعل هذا العصر مخصوصًا بأرفعهم لديه رتبة، وأوجبهم عنده قربة، وأكثرهم عادة في المراحم ودربة، والمجتبى لحياطة الأمة، فكم كشف غمة، وفرج كربة! مولانا الملك السيّد الأجل الأفضل أمير الجيوش سيف الإسلام، كافل قضاة المسلمين، وهادي دعاة المؤمنين، عضد الله به الدين، وأمتع بطول بقائه أمير المؤمنين، وأدام قدرته، وأعلى كلمته، الذي ظهرت آياته فبهرت، واستفاضت أوصافه واشتهرت، وطمت بحار كرمه الغامر وزخرت، وتاهت به البسيطة وباهت وفخرت، وتشوقت إلى استيلائه على جميع بلاده، وألقت إليه من مهاجرة ملوكها أفلاذ أكباده؛ فازدحموا على بابه ازدحام الحسنات في أفعاله، ونال كل منهم من شرف الحباء ما لم يخطر قط على باله، فعادوا شاكرين لدهرهم، راضين عن زمانهم، وصاروا متفقين في ولائه مع اختلاف ألسنتهم وألوانهم، وما عرف الدهر محمودا إلا في جنابه المريع وظله الوارف، ولا علم اتفاق بنيه إلا في أيامه التي شملت بضروب العوارف فعلت بذلك أطواد الخلافة العلوية وسمت، وانقطعت عنها مواد الطغاة ببركته وانحسمت، وتهللت الملة الحنيفية بيمن كفالته العزيزة وابتسمت، وتشعبت الخواطر في صفات مناقبه وتوزعت وتقسمت. فلله هو من ملك أحيا من الآمال رفاتا رميما، وأبرأ من الأحوال عليلا سقيما:
وبدا الزمان به أغر محجلا ... ولقد عهدناه أغر بهيما
1 / 17
وأتى يحيط بجلاله وصف وقد عم عدله الآفاق، فساوى بين البعيد والقريب، وتأرجت الأرض بالثناء عليه فكاد النسيم يتضرع بالطيب، وحاز العزة الباذخة التي استحقها وراثة وإلهامًا، واستولى على الرتبة الشامخة التي يتعاظمها كل ملك ويتحامى:
فعلت فما يسمو إليها مرتق ... وغلت فلست ترى لها مبتاعا
فمهابته مقابلة العظمة بالخشوع والسجود، ومخافته محرمة على الأجفان لذيذ الهجوع والهجود، وفواضله الوسيعة قد طبقت جميع الأرض من السهول والنجود، وخلائقه الشريفة مزرية بالجوهر الفاخر والروض الممطور المجود، فلا سبيل إلى استيعاب أوصافه الباهرة واستقصائها، كما لا مطمع في عد كواكب السماء وإحصائها. على أن مفاخره أعلى من النجوم محلا، وأكثر منها عددا، ومكارمه أوسع من البحار الزاخرة مدى، وأغزر منها مددا، ولا اختلاف بين ذوي الفهم والتصور، ولا ارتياب عند أولي التأمل والتدبر أن الله تعالى اصطفاه ليملكه الأرض وحده، وأن ذلك مما لا يستطيع أحد إنكاره ولا جحده، لما أوتيه من القوى اللاهوتية، ومنحه من الخصائص الملكوتية. والله ﷿ يقضي بدوام سلطانه القاهر وخلوده، ويملأ آفاق الدنيا بجيوشه المنصورة وجنوده، حتى لا تبقى أمة من الأمم إلا وقد ذلت منه لمسترقها ومالكها، لا بقعة من الأرض إلا وقد وسمت بحوافر خيوله وسنابكها؛ ليستهم النعمة به كافة الخلق وجميع البرية، ويعلم الكافة من شريف سيرته ما لا عهد لهم بمثله في الطباع البشرية، وهو بكرمه يرفع هذا الدعاء الذي يصعد إليه ويترقى، ويجعل هذا الابتهال مستقبلا بالإجابة متلقي، ويسهل بذلك نفاذ الأقضية والأقدار، ويعجل المصلحة بتيسيره لأهل هذه الدار. بفضله وطوله وقدرته وحوله.
ولما كانت خدمة مقامه الأكرم من أنواع العبادة وأسباب الطاعة، والتوفر عليها كفريضة الحج الواجبة على ذوي القدرة والاستطاعة؛ تعين على كل مملوك أن يعتمد ذلك على حسب إمكانه، ويحرص على أدائه بقلبه ويده ولسانه، واثقًا أن المواقف الشريفة تقبل جهد المقل في خدمتها، والمقامات الكريمة ترضى قدرة المستطيع وإن قلت في مقابلة عظمتها:
ألم ترنا نهدي إلى الله ماله ... وإن كان عنه ذا غنى فهو قابله
فلذلك خدم المملوك بلمعة من الأدب الذي نفقت في أيام مولانا سوقه، وضحت للمتوسلين به سبيله وطريقه، وجعل خدمته مشتملة على أشياء قد عهد فيما يماثلها أن يمال إليه ويصغى، وألف فيما يجانسها أن يحافظ عليه ولا يلغى، وكان اعتماده على البدائع التي ظهرت في دولته كوامنها، وبرزت في مملكته مخبآتها ودفائنها، فإن أورد قديما فلما هو عليه من بديع المعنى وحسن السبك، وأنه مما لم يبتذله الاشتهار كما ابتذلت الرواية: قفا نبك. أو لأن فيما أورده لمحدث شبها له ومثلا، فقصد بذكره أن ينظم للمحاسن عقدا، ويجمع لها شملا، أو لأن المملوك أو من يماثله من المحدثين أغربوا فيما انتقدوه فيه، وتنبهوا منه على ما لم يسبقوا إليه، ولولا ذلك لما عرض له، ولا ألم به؛ إذ كانت خزائن مولانا قد اشتملت عليه عن معاد ذلك ومنقوله والله ﷿ يوفق المملوك لما يحظيه ويزلفه، ويسعده بارتضاء ما يخدم به ويؤلفه بمنه وكرمه.
من المحاسن العصرية في المملكة المصرية
قد خدم مجلس مولانا الملك بغرائب من المدح كان البيان بها ضنينا، وأنتج الدهر له من بدائع القول ما لم يزل ف حشاه جنينا، مما استقرت الخدم به عند حفظتها، وحصلت مصونة تحت أيدي خزنتها، من منثور يتناقل في الآفاق ويتهادى، ويحدث لسامعه طربا لم يكن لمثله معتادا:
وقواف ليست تفارق معنا ... هـ على أنها تجوب البلادا
ولولا ذلك لقصر المملوك هذا الفصل منها على الجوهر الشفاف، وأورد من الصفات الشريفة ما ينسب المفرق فيه إلى التقصير إذا نسب غيره إلى الإسراف. فهو يذكر غررًا لا يتحيز إلى فن مفرد، ويورد متخيرا يعرب عن حسن المطلب وجودة المقصد، ويفتتح ذلك بأحق الأشياء بالتقديم، وأولاها بالتشريف والتعظيم.
قال محمود بن القاضي الموفق في مولانا الملك ثبت الله دولته:
مليك تذل الحادثات لعزه ... يعيد ويبدي والليالي رواغم
فكم كربة يوم النزال تكشفت ... بحملاته وهي الغواشي الغواشم
تداركنا والمكرمات دواثر ... يصم صداها والمعالي معالم
1 / 18
تشيد بناء الحمد والمجد بيضه ... وهن لأساس الهوادي هوادم
إذا صدرت عن مورد الموت خلتها ... بأغمادها وهي العواري العوارم
رقاق الظبى تجري بأرزاق ذا الورى ... وآجالهم فهي القواسي القواسم
وكان أبو طاهر الأطفيجي العابد اقترح عليه أن يقفه على شيء من منظومه. فعمل هذه القصيدة في مدح مولانا - خلد الله ملكه - وقال فيها مخاطبا للعابد:
صحائف أعداها الشباب بصبغة ... فهل أنت ماح ما تخط المآثم
إذا قائم السيف انثنى في ملمة ... ولم يغن أغنى وحده وهو قائم
ولا يعلم المملوك شابا مدح شيخا متعبدا، وحدثا اجتدى ناسكا متزهدا بأحسن من هذا. وإذا كان الناس قد أجلبوا بقول حبيب:
يمدون من أيدٍ عواص عواصمٍ ... تصول بأسيافٍ قواضٍ قواضب
وهو بيت واحد؛ فما الظن بعدة أبيات سالمة من الضعف، بريئة من التسمج في الوصف؛ ألا إن ذلك بسعادة من خدم بها مقامه الأشرف، وإقبال من اتسعت مناقبه فغدا الخاطر يجري في ذكرها ولا يتوقف. وهذا النوع يسمى: التجنيس المركب. وقوم يسمونه: الناقص؛ لأن الحروف الأصلية في إحدى لفظتي التجنيس تنقص عن الأخرى، وقد أراد قوم جمع أقسامه فلم يحيطوا علما بها، وودوا حصر أنواعه لو أمنوا من تفرعها وتشعبها:
ولكنها صوب العقول إذا انجلت ... سحائب منها أعقبت بسحائب
لأن أدباء كل وقت يحدثون من ذلك ما يقترحون له ألقابا، وعلماء كل عصر يولدون فيه ما يقصدون به تعاطيا وإغرابا. فمن مستحسن ما أتوا به تجنيس التنوين، كقوله:
أنا الذي لا ذو هوى ... ولا شجى ولا شجن
لاقى الذي لاقيت من ... محبتي فتى فتن
وفي هذا مناسبة لقول الميكالي:
ليت أجفاني به سعدت ... فترى الطرف الذي فترا
وقول الصقلي:
نهاك أهلك عني ... من أجل أهلِكِ أهلِك
وقول مجبر أحد شعراء المجلس العالي المالكي ثبت الله سلطانه:
غاروا فغار لحيني فيهم قمر ... هويته أفلا أبكي وقد أفلا
والمتقدمون يسمون هذا: تجنيس المماثلة، وقوم يعبرون عنه بتجنيس اللفظ والخط، ويجعلون قول أبى نواس في آل الربيع من أحسنه وهو:
عباس عباسٌ إذا حضر الوغى ... والفضل فضل والربيع ربيع
ويروى: إذا احتدم الوغى، أي اشتد حره.
والمملوك يقول: إن الأمدح أن يكون إذا اشتد الوغى بساما لا عباسا، فإن قصد بعباس رجلا مشهورا بالشجاعة فهو وجه جيد، ويكون من باب قول الآخر:
حتى كأنك يا عليُّ علي
ومن الشجعان المشهورين: عباس بن مرداس السلمي، ورآه عمر بن معدي كرب فقال: أهذا عباس بن مرداس؟ لقد كنا نفرق به صبياننا في الجاهلية. اللهم إلا أن يكون أبو نواس أراد ما جاء في الحديث من قوله ﵇: (ألقوا الكفار بوجوه مكفهرة) أي غلاظ، فهو وجه، فأما قول الأعشى:
إن تسد الحوص فلم تعدهم ... وعامر ساد بني عامر
فمن علماء الشعر من يجعله مجانسة؛ لأن أحدها رجل والآخر قبيلة، ومنهم من يقول بل معناهما واحد؛ لأنه قال: بني عامر، فأضاف البنين إليه، ولو قال: ساد عامرا، يعني القبيلة؛ لكان تجانسا غير مدفوع. وقد سلم ابن سعيد الحلبي من هذا التأويل في قوله:
آل غني ما لناديكم ... قد فقد الطارق والسامرا
وما لهذا البيت من عامر ... لم يبق بيتا للندى عامرا
ومما ولده المحدثون تجنيس التورية، كقول مهيار:
ومدير سيان عيناه والإب ... ريق فتكا وريقه والرحيق
والإبريق هاهنا السيف، وهو من أسمائه. قال أهل اللغة: إذا كان في السيف بريق فهو إبريق. ووجه التورية أنه لما قال: ومدير، ثم ذكر الإبريق حسن أن يعتقد فيه أنه آلة الخمر، ولما كان المعنى على السيف صار موريا عن غرضه بهذه اللفظة المشتركة. وهذا غرور في التجنيس ومثله قوله أيضًا:
فتى لا يريد المجد إلا لنفسه ... ولا المال إلا قسمة ومنائحا
ينازع أزمات الزمان بأنمل ... جوابر للأحوال تسمى جوارحا
فورّى بجوارح ضد جوابر عن الجوارح التي هي الأعضاء، وقصد ههنا الأيدي.
وقول عبد الله بن سعيد:
إذا سكنتم فقلبي زائد القلق ... وإن رقدتم فطرفي دائم الأرق
سرقت بالنوم وصلا من خيالكم ... فصار نومي مقطوعا على السرق
1 / 19
فورّى بقوله: مقطوعا الذي هو حكم السارق عن انقطاع نومه الذي هو ذهابه وعدمه.
وقول مجبر بن محمد:
فسقى محل الجزع من محل به ... غيث تدور على الربى كاساته
سفح سفحت عليه دمعي في ثرى ... كالمسك ضاع من القناة فتاته
فقد ورّى بضاع من الضياع عن ضاع من التضوع. كما قال ابن حيوس:
بمدح إذا ما ضاع في القوم نشره ... فما الند أهل أن يكون له ند
ومن مليح التورية قول عمر بن أبي ربيعة:
أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يمان
يعني الثريا بنت علي بن عبد لاه بن الحارث بن أمية الأصغر، وكانت نهاية في الحسن والجمال، وسهيل بن عبد الله بن عوف، وكان غاية في القبح والدمامة فمثلها بسمييهما، وأراد بعدهما وتفاوت محليهما. وكل هذا من أبيات المعاني.
في الإشارة إلى مدائح مولانا وفضائله وما ازدانت به الأرض من قصوره ومنازله
لما كان مولانا الملك - خلد الله ملكه - آية الله التي أبداها لعباده وأظهرها، ورحمته التي بعثها على بلاده ونشرها، ومعجزته الموضحة مستور الحكمة ومكنونها، وسريرته المستودعة من غامض علمه ما جعل كل آية دونها؛ فكأن البسيطة ما سطحت إلا لتجول فيها عساكره، وكأن البرية ما خلقت إلا لتنفذ فيها أوامره؛ وجب أن لا تخلو الدنيا من آثاره التي تمجيدها حتم، وتعظيمها فرض، وأن يدوم على هذه الخليقة بهاء المباهاة بها ما دامت السموات والأرض. وهذه الآثار التي انبعث شعاعها من فلك مملكته، وانبسطت أنوارها في آفاق دولته تنقسم إلى قسمين: أحدهما ما يتميز السمع بشريف ذكره، ويتشنف بنفيس جوهره وثمين دره، وهو الإخبار عن غامر عدله، والإبانة عن شامل فضله، والوصف لمواقفه التي كشفت الأعداء فيها وثباته، الذكر لسيرته التي بهر البشر تماديه عليها وثباته. وجميع هذه المناقب قد ثبت في اللوح المحفوظ، وتداولته الألسن فكله من الملفوظ غير الملفوظ، فما تترقى همة الإخلال إلى دراسته وتلاوته، ولا تتسلط السآمة على عذوبته في الأفواه وحلاوته، فقد أمن راويه من تطرق النسيان عليه والسهو، ونال من فضيلة إيراده ما أقام عذره في الخيلاء والزهو. والقسم الثاني ما وقع على حسنه الإجماع، وتنافست الأبصار فيه والأسماع، واكتست به الدنيا أفخر زينة، واستخف الافتتان ببهجته الألباب الرزينة، من المباني التي غدت على صدر الأرض وشاحًا، وأظهرت في محياها غررًا وأوضاحًا، وألبست جيدها عقدًا، ومفرقها تاجًا، واستوقفت الأبصار على بدائعها فلم تستطع عنها معاجا. وهذه موهبة قد جمعت بين فضيلتي ملوك العرب والعجم، واختص مولانا من شرفها بما لم ينله أحد في سالف الأمم، وذلك أن المحافظة على بقاء الذكر أمر قسمه الله بين أنبيائه الذين بعثهم وأرسلهم، وبين ملوك أرضه الذين اصطفاهم تعالى وفضلهم. أما الأنبياء فذكرهم باق ببقاء مللهم، وأما الملوك فبما اقتضته أحوالهم في ممالكهم ودولهم. فملوك العرب يعتمدون على تدوين مآثرهم بالفصاحة والبيان، وملوك العجم يعولون على إتقان العمارة وتشييد البنيان. وكل يعتقد أنه قد احتاط للذكر بما يضمن بقاءه سرمدا، ويجعل تناقله أمرا دائما لا ينتهي إلى مدى. ومولانا - خلد الله ملكه - فقد حاز ما لم يحرزه أحد من النوعين، وجمع منهما ما يبقى على الأبد لذة للسمع وقرة للعين؛ لأنه قد خدم من النظم والنثر بما لم يفز بمثله مخلوق، واستكثر من سمة الأرض بمنازله التي لكل منها من أنواره عيوق. وقد اشتملت بغير شك على المحاسن الملوكية، والصور الأرضية والفلكية، وحوت الغرائب من اجتماع الحيوان المتضاد من غير عدوى، والتسوية بينه في أهب الذهب تبرعا بالعطاء والجدوى، وأنى يكون اعتداء في أعمال مملكته فضلا عن قصوره، أو اجتراء لأحد بحضرته؟ والمهابة تقضي بعجزه عن ذلك وقصوره، وقد وصفها شعراء مجلسه العالي فيما صنعوه، وتنوعوا في ذكر ما خدموا به من ذلك ورفعوه، وعمل منه ما لم يشمله شرف العرض بالمقام العالي، ثبت الله سلطانه. فمما يرويه المملوك من ذلك قول محمود القاضي الموفق، ووصف التاج:
إن البسيطة قد أعدت شبابها ... حتى بدت وكأنها لم تهرم
لما غدت بك معصرًا ألبستها ... تاجا ترصعه سعود الأنجم
1 / 20