فأما من تدبر بعقله الأمور، وتبع ما يأمر به عقله وشرعه، وسلك فى طرقهما ومذاهبهما، فهو الفاضل الأديب، وهو الإنسان بالحقيقة.
ولما اختلفت طبائع الناس لاختلاف أمزجتهم، احتاج العقل أن يضع لكل ما خالف الأمر المعتدل ما يرده إلى الاعتدال. وما يضعه العقل من ذلك هو على ضربين، أحدهما تعليم ما عدل أخلاق النفس، والآخر ما عدل مزاج البدن. فأما تعليم ما عدل أخلاق النفس، وأكسبها الفضائل، وهداها سبل الحق، لتزهد بذلك فيما يأمرها به الطبع من اتباع اللذات المؤدية بها إلى سبل الشر والرذائل، فهو التعليم العقلى، والتأديب الذى به ينتقل الإنسان من الأخلاق البهيمية إلى الأخلاق الشريفة النفسانية. وهذا المكتسب من التأديب، إذا رسخ وثبت فى النفس الإنسانية بالعادات التى يوجد الإنسان بها منذ صبائه، والتأديب الذى يؤدبه أهل الآداب، يسميه القدماء عقلا مكتسبا، ومنزلته من العقل الكلى منزلة شعاع الشمس من الشمس. فكما أن بضياء الشمس يستنير الهواء، وبوقوعه على المحسوسات تدركها الحواس، كذلك بما للنفس من ضياء العقل الكلى تقبل التأديب، وتتصور ما يصور لها، فيظهر نورها ونهارها. وكلما زاد نورها، استمرت من العقل نورا تستضئ به وتفتش عن الفضائل والعلوم، فيكون بذلك الإنسان عالما أديبا، يتبع علمه ويقتدى به.
ومن علم بأن الله تعالى قد خصه بجزء من ذلك، وأقدره على أن ينفع به غيره، فقد وهب له نعمة لا تفسد ولا تبيد. وقد وجب عليه ألا يفتر طرفة عين عن شكر المنعم عليه، وأن يمنح تلك النعمة لمن طلبها، وينعم عليه بإخراجه واستنقاذه من لجج ظلمات الجهل المميت إلى علو نور العلم المحيى. فإن من أدب نفسه، فقد أكسبها حياة دائما. وإلى الله نبتهل فى إحياء نفوسنا بإحسانه، وله نشكر أبدا دائما!
وإذا كان هذا الضرب الأول من تعليم العقل وتأديبه للطبع، فقد ذكرنا منه فيما تقدم جملا مشوقة للأحداث إلى التعليم والتأديب، وسائقة لهم إلى منافعهم فى دنياهم، مدة بقائهم، وفى آخرتهم بعد موتهم، فقد آن لنا أن نذكر الضرب الثانى من التعليم العقلى، وهو المعدل مزاج البدن، والحافظ عليه صحته، ليكون بذلك هذا التعليم تاما، والغرض الذى قصدنا نحوه فى كتابنا هذا كاملا. وأنا أذكر الممكن ذكره من هذه الجمل بطريق قريبة، ومقاصد سهلة، وبألفاظ مألوفة، وعبارة معروفة، ليقرب على محب الأدب والتعليم غرضه، ويسهل عليه مطلبه، وبالله أثق واستعين، فأقول:
Bogga 17