في الوحشة الإيناس، انجمع فامتدت له المعارف، وانخزل فأجزلت له العوارف، وكان متوحشًا من نوعه، نافرًا عن الذي لا يراه في طوعه، يمشي في الجامع كأنه مُريب، وينفر حتى تقول: هذا غريب، لا يأنس بإنسان ولا يتألف بإحسان، من رآه قال: هذا طافح السكرة، لافح الجمرة، سافح العبرة، جامح الخطرة إلى الحضرة، جانح الفكرة إلى الخلاص من العثرة.
ولم يزل على حاله إلى أن دعاه مولاه فأسرع، واخضر له القبر فأمرى وأمرع. وتوفي رحمه الله تعالى في أول ليلة الأربعاء مستهل المحرم، سنة خمس وعشرين وسبع مئة. وحمله الناس على الأعناق والرؤوس والأصابع، ودفن بمقابر باب الصغير، وسبب موته أنه استدفأ بمجمرةٍ فاحترق، ودخل حجاب المنون واخترق، وكان له بيت في المئذنة الشرقية يأوي إليه، وكان كثيرًا ما يقول: يا دائم المعروف، يا دائم المعروف الذي لا ينقطع أبدًا ولا يحصى عددًا، يا الله.
ورثاه الأديب جمال الدين محمد بن نباتة بقوله:
على مثلها فلتهم أعيُننا العبرى ... وتطلق في ميدانها الشهبَ والجمرا
فقدنا بني الدنيا فلما تلفتت ... وجوهُ أمانينا فقدنا بني الأخرى
لفقدك إبراهيم أمست قلوبنا ... مؤججة لا برد في نارها الحرى
وأنت بجنات النعيم مُهنأ ... بما كنت تُبلي في تطلبه العُمرا
1 / 62