ومن ثم ترى أن العامة والصبيان والنساء في كل أمة يكونون - لتغلب العواطف فيهم على العقل وامتلائهم بالشهوات النارية - أشبه شيء بمخازن البارود ومعامل الذخيرة، وهذه المزية العظيمة لا تخفى - بالطبع - على عشاق المعارضة في كل أمة، فهم كالصياد يعرف مسارح الظباء ومسانح المها، وكالمنتجع يهتدي إلى مساقط الغيث ومنابت الكلأ. أقول: إن زعماء المعارضة يعرفون مواضع تلك العناصر الملتهبة والمواد المفرقعة من قلوب العامة والصبيان والنساء، فما هو إلا أن يرسلون عليها شرارات مما تجيش به صدورهم حتى تشتعل فتتأجج.
فإلى زعماء المعارضين اللاعبين بألباب الصبية والنساء والعامة نقول: اتقوا الله في عقول أضعفتها الطبيعة لا تزيدوها ضعفا، واتقوا الله في أحلام خففتها الطبيعة لا تزيدوها خفة وطيشا، وراقبوا الله في عواطف وإحساسات قابلة للإلهاب بفطرتها لا تضرموها على أربابها وعلى البلاد نارا حامية، واخشوا الله أن يراكم تسلون من قلوب أولئك البسطاء سيوف عواطفهم وشهواتهم فتجهزوا بها على ذرة العقل الضئيلة التي تفضلت عليهم بها الطبيعة مما بقي لديها من مادة العقل بعد أن كالت منها كيلا للفضلاء النوابغ، اتقوا الله أن يراكم تطلقون سيول تلك العواطف الجارفة تسلطون طوفانها على تلك الشرارة الكليلة التي منت بها الطبيعة على أدمغة أولئك البسطاء بعدما أشعلت مصابيح الفطنة الوقادة في سماء أذهان الأذكياء الألباء، رفقا بأولئك الضعاف لا تعينوا عليهم الطبيعة القاسية الظالمة بإفسادكم ما جادت به عليهم من النزر الطفيف من مادة الفهم يوم قسمة العقول والبصائر.
وهنا يجدر بنا القول بأن ما يقوم اليوم بين ظهرانينا من تغلب العواطف الثائرة في مجال تبادل الآراء الهادئة، وسيطرة الشهوات الثائرة في مقام إعمال الفكرة الثاقبة والعقل المجرد عن شوائب الأهواء، إنما هو مظهر من مظاهر آبائنا الأول في العصور الغابرة، ونزعة رجعية إلى عصبية ذوي الثارات والعداوات من أجدادنا أهل البيد والفلوات.
إن أهم ميزات الطبقات العليا على السفلى، والخاصة على العامة هي أن الفئة الأولى - لحدة ذهنها وقوة الملكة المنطقية فيها - تستطيع التفكير والكلام في المعنويات كالنظريات والكليات والقواعد والقوانين. بينما الفئة الثانية - لضعف ذهنها وقصور الملكة المنطقية فيها إزاء قوة الحواس والإحساسات - لا تفهم المعنويات، ولا تقوى على ولوج أبوابها وخوض غمارها، فهي لا تلتذ ولا تعنى إلا بما قد كاد يقصر عليه إدراكها من المرئيات والمحسوسات كالأشباح والذوات والأشخاص؛ ولذلك إذا غشيت مجامع العامة ومجالس الصبيان والنساء ألفيت حديثهم قد كاد يقتصر على الأشياء المحسوسة - كوصف المراقص والملاهي، وأماكن الفرجة كالمعارض وحدائق الحيوانات والمطاعم وحوانيت الفواكه والحلوى، إلى الفصول المسهبة الشرح والتفصيل في مسائل اللبس والتفصيل وأصناف الأقمشة والمنسوجات وآلات الزخرف والزينة، إلى ما يماثل ذلك ويجري مجراه من المباحث الاقتصادية في تاريخ المطبخ والكيلار والتاريخ الطبيعي لشتى أصناف الطيور والدواجن، إلى المحاضرات الفلسفية في فنون «الغيات» المختلفة الحمام والخيل وورق البريد والعملة القديمة والسجاجيد والجعارين، وما لا يحصى ولا يعد من أمثال ذلك وأشباهه. ولكن هناك شيئا آخر هو أعلق بأذهان هذه الطبقات، وأروح على قلوبهم، وذلك هو التعرض للأشخاص أنفسهم (لا في متعلقاتهم من مأكل وملبس) والخوض في شخصياتهم وتناول سيرهم قدحا أو مدحا.
أما الكلام في المعنويات وإرسال الذهن الصافي البلوري يسبح في عالم الأفكار والروحانيات، ويغمس أجنحته في ضياء الحقائق، ويقلب المعاني محضة بحتة عارية عن ثياب الأشخاص والمادة والزمان والمكان، فذلك ما لا تستطيعه ولا تعرفه هذه الطبقات من العامة والنساء والصبيان، وإنما هو شأن العلية الفضلاء أولي الفطن والألباب.
ولا يخفى أن هذه الخصلة - أعني تعلق النفس وجولان الذهن في عالم الحس وضعفهما عن خوض عالم المعاني والنظريات - هو من مظاهر الأمم والشعوب غير المتمدينة التي تكاد تنحصر أعمالها ومساعيها في التكافح والتقاتل وشن الغارات بعضهم على بعض؛ لا تزال هذه القبيلة تغزو أختها، وهذه الفصيلة تكتسح جارتها، ثم ترى أفراد كل قبيلة لا هم لهم إذا ضمتهم محافلهم وأنديتهم إلا وصف مواقف أبطالهم في ساحة الوغى، ونعت ما أتوه من آيات النجدة والبطولة، ثم تمجيد الزعيم الأكبر وتقديس ذاته، فأحاديثهم وأفكارهم مقصورة على الأشخاص ومظاهر المادة لا تتعداها إلى عالم المعنويات والمبادئ والقوانين العامة.
ولا تنس ما لا بد أن يصحب هذه الحالة (اقتصار الأفكار والحديث على عالم الحس) من تعرض العواطف والإحساسات؛ بسبب سرعة الانفعال والثورة والهياج - لما هو مفروض في تلك الحالة من ضعف سلطان العقل وضئولته أمام جيش العواطف.
ونحن لا نزال في غدواتنا وروحاتنا نبصر أثر هذه الخصلة العتيقة - أعني الولوع بالأشخاص لمجرد أسباب مادية لا عقلية ولا روحانية، وتقديس أولئك الأشخاص لمجرد تأثيرهم على عواطف مفتونيهم من العامة لا على ملكاتهم العقلية والروحانية، باديا في كل شبر من أراضي بلادنا، وفي كل آن ولحظة من خضوع العامة لرجل قوي البطش فيهم، مرهوب السطوة يسمونه «فتوة». فمن شاء أن يرى أصدق صورة تمثل تاريخ العصور الوسطى - عهد الإقطاعيات أو عهد الفروسية في أوروبا المظلمة، ووقائع «قلب الأسد» و «أورلندو» و«أماديس دي جول» - فليطلع على ما يجري من مظاهر العواطف العمياء، والأنانية الخبيثة في طبقات العامة، مما يدعوهم إلى تمجيد زعمائهم من «الصبوات» و«الفتوات».
وإن تشأ مثالا آخر على هذه المظاهر الممقوتة؛ فتفقد ليلا محافل العامة في قهواتهم حيث تتلى عليهم قصة عنترة وأبي زيد، وانظر في وجوه القوم وحركاتهم مظاهر تلك النزعة الرجعية - نزعة تقديس الزعيم؛ لمجرد قوته العضلية، ومزاياه العدوانية، وفرط تأثيره على عواطف شيعته وأنصاره - بل انظر إليهم كيف ينقسمون شيعا وأحزابا حسب ميولهم الغريزية للأشخاص الخرافية المسرودة عليهم أقاصيصها - كل فريق يتعصب لزعيم دون الآخرين - وكيف في سبيل انتصار كل لزعيمه الخرافي وتشيعه له يتهيج ويثور، وربما وثب على مناظريه من أنصار الزعماء الآخرين، واستطال عليهم بالسب وأحيانا بالضرب. فهكذا يبلغ من حدة العواطف البشرية، وغلواء سورتها حتى في حين تأثرها بالعوامل الخيالية الوهمية المستمدة من عالم القصص والخرافة، فما بالك بفرط سطوة هذه العواطف وطغيانها إذ تسلطت عليها عوامل فعلية واقعية من عالم الحس والحقيقة؟
هذا هو الحاصل بيننا اليوم، وذلك هو شأن المعارضين ومن شايعهم وتابعهم، وإلا فكيف كان يمكن ويتأتى أن ينكروا المحسوس والملموس، ويماروا في الحق الصراح، ويلوموا غير ملوم، ويذموا غير مذموم، ويرتعوا سائمة الهجاء في غير مرتع، ويشرعوا صادية القدح في غير مشرع؟ وكيف - لولا هذه الحال التي شرحناها - كان يهون عليهم ما يحاولون إتيانه من تفريق ذات البين، وتبديد الصفوف، وتمزيق الوحدة، وفك الأواصر؟
Bog aan la aqoon