أو كما انقض كوكب أو كما طا
رت من البرق شقة في غمام
والناس يعجبون له كيف لم تستثر هذه العوامل المهيجة عواطفه التي تخال كأنها الصخور الصم أو الهضاب الشم، بل يكاد يخيل إليهم أن مثل هذا الإنسان ربما كان بلا عواطف، والواقع أنه ما دام يهيم في أثر الحق فهو عديم العواطف إلا عاطفة الهيام بشخص الحقيقة، فأما عواطف الاستياء والغيظ والتألم من المطاعن والمقاذف ومضيض الهجاء والقذع، وعواطف الأحقاد والأضغان والتعصب والتشيع، فهذا ما ليس له محل في صدر ذلك الرجل الذي أفعم قلبه حب الحقيقة إفعاما لم يدع مجالا لأية عاطفة أخرى. فإذا كانت العواطف والشهوات الأنانية هي مقياس إنسانية الرجل ومسبار بشريته فإنه يصح لنا أن نخرج مثل هذا الرجل من عداد البشر، ونجرده من الإنسانية فنسميه أي شيء إلا إنسانا، والواقع أنه أشبه ببعض الآلات والمكينات (كآلة الإحصاء مثلا التي تمر خلال جملة عمليات حسابية بغاية الضبط والدقة - وبلا أدنى شعور أو تأثر بما يحيط بها من المؤثرات الجوية والعوامل الكونية - إلى نتيجة مضبوطة لا تقبل تغييرا ولا تبديلا) منه بأبناء البشر.
نقول: إن الوطنية في مثل هذا الرجل لا يخشى عليها من بوادر الأهواء والشهوات وآفات التحيز والتعصب - أعني من مظاهر الأنانية - فوطنية هذا الإنسان خليقة أن تعد وطنية محضة صريحة نزيهة نقية، منطوية على عناصر الخير وعوامل النجاح، مضمونا لها إدراك البغية وبلوغ الغاية.
فهل وطنية إخواننا المعارضين هي من صنف تلك الوطنية المحايدة المجردة من المادة البشرية والعناصر الإنسانية، أعني من العواطف والشهوات؟ هل وطنية المعارضين هي من قبيل تلك الآلة الحسابية المركبة على مكينة العقل المجرد ودينامو الفكر المحض؟ هل وطنية المعارضين هي تلك الآلة العقلية المتحركة الفعالة في صفاء الفكر البحت وأثير الرأي الخالص في جو صاف نقي الأديم من كل شائبة للشخصيات والميول الذاتية؟ هل وطنية المعارضين كذلك أم هي أشبه الأشياء «بالفانوس السحري» يجلو على ناظرك وسط الظلام معرضا مستمرا من الصور والأشباح يحاول مديره أن يدهشك بصورة هذا البطل، وشكل هذا الهمام؟ أم هي (أعني وطنية المعارضين) أشبه شيء بداخل المعبد أو الكنيسة كل جدرانها مزدان بالتصاوير والتهاويل والدمى والتماثيل، وأنت بين هذه الأنصاب والأصنام لا يسمح لك أن تبدي رأيا أو تجهر بفكرة، وما كان لك أن تحاول قط ذلك، ولا أن تظن أن لك فكرا أو عقلا، بل كل ما يجب عليك اعتقاده أنك لم تقم ولم توجد بين هذا الجمع المحتشد من القديسين والشهداء والملائكة والعذارى إلا لتسبح وتحمد وتبتهل وتتضرع وتخر ساجدا لهاتيك الآلهة على عروشها.
لو كانت وطنية المعارضين هي من صنف وطنية العقل الهادئة المحايدة المحضة المجردة من نزعات العواطف، ونزعات الشهوات الذاتية، والميل إلى الشخصيات، والتشيع للأشخاص لما كانت - كما شاهدنا مرارا وتكرارا - عرضة في كل آن ولحظة لأن تغتاظ وتغضب بتأثير الأهواء والغايات، وتثور وتتهيج بعوامل الحب والبغض والحقد والضغينة مما صير اهتمامها بالهنات الشخصية أشد منه بالمسائل السياسية، واكتراثها للذاتيات الخصوصية أعظم منه لأمهات المسائل العمومية، ولقد أثبت العلم والفلسفة أنه إذا ضعف سلطان العقل على العواطف أصبح تأثر الإنسان بالمسائل الشخصية - مما يمس شعوره الذاتي، وما يتصل مباشرة بشهواته وأغراضه - أشد ألف مرة من تأثره بالمسائل القومية والشئون السياسية، ومن ثم ترى الرجل الذي لا بأس في وطنيته وإخلاصه لبلاده ربما أغضى عن الكلمة يكون فيها مساس عظيم بحقوق وطنه، ولكنه لا يغضي على اللفظة يكون فيها أدنى مساس بشعوره الذاتي وإحساسه الشخصي، وترى عين هذا الرجل ربما سمع الطعن في مذهب حزبه وشيعته فيحتمله هادئا وادعا مبتسما، فإذا ما وجه إلى شخصه أقل مسبة ثار ثائره فأرغى وأزبد، ثم أبرق وأرعد، وانطلق لسانه بالسب واللعن يصب على رأس شاتمه صواعق غضبه وحنقه، وربما سبقت يده إلى ذلك المعتدي باللطمة أو اللكمة؛ بل بالخنجر أو المسدس.
اشتد اختلاف الناس في أي الأشياء أندر وأعز وجودا في هذا الكون العظيم؟ وأنا أقول وأؤكد أن أعز الأشياء وأندرها في هذا الوجود هو العقل القوي المتغلب على سلطة العواطف، واعتقادي ويقيني أن مقابل كل ألف فرد ممن تتغلب فيهم العاطفة على العقل في هذا العالم يوجد فرد واحد يغلب العقل على العاطفة ويحكم الملكة المنطقية في نزعات الشعور ونزواته، وليس هذا مجال الإطالة والإفاضة في ذلك المبحث العميق الذي عقدت له الفصول المسهبة في كتب الفلسفة وعلم النفس، ولكنا نورد النظرية عارية عن الشروح والحواشي احتجاجا لقولنا ليس إلا. نقول: لا عجب فيما نراه من ندرة العقل القوي إزاء تفشي العواطف في العالم، واستفاضة الإحساسات والشهوات في كل ذرة منه فتلك حكمة الخالق، وسنة الطبيعة، والقاعدة المشيد عليها نظام هذه الحياة الأرضية التي لا أظنها في جوهرها وعنصرها غاية في الرقي والسمو، ولا آية في التهذيب والنقاء والطهر، والتي أنا أميل إلى موافقة «شوبنهور» في وصفها بأنها شر ما يمكن أن يكون من أصناف الحياة، مني إلى مطابقة «ليبنز» في نعتها بأنها أحسن ما يمكن وجوده من العوالم والدنا، وسواء كان الحق في جانب «شوبنهور» أو في جانب «ليبزيك» فلا مقال الأول ولا تصريح الثاني بمغير مثقال ذرة من نظام الدنيا، ولا بمبدل من شيمة هذه الحياة الأرضية وخلقها، ولا بناف هذه الحقيقة المرة الأليمة، وهي أن العقل ما زال ولن يزال - بحكم ناموس الحياة وتركيبها وفطرتها - أندر الأشياء فيها، كما أن العواطف والشهوات ما زالت ولن تزال أكثر الأشياء كمية وأشدها تفشيا وانتشارا، وأن هذا الناموس الأزلي (وليس لنا معشر البشر العجزة الضعاف أن نعارض فيه ونطاعن - وماذا تجدي المطاعنة والمعارضة - بل كل ما علينا هو أن نتقبله على علاته ونستثمره جهد طاقتنا) هو مصدر ما تنطوي عليه الدنيا من الظلم والطغيان والشرور والمصائب والشقاء والبؤس؛ بالدليل الواضح البين وهو أن العواطف والشهوات هي بطبيعتها سفلية جهنمية، ومنها يتكون الجزء الدنس القذر الخبيث من هيكل الحياة (وهو الجزء الأعظم)، كما أن العقل هو بطبيعته سماوي إلهي، ومنه يتكون الجزء الطاهر النقي من هيكل الحياة (وهو الجزء الأصغر)، وهو توزيع قد رأته القدرة الإلهية مناسبا لنظام هذه الحياة الأرضية التي لم يرد الله - سبحانه وتعالى - أن تكون فردوسا أو ملكوتا أعلى أو مقام قديسين وأبرار، بل أرادها أن تكون (كما أنبأتنا الكتب السماوية) دار توبة وندامة وتكفير عن جناية أبوينا الخاطئين في دار الخلد - أو بالاختصار أرادها الله أن تكون سجنا أو بعبارة أخف وألطف، إصلاحية أو مستشفى، فأما الجنة دار المكافأة والجزاء ومقام الأبرار والشهداء والقديسين - فما أظن أن الخالق سيبني نظامها على قاعدة هذا التوزيع المحزن - ندرة العقل وغلبة العواطف المتسلطة بجيوش الأحقاد والضغائن - بدليل قوله - سبحانه وتعالى - في وصف أهل الجنة:
ونزعنا ما في صدورهم من غل .
نقول كذلك مذهب القدرة الإلهية في خلقة هذا الوجود، بينما تراها كأبخل البخلاء في هبة العقل كأنها تجود به من خرت إبرة إذا بها كأسخى الأسخياء في هبة الشهوات والعواطف تسح بها سحا وتهطل هطلا؛ فهي كلما جادت على هذا الكوكب الأرضي بمثقال ذرة من العقل جادت مقابل ذلك بمليون قنطار من العواطف - عطية مشتركة بين الإنسان وسائر ضروب الوحش والبهيم والحيوان من أعلى درجات سلم الحياة إلى أدناها - على حين أن العقل القوي المسيطر على العواطف لا تهبه الطبيعة إلا لأسمى طبقات الإنسان - أعني الإنسان المفكر - هذا المخلوق البديع السامي نادر جدا بالنسبة إلى ما يملأ فضاء الله ويتشاحن فيه ويتطاحن ويتنافر ويتناحر ويتصايح ويتعاوى من مختلف ضروب الوحش والحيوان، وفي مقدمتها (أو في مؤخرتها وهو الأصدق) ذلك الوحش الساعي على قدمين المسمى إنسانا، أعني الإنسان الاعتيادي الخاضع لسلطان الشهوات والعواطف الذي منه تتكون المجاميع والجماهير والعامة والسواد الأعظم من بني البشر.
وليس يخفى على ذي لب أن المسائل السياسية والاجتماعية حتى أبينها وأبسطها - هي وإن خيل للبسطاء السذج أنها سهلة الفهم والإدراك قريبة المأخذ والاستيعاب لا يحتاج بحثها وفحصها لكبير عقل أو ثاقب فطنة - لهي في الحقيقة والواقع صعبة عويصة وعرة المسلك لا يستطيع أن يحيط بها ويستجلي غوامضها إلا أولو الفطن والألباب، وإنما هو الغرور والتبجح والدعوى التي توهم السذج البسطاء من الجماهير والعامة أنهم قادرون على فحص وتمحيص هذه المسائل الصعبة، وأنهم هم أيضا لهم الحق في مشاركة أولي الألباب في تناول تلك المسائل وإبداء الرأي عنها والبت فيها، وإذا كان هذا هو موقف الإنسان العادي من المسائل السياسية والاجتماعية، وهذا هو مبلغ ضعف عقله وقصور ذهنه عن فهم ماهيتها وإدراك دقائقها وغوامضها في حالته الطبيعية - أي في حالة هدوء عواطفه وعدم اهتياج إحساساته وشهواته - فما بالك بمقدار عجز ذلك الذهن وقصوره إذا زدته ضعفا باستثارتك عواطف الرجل وشهواته وتسليطها على ذلك الذهن الضعيف من أصله.
Bog aan la aqoon