هذه كلمة حق، ونفثة صدق أرفعها إليك يا صاحب الدولة في عزلتك السياسية، أعبر بها عما يضمره لك ويعلنه من آيات الحب والولاء أهل وطنك أجمعين الذين لم يبق فيهم - بعد موقفك المشهور ومقام دفاعك المأثور في قضيتهم المقدسة - غامط لحقك العظيم، منكر لفضلك العميم، إلا جاحد عريق في الجحود، يحمل مكان قلبه أصم جلمود، سقيم الطبع، مريض الذوق، ينكر من علة ضوء الصباح، ومن آفة حلاوة العذب القراح، وما أحسب أن مثل هذا المخلوق يوجد بين مجموع الشعب حماه الله من أمثاله، وصان أديمه النقي من وصمة خلاله، وما أراني بعد يا صاحب الدولة قادرا على الوفاء لك بواجب الشكر، وليس يفي لك بهذا إلا صلوات المليك في السور.
نرجع إلى ما كنا فيه من أمر انقسام الأمة في الرأي والمذهب إلى قسمين إزاء تصريح إنكلترا العظيم الشأن بإلغاء الحماية، والاعتراف لمصر باستقلالها التام، وأن تكون ذات سيادة في الداخل وفي الخارج، وذات برلمان ووزارة مسئولة أمام البرلمان، وحصر الخلاف بين المملكتين في النقط الأربع المعروفة، وإعطاء الحق لمصر في بدئها مفاوضات مستقبلة تدخل فيها مع إنكلترا - مزودة بسلاح الاستقلال، مطلقة من قيد الحماية - لكي تسوي مع بريطانيا في تلك المفاوضات المقبلة قضية بلادها التسوية التامة، وكل هذه المغانم والأرباح والمزايا نالتها مصر دون أن تدفع فيها ثمنا من تقيد أو تعهد أيا كان.
نقول: إزاء هذا الحادث الجليل انقسمت الأمة من حيث الرأي والمذهب إلى فريقين؛ فريق التيمن والتفاؤل، وفريق التطير والتشاؤم، وقد ذكرنا أن هذا الأخير قد بنى تشاؤمه على ما يزعمه من سوء عقيدته في بريطانيا وجرأتها على خفر الذمم ونقض العهود وإخلاف العهود، وقد حاولنا في الصفحات السابقة أن نثبت لهذا الفريق أن إنكلترا اليوم هي غير إنكلترا الأمس، وأن تعدد الثورات والاضطرابات أثناء السنوات الأخيرة في ولاياتها ومستعمراتها قد أثبت لها بأنصع البراهين والأدلة؛ أن الأمم والشعوب ليست أشباحا ولا تماثيل تتصرف فيها كيفما شاءت وشاء لها روح الاستبداد والمطامع الاستعمارية، ولكنها نفوس وأرواح كأخواتها ساكنات البلدان الغربية والممالك الأوروبية مستمدة مثلها من روح الله وينبوع القوة الأزلية، وأنها بذور الله قد غرسها في أرضه منطوية على جوهر الحياة وعناصر النمو والتفرع والسمو في جو الله إلى حيث تنسم في الفضاء الرحب أنفاس الله - أعني نسمات الحرية والاستقلال - وأنها كسائر البذور والأغراس لا بد أن تزكو وتكبر وتبلغ غاية نضجها، وتسمو إلى درجة الارتفاع المقدرة لها أزليا بسنة الطبيعة السارية وحكمها النافذ، وبحكم ما انطوت عليه من عوامل الإنبات والنمو والارتفاع، وعلى حسب نصيبها من تلك العوامل. أجل، لا بد لها - باعتبارها بذورا غرست في أرض الله - أن تنمو وتسمو، أو تذبل وتعفن لتستأصل أو تنشر من أجداثها وتعود إلى حياة ثانية وسيرة جديدة - على حسب ما يكمن فيها من عناصر القوة أو الضعف، ومن عوامل الرقي أو الانحطاط - هذا أو ذاك لا بد أن تفعله تلك البذور والأغراس (أو تلك الأمم والشعوب) بحكم النواميس الزمنية، والقوانين الكونية سواء أرادت بريطانيا أو لم ترد، وسواء سرها ذلك أو ساءها. هذه إرادة الطبيعة التي تأبى إلا تنفيذ إرادتها أحبت بريطانيا أو كرهت، ورضيت بريطانيا أو رفضت، كأنما بريطانيا - بأساطيلها ومدافعها وورشها ومعاملها وولاياتها ومستعمراتها - شيء تافه حقير في نظر الطبيعة، أو كأنها ليست موجودة، ولم توجد ولم تكن.
حاولنا في الصفحات السابقة أن نثبت لفريق التطير والتشاؤم - المعدوم الثقة في بريطانيا، المملوء رعبا ووجلا من ألاعيبها وخدعها - أن بريطانيا قد آمنت بحقيقة تطور الأمم الشرقية، وصدق نيتها على المضاء في سبيل الجهاد لإحراز حقوقها المسلوبة مهما كلفها ذلك. حاولنا أن نثبت لهذا الفريق أن الحرب الكبرى قد خلقت في العالم جوا اجتماعيا جديدا، مملوءا بعوامل جديدة كان من شأنها أن أبرزت في سطور من النور والنار تلك المبادئ التي حسبها العالم جديدة - وإنها لقديمة قدم الدهر والطبيعة ذاتها - والتي كان قد حجب سطورها - كثيرا أو قليلا - ما كان قد ركبها من غبار الفتور والتواني وحب الدعة والراحة والتراخي، أعني تلك المبادئ التي راجت وسادت بعد الهدنة كالقول بتحرير الشعوب وتفويض الأمم في حكم ذاتها وتقرير مصيرها.
حاولنا أن نثبت لهذا الفريق أن الحرب الكبرى خلقت هذا الجو الجديد المملوء بهذه المبادئ الجديدة القديمة، وأن هذا الجو وهذه المبادئ قد نبهت من همم الأمم والشعوب المظلومة، وشحذت من عزماتها، واستحثت ما يكمن فيها من حركة التطور الطبيعي والنمو الغريزي، فكان ما كان مما شاهده العالم، وأربك بريطانيا وأزعج خاطرها من تلك الثورات والاضطرابات في ولاياتها ومستعمراتها وتوابعها المختلفة.
حاولنا أن نثبت لهذا الفريق أنا - كبعض تلك الشعوب التي هبت في وجه بريطانيا تطالبها برد حقوقها المسلوبة - قد صدمنا بريطانيا ثلاث صدمات عنيفة: «حركة عام 1919»، و«مقاطعة لجنة ملنر»، و«قطع الوفد الرسمي للمفاوضات»، أيقظنا بها بريطانيا من غفلتها أو تغافلها، وزعزعنا بها أساس طمأنينتها وهدوئها، وأرجفنا بها قلبها، وبدلناها بالأمن حذرا، وبالاستهانة استعظاما، وبالوقار خفة، وبالاطمئنان وجلا.
وبذلك استطعنا أن نثبت لهذا الفريق أن إنكلترا اليوم ليست إنكلترا الأمس، وأنه باعتبارها أمة تفهم وتعقل، وتعرف الخير من الشر والتمر من الجمر، وتشارك سائر خلق الله - حتى الأطفال والحيوانات - في الغريزة المشترك فيها كل الخلائق، والتي عليها مدار الحياة ونظام الكون، والتي لولاها ما حملت قدم جسما ولا احتوى جسم روحا - أعني غريزة النفور من الأذى والهروب منه إلى الخير - نقول إنه باعتبار بريطانيا هكذا، وبالنظر إليها في هذه الصورة الطبيعية الحقيقية - بالعين المجردة عن الأهواء، المتتبعة مهابط الحق ومواقع آثاره أين كان وكيفما كان - لا يسعنا إلا أن نراها قد غيرت من سياستها وبدلت من خطتها، وأنها قد وقفت اليوم لنا موقفا خلاف موقفها بالأمس (لا يمكن أن يكون أسوأ من الموقف السالف، بل أحسن بلا نزاع وأفضل). ولما كنا نحن المصريين الذين استطعنا بقوتنا وحكمتنا أن نغير موقف بريطانيا معنا، ونحوله عن حالة إلى أحسن منها - ولو قليلا - فليس يستحيل علينا ولا يتعذر ولا يبعد - بفضل اتحادنا وتضافرنا على الجهاد المستمر الدائب - أن نزحزحها شيئا فشيئا إلى مواقف أخرى أحسن لنا فأحسن؛ حتى نقفها أخيرا عند حدها، ونقيمها في مشعب الحق، ومقطع السداد والصواب، ومفصل الإنصاف والعدالة، وحينئذ نبلغ المراد وننال الغاية.
على أننا لو سلمنا جدلا بوجوب إساءة النية ببريطانيا، فأي ضرر علينا في قبول «إعلان إلغاء الحماية والاعتراف بالاستقلال التام»؟ في قبول منحة الله لنا، بل منحة كدنا واجتهادنا، وثمرة ما بذرناه في مزرعة الجهاد من بذور هي عرق جباهنا، ودفع دمائنا وأفلاذ أكبادنا. أي ضرر علينا في قبول هذه الهبة الإلهية والانتفاع بها جهد طاقتنا، وبقدر ما فيها من خير وبركة؟ أي ضرر علينا في اتخاذها عمادا لنا ودرعا وسلاحا نضيفه إلى ما لدينا من الأسلحة؛ ليكون ذلك أقوى لنا على مناهضة الخصم ومغالبته؟
أليس الأجدر بنا والأضمن لخيرنا وفلاحنا أن ننظر إلى هذا الاستقلال في أول أدواره كباكورة أعمالنا المجيدة وبادرة مجهوداتنا الشديدة، وأنه مولود نهضتنا العظيمة الذي ما برح يتكون في أحشائها أزمان الحمل العسيرة، وأنه نتاج وطنيتنا المقدسة التي جعلت تتمخض عنه تمخض البحر عن دره ومرجانه، والكنز عن تبره وعقيانه حتى إذا ألقى به الحظ في حجورنا ذخرا نفيسا ، وثمرة مباركة كان من أوجب الواجب علينا أن نبتهل لله شكرا، ونرحب به ونهلل تحية لطلعته، واستبشارا بغرته قائلين مع الشاعر:
يمن الله طلعة المولود
Bog aan la aqoon