A Commentary on Jami` at-Tirmidhi - Al-Rajhi
شرح جامع الترمذي - الراجحي
Noocyada
شرح جامع الترمذي_المقدمة
يعد علم الحديث من أجل العلوم وأنبلها، وذلك لما له من أهمية في معرفة أحوال وحياة النبي ﷺ، ولما له من حاجة في حياة وشؤون الناس، وقد أفرده العلماء رحمهم الله تعالى بالتأليف والتصنيف، وذلك خدمة لسنة نبينا محمد ﷺ، وحتى يتسنى للناس الاقتداء بنبيهم في كل أمر.
1 / 1
مقدمة المباركفوري على شرح جامع الترمذي
1 / 2
حد علم الحديث وموضوعه وغايته
هذه المقدمة من المباركفوري شارح سنن الترمذي ﵀.
قال رحمه الله تعالى: [الحمد لله الذي شرح صدور أصفيائه بعلوم كلامه المعجز القديم، وعرف أولياءه بمعارف كتابه المهيمن الكريم، وروح أرواح أهل وداده بفوحات عرف ذكره الحكيم.
والصلاة والسلام على رسوله الذي بين للناس ما نزل إليهم وهداهم إلى الصراط المستقيم، وعلى آله وأصحابه الذين هم كالنجوم في نقل أموره وأيامه وسننه وتبليغ دينه القويم.
أما بعد: فهذه فوائد مهمة فريدة، ومباحث جمة مفيدة، ومعارف رائقة عجيبة، وعوارف رائعة غريبة، وتحقيقات بديعة لطيفة، وأبحاث نفيسة شريفة، لا يستغني عنها كل من يشتغل بعلم الحديث وكتبه، بل لا بد منها لمن يشتغل بالجامع الصحيح للإمام الهمام: أبي عيسى الترمذي ﵀، جمعها وحررها إمام العصر، مسند الوقت، شيخ المعارف وإمامها، ومن في يديه زمامها، المحقق المحدث الفقيه الأجل، الشيخ أبو العلاء محمد بن عبد الرحمن المباركفوري طيب الله ثراه، وجعل الجنة مثواه، صنفها وجعلها مقدمة لشرحه تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي، وهي مشتملة على بابين: الباب الأول: في فوائد متعلقة بعلم الحديث وأهله وكتبه عمومًا.
الباب الثاني: في فوائد متعلقة بالإمام الترمذي وجامعه خصوصًا، تقبلها الله ونفع بها المسلمين.
قال: بسم الله الرحمن الرحيم الباب الأول: فيما يتعلق بعلم الحديث وكتبه وأهله عمومًا، وفيه أحد وأربعون فصلًا: الفصل الأول: في حد علم الحديث وموضوعه وغايته، قال الكرماني في شرح البخاري: اعلم أن علم الحديث موضوعه: هو ذات رسول الله ﷺ من حيث إنه رسول الله ﷺ.
وحده: هو علم يعرف به أقوال رسول الله ﷺ وأفعاله وأحواله.
وغايته: هو الفوز بسعادة الدارين.
قال السيوطي: هذا الحد مع شموله لعلم الاستنباط غير محرر، ولم يزل شيخنا العلامة محيي الدين الكافيجي يتعجب من قوله: إن موضوع علم الحديث: ذات الرسول.
ويقول: هذا موضوع الطب لا موضوع الحديث، كذا في التدريب.
قلت: والعجب كل العجب من الكافيجي كيف أنه تعجب من قول الكرماني: إن موضوع علم الحديث: ذات الرسول.
وكيف قال: إن هذا موضوع الطب لا موضوع الحديث؟! ألم يعلم أن موضوع الطب هو بدن الإنسان من حيث الصحة والمرض، لا ذات رسول الله ﷺ، فإن قال: إن ذات رسول الله ﷺ من أفراد بدن الإنسان، فبهذا الاعتبار صار ذاته ﷺ موضوع الطب.
قلنا: لم يقل الكرماني: إن موضوع علم الحديث ذات رسول الله ﷺ من حيث الصحة والمرض، بل قال: موضوع علم الحديث ذات رسول الله ﷺ من حيث إنه رسول الله ﷺ، فبعد تقييده بهذه الحيثية كيف يكون ذاته ﷺ موضوع الطب؟! والعجب من السيوطي أيضًا أنه نقل كلام شيخه الكافيجي هذا وسكت.
وقال صاحب كشف الظنون: علم الحديث: هو علم يعرف به أقوال النبي ﷺ وأفعاله وأحواله.
فاندرج فيه معرفة موضوعه.
وأما غايته: فهي الفوز بسعادة الدارين، كذا في الفوائد الخاقانية.
وهو ينقسم إلى: العلم برواية الحديث.
وهو علم يبحث فيه عن كيفية اتصال الأحاديث بالرسول ﵊، من حيث أحوال رواتها ضبطًا وعدالة، ومن حيث كيفية السند اتصالًا وانقطاعًا وغير ذلك، وقد اشتهر بأصول الحديث.
العلم بدراية الحديث.
وهو علم يبحث عن المعنى المفهوم من ألفاظ الحديث، وعن المراد منها، مبنيًا على قواعد العربية وضوابط الشريعة، ومطابقًا لأحوال النبي ﷺ.
وموضوعه: أحاديث الرسول ﷺ من حيث دلالتها على المعنى المفهوم أو المراد.
وغايته: التحلي بالآداب النبوية، والتخلي عما يكرهه وينهاه، ومنفعته أعظم المنافع كما لا يخفى على المتأمل.
ومبادئه: العلوم العربية كلها، ومعرفة القصص والأخبار المتعلقة بالنبي ﷺ، ومعرفة الأصلين والفقه وغير ذلك، كذا في مفتاح السعادة.
انتهى ما في الكشف.
وقال الجزائري: قد قسموا علم الحديث إلى قسمين: قسم يتعلق بروايته، وقسم يتعلق بدرايته.
قال ابن الأكفاني في إرشاد القاصد: علم رواية الحديث: علم ينقل أقوال النبي ﷺ وأفعاله بالسماع المتصل وضبطها وتحريرها.
وعلم دراية الحديث: علم يتعرف منه أنواع الرواية وأحكامها وشروط الرواة وأصناف المرويات واستخراج معانيها.
قال الجزائري: والأولى تسمية هذا الفن، أي: فن مصطلح الحديث، الذي سماه ابن الأكفاني بعلم دراية الحديث، باسمه المعروف، أعني: مصطلح أهل الأثر؛ فإنه أدل على المقصود، وليس فيه شيء من الإبهام والإيهام، وقد جرى على ذلك الحافظ ابن حجر ﵀، فسمى رسالته المشهورة فيه: نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر.
انتهى.
وذكر صاحب الحطة تعريف علم الحديث في فصلين فقال: الفصل الأول: في علم الحديث رواية، وهو: علم يبحث فيه عن كيفية اتصال الحديث برسول الله ﷺ من حيث الصحة والضعف، ومن أحوال رواتها ضبطًا وعدالة، وأحوال رجالها جرحًا وتعديلًا، ومن حيث كيفية السند اتصالًا وانقطاعًا وغير ذلك، وقد اشتهر بأصول الحديث.
وقال الباجوري في حاشيته على الشمائل المحمدية: إنهم عرفوا علم الحديث رواية بأنه: علم يشتمل على نقل ما أضيف إلى النبي ﷺ، قيل: أو إلى صحابي أو إلى من دونه قولًا أو فعلا أو تقريرًا أو صفة.
وموضوعه: ذات النبي ﷺ من حيث إنه نبي لا من حيث إنه إنسان مثلًا.
وواضعه: أصحابه ﷺ الذين تصدوا لضبط أقواله وأفعاله وتقريراته وصفاته.
وغايته: الفوز بسعادة الدارين.
ومسائله: قضاياه التي تذكر ضمنًا، كقول: قال النبي ﷺ: (إنما الأعمال بالنيات).
فإنه متضمن لقضية قائله: (إنما الأعمال بالنيات) من أقواله ﷺ.
واسمه: علم الحديث رواية.
ونسبته: أنه من العلوم الشرعية، وهي: الفقه، والتفسير، والحديث.
وفضله: أن له شرفًا عظيمًا من حيث أنه تعرف به كيفية الاقتداء به ﷺ.
وحكمه: الوجوب العيني على من انفرد، والكفائي على من تعدد.
واستمداده: من أقوال النبي ﷺ وأفعاله وتقريره وهمه وأوصافه الخلقية، وأخلاقه المرضية.
فهذه هي المبادئ العشرة.
الفصل الثاني: في علم الحديث دراية، وهو المراد عند الإطلاق، وهو علم يعرف به حال الراوي والمروي من حيث القبول والرد، وما يتبع ذلك.
وموضوعه: الراوي والمروي من الحيثية المذكورة.
وغايته: معرفة ما يقبل وما يرد من ذلك.
ومسائله: ما يذكر في كتبه من المقاصد، كقولك: كل حديث صحيح يقبل.
وواضعه: ابن شهاب الزهري في خلافة عمر بن عبد العزيز بأمره، وقد أمر أتباعه بعد فناء العلماء العارفين بالحديث بجمعه، ولولاه لضاع الحديث.
واسمه: علم الحديث دراية.
وبقية المبادئ العشرة تعلم مما تقدم، لأنه قد شارك فيه النوع الثاني الأول.
كذا في حاشية الباجوري انتهى ما في الحطة.
قلت: قد ظهر من هذه العبارات أن علم الحديث يطلق على ثلاثة معان: الأول: أنه علم يعرف به أقوال رسول ﷺ وأفعاله وأحواله، وقد قيل له: العلم برواية الحديث كما في عبارة ابن الأكفاني والباجوري.
الثاني: أنه علم يبحث فيه عن كيفية اتصال الأحاديث بالرسول ﷺ، من حيث أحوال رواتها ضبطًا وعدالة، ومن حيث كيفية السند اتصالًا وانقطاعًا وغير ذلك.
وعلم الحديث بهذا المعنى الثاني هو المعروف بعلم أصول الحديث وقد قيل له: العلم برواية الحديث أيضًا كما في عبارة الكشف والحطة.
وقد قيل له: العلم بدراية الحديث أيضًا، كما في عبارة ابن الأكفاني والباجوري.
الثالث: أنه علم يبحث عن المعنى المفهوم من ألفاظ الحديث وعن المراد منها، مبنيًا على قواعد العربية وضوابط الشريعة، ومطابقًا لأحوال النبي ﷺ، كما في عبارة الكشف، فاحفظ هذا].
إذًا: علم الحديث رواية: يبحث في حال النبي ﷺ وأقواله وأفعاله.
وعلم الحديث دراية: يبحث في اتصال السند، وعدالة الرواة وجرحهم.
والغاية هي: معرفة المعاني والأحكام المستنبطة من ألفاظ النبي ﷺ.
قوله: [وقال العلامة الشيخ زكريا بن محمد الأنصاري في فتح الباقي شرح ألفية العراقي: الحديث ويرادفه الخبر على الصحيح: ما أضيف إلى النبي ﷺ.
وقيل: أو إلى صحابي أو إلى من دونه قولًا أو فعلًا أو تقريرًا أو صفة، ويعبر عن هذا بعلم الحديث رواية، ويحد بأنه علم يشتمل على نقل ذلك.
وموضوعه: ذات النبي ﷺ من حيث إنه نبي.
وغايته: الفوز بسعادة الدارين.
وأما علم الحديث دراية، وهو المراد عند الإطلاق كما في النظم، يعني: قول الناظم من الرجز: فهذه المقاصد المهمة توضح من علم الحديث رسمه فهو علم يعرف به حال الراوي والمروي من حيث القبول والرد.
وموضوعه: الراوي والمروي من حيث ذلك.
وغايته: معرفة ما يقبل وما يرد من ذلك.
ومسائله: ما يذكر في كتبه من المقاصد.
انتهى.
وقال العلامة عز الدين بن جماعة: علم الحديث: علم بقوانين يعرف بها أحوال السند والمتن، وقد نظمه الجلال السيوطي فقال: علم الحديث ذو قوانين تحد يدرى به أحوال متن وسند فذانك الموضوع والمقصود أن يعرف المقبول والمردود].
1 / 3
حد المحدث والحافظ والمسند
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فائدة في حد المحدث والحافظ والمسند.
قال السيوطي في التدريب: اعلم أن أدنى درجات الثلاثة (من المحدث والحافظ والمسند) والمسند - بكسر النون - وهو من يروي الحديث بإسناده، سواء كان عنده علم به، أو ليس له إلا مجرد رواية، وأما المحدث فهو أرفع منه.
قال الرافعي وغيره: إذا أوصى للعلماء لم يدخل الذين يسمعون الحديث، ولا علم لهم بطرقه، ولا بأسماء الرواة والمتون؛ لأن السماع المجرد ليس بعلم.
وقال التاج بن يونس في شرح التعجيز: إذا أوصى المحدث تناول من علم طرق إثبات الحديث وعدالة رجاله؛ لأن من اقتصر على السماع فقط ليس بعالم، وكذا قال السبكي في شرح المنهاج.
وقال القاضي عبد الوهاب: ذكر عيسى بن أبان عن مالك أنه قال: لا يؤخذ العلم عن أربعة، ويؤخذ عمن سواهم: لا يؤخذ عن مبتدع يدعو إلى بدعة، ولا عن سفيه يعلن بالسفه، ولا عمن يكذب في أحاديث الناس وإن كان يصدق في أحاديث النبي ﷺ، ولا عمن لا يعرف هذا الشأن.
قال القاضي: فقوله: ولا عمن لا يعرف هذا الشأن.
مراده: إذا لم يكن ممن يعرف الرجال من الرواة، ولا يعرف هل زيد في الحديث شيء أو نقص؟ وقال الزركشي: أما الفقهاء فاسم المحدث عندهم لا يطلق إلا على من حفظ سند الحديث، وعلم عدالة رجاله وجرحها دون المقتصر على السماع.
وقال الشيخ تقي الدين السبكي: أنه سأل الحافظ جمال الدين المزني عن حد الحفظ الذي إذا انتهى إليه الرجل جاز أن يطلق عليه الحافظ، قال: يرجع إلى أهل العرف.
فقلت: وأين أهل العرف قليل جدًا؟ قال: أقل ما يكون أن يكون الرجال الذين يعرفهم ويعرف تراجمهم وأحوالهم وبلدانهم أكثر من الذين لا يعرفهم؛ ليكون الحكم للغالب.
فقلت له: هذا عزيز في هذا الزمان، أدركت أنت أحدًا كذلك؟ فقال: ما رأينا مثل الشيخ شرف الدين الدمياطي.
ثم قال: وابن دقيق العيد كان له في هذا مشاركة جيدة، ولكن أين السهى من الثرى؟ فقلت: كان يصل إلى هذا الحد.
قال: ما هو إلا كان يشارك مشاركة جيدة في هذا، أعني: في الأسانيد، وكان في المتون أكثر؛ لأجل الفقه والأصول.
وقال الشيخ فتح الدين بن سيد الناس: وأما المحدث في عصرنا: فهو من اشتغل بالحديث رواية ودراية، وجمع رواة، واطلع على كثير من الرواة والروايات في عصره، وتميز في ذلك حتى عرف فيه حظه، واشتهر فيه ضبطه، فإن توسع في ذلك حتى عرف شيوخه وشيخ شيوخه طبقة بعد طبقة، بحيث يكون ما يعرفه من كل طبقة أكثر مما يجهله منها، فهذا هو الحافظ.
وأما ما يحكى عن بعض المتقدمين من قولهم: كنا لا نعد صاحب حديث من لم يكتب عشرين ألف حديث في الإملاء فذلك بحسب أزمنتهم.
انتهى.
وسأل شيخ الإسلام أبو الفضل بن حجر شيخه أبا الفضل العراقي فقال: ما يقول سيدي في الحد الذي إذا بلغه الطالب في هذا الزمان استحق أن يسمى حافظًا، وهل يتسامح بنقص بعض الأوصاف التي ذكرها المزني وأبو الفتح في ذلك؛ لنقص زمانه أم لا؟ فأجاب: الاجتهاد في ذلك يختلف باختلاف غلبة الظن، في وقت ببلوغ بعضهم للحفظ وغلبته في وقت آخر، وباختلاف من يكون كثير المخالطة للذي يصفه بذلك، وكلام المزني فيه ضيق، بحيث لم يسم ممن رآه بهذا الوصف إلا الدمياطي، وأما كلام أبي الفتح فهو أسهل، بأن ينشط بعد معرفة شيوخه إلى شيوخ شيوخه وما فوق.
ولا شك أن جماعة من الحفاظ المتقدمين كان شيوخهم التابعين، أو أتباع التابعين، وشيوخ شيوخهم الصحابة أو التابعين، فكان الأمر في هذا الزمان أسهل باعتبار تأخر الزمان، فإن اكتفي بكون الحافظ يعرف شيوخه وشيوخ شيوخه، أو طبقة أخرى، فهو سهل لمن جعله فيه ذلك دون غيره من حفظ المتون والأسانيد، ومعرفة أنواع علوم الحديث كلها، ومعرفة الصحيح من السقيم، والمعمول به من غيره، واختلاف العلماء واستنباط الأحكام، فهو أمر ممكن بخلاف ما ذكر من جميع ما ذكر، فإنه يحتاج إلى فراغ وطول عمر وانتفاء الموانع.
وقد روي عن الزهري أنه قال: لا يولد الحافظ إلا في كل أربعين سنة.
فإن صح كان المراد: رتبة الكمال في الحفظ والإتقان، وإن وجد في زمانه من يوصف بالحفظ، وكم من حافظ وغيره أحفظ منه.
انتهى ما في التدريب مختصرًا.
وقيل: الحافظ من أحاط علمه بمائة ألف حديث.
والحجة: من أحاط علمه بثلاثمائة ألف حديث.
والحاكم: من أحاط علمه بجميع الأحاديث المروية متنًا وإسنادًا وجرحًا وتعديلًا وتاريخًا.
وذكر القاري في شرح شرح النخبة عن العلامة الجزري أن الراوي: هو الناقل للحديث بالإسناد.
والمحدث: من تحمل الحديث رواية واعتنى به دراية.
والحافظ: من روى ما يصل إليه ووعى ما يحتاج إليه].
1 / 4
فضل علم الحديث وأهله
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [الفصل الثاني: في فضيلة علم الحديث وأهله.
اعلم أن أنف العلوم الشرعية ومفتاحها ومشكاة الأدلة السمعية ومصباحها، وعمدة المناهج اليقينية ورأسها، ومبنى شرائع الإسلام وأساسها، ومستند الروايات الفقهية كلها، ومأخذ الفنون الدينية دقها وجلها، وأسوة جملة الأحكام وأسها، وقاعدة جميع العقائد وإسطقفها، وسماء العبادات وقطب مدارها، ومركز المعاملات ومحط جارها وقارها؛ هو علم الحديث الشريف].
قوله: (هو علم الحديث) خبر إن، أي: اعلم أن كذا هو علم الحديث، فالجملة تكون خبرًا.
قوله: [الذي تعرف به جوامع الكلم، وتنفجر منه ينابيع الحكم، وتدور عليه رحى الشرع بالأسر، وهو ملاك كل نهي وأمر، ولولاه لقال من شاء ما شاء، وخبط الناس خبط عشواء، وركبوا متن عمياء، فطوبى لمن جد فيه وحصل منه على تنويه، يملك من العلوم النواصي، ويقرب من أطرافها البعيد القاصي، ومن لم يرفع من دره ولم يخض في بحره ولم يقتطف من زهره، ثم تعرض للكلام في المسائل والأحكام، فقد جار فيما حكم وقال على الله تعالى ما لم يعلم] يعني: حاف في حكمه، والجور: هو الحيف والميل.
قوله: [وقال على الله ما لم يعلم، كيف وهو كلام رسول الله ﷺ، والرسول أشرف الخلق كلهم أجمعين، وقد أوتي جوامع الكلم، وسواطع الحكم من عند رب العالمين، فكلامه أشرف الكلم وأفضلها، وأجمع الحكم وأكملها، وكما قيل: كلام الملوك ملك الكلام هو تلو كلام الله العلام، وثاني أدلة الأحكام، فإن علوم القرآن وعقائد الإسلام بأسرها، وأحكام الشريعة المطهرة بتمامها، وقواعد الطريقة الحقة بحذافيرها، وكذا الكشفيات والعقليات بنقيرها وقطميرها، تتوقف على بيانه ﷺ، فإنها ما لم توزن بهذا القسطاس المستقيم، ولم تضرب على ذلك المعيار القويم، لا يعتمد عليها ولا يصار إليها.
فهذا العلم المنصوص والبناء المرصوص، بمنزلة الصراف لجواهر العلوم عقليها ونقليها، وكالنقاد لنقود كل فنون أصليها وفرعيها، من وجوه التفاسير والفقهيات ونصوص الأحكام، ومأخذ عقائد الإسلام، وطرق السلوك إلى الله ﷾ ذي الجلال والإكرام، فما كان منها كامل العيار في نقل هذا الصراف فهو الحري بالترويج والاشتهار، وما كان زيفًا غير جيد عند ذاك النقاد فهو القمين بالرد والطرد والإنكار، فكل قول يصدقه خبر الرسول ﷺ فهو الأصلح للقبول، وكل ما لا يساعده الحديث والقرآن فذلك في الحقيقة سفسطة بلا برهان، فهي أي: علوم الأحاديث مصابيح الدجى، ومعالم الهدى، وبمنزلة البدر المنير، من انقاد لها فقد رشد واهتدى، وأوتي الخير الكثير، ومن أعرض عنها وتولى فقد غوي وهوى، وما زاد نفسه إلا التخسير؛ فإنه ﷺ نهى وأمر، وأنذر وبشر، وضرب الأمثال وذكر، وإنها لمثل القرآن بل هي أكثر، وقد ارتبط بها اتباعه ﷺ التي هي ملاك سعادة الدارين، والحياة الأبدية بلا مين، كيف وما الحق إلا فيما قاله ﷺ أو عمل به، أو قرره أو أشار إليه، أو تفكر فيه أو خطر بباله، أو يحس في خلده واستقام عليه.
فالعلم في الحقيقة هو علم السنة والكتاب والعمل بهما في كل إياب وذهاب، ومنزلته بين العلوم منزلة الشمس بين كواكب السماء، ومزية أهله على غيرهم من العلماء مزية الرجال على النساء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فيا له من علم سيط بدمه الحق والهدى، ونيط بعنقه الفوز بالدرجات العلى، وقد كان الإمام محمد بن علي بن حسين ﵁ يقول: إن من فقه الرجل بصيرته أو فطنته بالحديث.
ولقد صدق، فإنه لو تأمل المتأمل بالنظر العميق والفكر الدقيق لعلم أن لكل علم خاصية، تتحصل بمزاولته للنفس الإنسانية، كيفية من الكيفيات الحسنة أو السيئة، وهذا علم تعطي مزاولته صاحب هذا العلم معنى الصحابية؛ لأنها في الحقيقة: هي الاطلاع على جزئيات أحواله ﷺ، ومشاهدة أوضاعه في العبادات والعادات كلها، وعند بعد الزمان يتمكن هذا المعنى بمزاولته في مدركة المزاول، ويرتسم في خياله بحيث يصير في حكم المشاهدة والعيان، وإليه أشار القائل بقوله: أهل الحديث هم أهل النبي وإن لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا].
يعني: أن أهل الحديث لم يصحبوا ذاته، لكن صحبوا أنفاسه وأحواله ﵊.
قوله: [ويروى عن بعض العلماء أنه قال: أشد البواعث وأقوى الدواعي لي على تحصيل علم الحديث لفظ: قال رسول الله ﷺ.
فالحاصل أن أهل الحديث -كثر تعالى سوادهم، ورفع عمادهم- لهم نسبة خاصة، ومعرفة مخصوصة بالنبي ﷺ لا يشاركهم فيها أحد من العالمين فضلًا عن الناس أجمعين؛ لأنهم الذين لا يزال يجري ذكر صفاته العلياء وأحواله الكريمة، وشمائله الشريفة على لسانهم، ولم يبرح تمثال جماله الكريم وخياله وجهه الوسيم، ونور حديثه المستبين يتردد في حلق وسط جنانهم، فعلاقة باطنهم بباطنه العلي متصلة، ونسبة ظاهرهم بظاهره النقي مسلسلة، وقال الله تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾ [الإسراء:٧١].
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: يخبر ﵎ عن يوم القيامة أنه يحاسب كل أمة بإمامهم وقد اختلفوا في ذلك: فقال مجاهد وقتادة: أي: نبيهم وهذا كقوله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ﴾ [يونس:٤٧].
وقال بعض السلف: هذا أكبر شرف لأصحاب الحديث؛ لأن إمامهم النبي ﷺ.
انتهى.
وقد ورد في فضيلة علم الحديث وأهله أحاديث كثيرة، وأنا أقتصر هاهنا على ذكر خمسة:
1 / 5
ذكر بعض الأحاديث التي أوردها الترمذي في فضل أهل الحديث
الحديث الأول: روى الترمذي عن ابن مسعود ﵁ قال: قال رسول ﷺ: (أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة).
وقال: هذا حديث حسن غريب.
قال القاري في المرقاة في شرح المشكاة: ورواه ابن حبان في صحيحه، والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
قال ابن حبان عقب هذا الحديث: في الخبر بيان صحيح على أن أولى الناس برسول ﷺ في القيامة يكون أصحاب الحديث، إذ ليس في هذه الأمة قوم أكثر صلاة عليه منهم.
وقال غيره: لأنهم يصلون عليه قولًا وفعلًا.
انتهى.
وقال الخطيب في كتابه شرف أصحاب الحديث: قال لنا أبو نعيم: هذه منقبة شريفة يختص بها رواة الآثار ونقلتها؛ لأنه لا يعرف لعصابة من العلماء من الصلاة على رسول الله ﷺ أكثر مما يعرف لهذه العصابة نسخًا وذكرًا.
وقال أبو اليمن بن عساكر: ليهن أهل الحديث هذه البشرى، فقد أتم الله نعمه عليهم بهذه الفضيلة الكبرى، فإنهم أولى الناس بنبيهم، وأقربهم إن شاء الله تعالى وسيلة يوم القيامة إلى رسول الله ﷺ، فإنهم يخلدون ذكره في طروسهم، ويجددون الصلاة والتسليم عليه].
قوله: (ليهن) أي: هنيئًا لهم.
وقوله: (طروسهم) يعني: كتبهم الأوراق، وطرس: ما يكتب فيه، يعني: يكتبونه ﷺ في كتاباتهم.
قوله: [ويجددون الصلاة والتسليم عليه في معظم الأوقات، في مجالس مذاكرتهم ودروسهم، فهم إن شاء الله تعالى الفرقة الناجية، جعلنا الله منهم وحشرنا في زمرتهم.
انتهى].
الحديث الثاني: روى الترمذي عن ابن مسعود ﵁ قال: سمعت رسول ﷺ يقول: (نضر الله امرأً سمع منا شيئًا فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى له من سامع).
وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وفي الباب أحاديث أخرى.
قال القاري: خص مبلغ الحديث كما سمعه بهذا الدعاء؛ لأنه سعى في نضارة العلم وتجديد السنة، فجازاه بالدعاء بما يناسب حاله، وهذا يدل على شرف الحديث وفضله ودرجة طلابه، حيث خصهم النبي ﷺ بدعاء لم يشرك فيه أحدًا من الأمة، ولو لم يكن في طلب الحديث وحفظه وتبليغه فائدة سوى أن يستفيد بركة هذه الدعوة المباركة لكفى ذلك فائدة وغنمًا، وجل في الدارين حظًا وقسمًا.
انتهى.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: قال علماء الحديث: ما من أحد يطلب الحديث إلا كان على وجهه نضرة؛ لقول النبي ﷺ: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها) الحديث.
قال: وهذا دعاء من النبي ﷺ لحملة علمه، ولا بد بفضل الله تعالى من نيل بركته.
وإلى هذه النضرة أشار أبو العباس الزفي بقوله: أهل الحديث عصابة الحق فازوا بدعوة سيد الخلق.
فوجوههم زهر منضرة لألاؤها كتألق البرق يا ليتني معهم فيدركني ما أدركوه بها من السبق الحديث الثالث: روى الطبراني في الأوسط عن ابن عباس ﵄ قال: قال رسول الله ﷺ: (اللهم ارحم خلفائي.
قلنا: يا رسول الله! ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يروون أحاديثي ويعلمونها الناس).
قال القسطلاني في مقدمة إرشاد الساري بعد ذكر هذا الحديث: ولا ريب أن أداء السنن إلى المسلمين نصيحة لهم من وظائف الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فمن قام بذلك كان خليفة لمن يبلغ عنه، وكما لا يليق بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يهملوا أعاديهم ولا ينصحوهم، كذلك لا يحسن لطالب الحديث وناقل السنن أن يمنحها صديقه ويمنعها عدوه، فعلى العالم بالسنة أن يجعل أكبر همه نشر الحديث، وقد أمر النبي ﷺ بالتبليغ عنه حيث قال: (بلغوا عني ولو آية).
الحديث رواه البخاري.
قال المظهري: أي: بلغوا عني أحاديثي ولو كانت قليلة.
قال البيضاوي: قال: ولو آية، ولم يقل ولو حديثًا، لأن الأمر بتبليغ الحديث يفهم منه بطريق الأولوية، فإن الآيات مع انتشارها وكثرة حملتها تكفل الله تعالى بحفظها وصونها عن الضياع والتحريف.
انتهى.
وقال إمام الأئمة مالك رحمه الله تعالى: بلغني أن العلماء يسألون يوم القيامة عن تبليغهم العلم كما تسأله الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وقال سفيان الثوري: لا أعلم علمًا أفضل من علم الحديث لمن أراد به وجه الله تعالى، إن الناس يحتاجون إليه حتى في طعامهم وشرابهم، فهو أفضل من التطوع بالصلاة والصيام؛ لأنه فرض كفاية.
انتهى].
أي: أن الناس يحتاجونه في طعامهم وشرابهم، كيف يأكل؟ فيأكل بيده اليمنى، ويقول: باسم الله، ويأكل مما يليه، والشرب يشرب قائمًا أو قاعدًا، ويشرب بنفس واحد: (كان النبي ﷺ يشرب بنفس) وإذا شرب من القدح يشرب ثلاث مرات، وهكذا نحتاج إليه في كل شيء، فهو فرض كفاية، بخلاف نوافل الصوم والصلاة، فهذه نفعها قاصر، ولا أفضل من علم الحديث لمن أراد به وجه الله؛ لأنه يدخل على الناس في كل شيء: في طعامهم وشرابهم، وفي نومهم، ومضاجعهم، ومعاملاتهم مع ربهم، ومع أسرهم، ومع الناس أجمعين.
الحديث الرابع: روى البيهقي في المدخل عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال: قال رسول الله ﷺ: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين).
كذا في المشكاة.
قال القسطلاني بعد ذكره من حديث أسامة بن زيد ﵁: وهذا الحديث رواه من الصحابة علي وابن عمر وابن عمرو وابن مسعود وابن عباس وجابر بن سمرة ومعاذ، وأبو هريرة ﵃.
وأورده ابن عدي من طرق كثيرة كلها ضعيفة كما صرح به الدارقطني وأبو نعيم وابن عبد البر، لكن يمكن أن يتقوى بتعدد طرقه ويكون حسنًا، كما جزم به ابن كيكلدي العلائي، وفيه تخصيص حملة السنة بهذه المنقبة العلية، وتعظيم لهذه الأمة المحمدية، وبيان لجلالة قدر المحدثين وعلو مرتبتهم في العالمين؛ لأنهم يحمون مشارع الشريعة، ومتون الروايات من تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين بنقل النصوص المحكمة يرد المتشابه إليها.
وقال النووي في أول تهذيبه: هذا إخبار منه ﷺ لصيانة هذا العلم وحفظه وعدالة ناقليه، وأن الله تعالى يوفق له في كل عصر خلفاء من العدول يحملونه وينفون عنه التحريف؛ فلا يضيع، وهذا تصريح بعدالة حامليه في كل عصر، وهكذا وقع ولله الحمد، وهو من أعلام النبوة، ولا يضر كون بعض الفساق يعرف شيئًا من علم الحديث؛ فإن الحديث إنما هو إخبار بأن العدول يحملونه، لا أن غيرهم لا يعرف شيئًا منه.
انتهى.
على أنه قد يقال: ما يعرفه الفساق من العلم ليس بعلم حقيقة؛ لعدم عملهم كما أشار إليه المولى سعد الدين التفتازاني في تقرير قول التلخيص: وقد ينزل العالم منزلة الجاهل.
وصرح به الإمام الشافعي في قوله: ولا العلم إلا مع التقى ولا العقل إلا مع الأدب ولعمري إن هذا الشأن من أقوى أركان الدين، وأوثق عرى اليقين، ولا يرغب في نشره إلا صادق تقي، ولا يزهده إلا كل منافق شقي، قال ابن القطان: ليس في الدنيا مبتدع إلا وهو يبغض أهل الحديث.
وقال الحاكم: لولا كثرة طائفة المحدثين على حفظ الأسانيد لدرس منار الإسلام، ولتمكن أهل الإلحاد والمبتدعة من وضع الأحاديث وقلب الأسانيد.
انتهى.
الحديث الخامس: أخرج الترمذي في باب ما جاء في أهل الشام من أبواب الفتن.
عن معاوية بن قرة عن أبيه ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم، لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة).
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وقال: قال محمد بن إسماعيل يعني: البخاري: قال علي بن المديني: هم أصحاب الحديث.
انتهى.
قال الإمام البخاري في صحيحه: باب قول النبي ﷺ: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق) وهم أهل العلم.
قال الحافظ في الفتح: قوله: وهم أهل العلم.
هو من كلام المصنف.
وأخرج الترمذي حديث الباب ثم قال: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: سمعت علي بن المديني يقول: هم أصحاب الحديث.
قال: وذكر -أي البخاري - في كتاب خلق أفعال العباد عقب حديث أبي سعيد ﵁ في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ [البقرة:١٤٣] هم الطائفة المذكورة في حديث: (لا تزال طائفة من أمتي) ثم ساقه.
قال: وجاء نحوه عن أبي هريرة ومعاوية وجابر وسلمة بن نفيل وقرة بن إياس ﵃.
انتهى.
وأخرج الحاكم في علوم الحديث بسند صحيح عن أحمد: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم؟ ومن طريق يزيد بن هارون مثله.
انتهى ما في الفتح.
قلت: ولأهل العلم في فضيلة الحديث وأهله أقوال كثيرة منثورة ومنظومة].
والخلاصة: أن المؤلف ذكر الأحاديث الخمسة في فضل أهل الحديث: فالحديث الأول: أنهم أولى الناس برسول
1 / 6
شرح جامع الترمذي_أبواب الطهارة [١]
جاء ديننا الإسلامي بما يوافق الفطرة السليمة، فأمر بالطهارة عند كل صلاة، وجعلها مفتاح الصلاة، ورغب في فضل الطهور، وأرشد إلى أدعية عند الدخول والخروج من الخلاء، كما جاءت السنة النبوية بالنهي عن استقبال القبلة بغائط أو بول، والنهي عن البول قائمًا.
2 / 1
لا تقبل صلاة بغير طهور
قال المؤلف ﵀: [أبواب الطهارة عن رسول الله ﷺ.
باب ما جاء: (لا تقبل صلاة بغير طهور).
حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا أبو عوانة، عن سماك بن حرب، ح وحدثنا هناد، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن سماك، عن مصعب بن سعد، عن ابن عمر ﵄، عن النبي ﷺ قال: (لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول).
قال هناد في حديثه: إلا بطهور].
هذا الكتاب، أي: كتاب جامع الإمام الترمذي أحد كتب السنن، وسمي جامعًا لأنه يجمع ما يتعلق بالأحكام والآداب والتفسير وغير ذلك، وهو من الجوامع العظيمة التي جمع فيه ﵀ أحاديث الأحكام وغيرها، وأضاف إلى ذلك تخريج الأحاديث وكلام العلماء وخلاف الفقهاء، فهو ﵀ جمع في هذا الكتاب أقوال الفقهاء وخلاف العلماء في المسائل، وذلك بعد أن يذكر الأحاديث، فدل ذلك على أن الترمذي ﵀ عنده علم عظيم، وإلمام عظيم بكلام العلماء وخلافهم في المسائل؛ لأنه يذكر الحديث في الترجمة، ثم يذكر الحديث ثم يخرجه، ثم يذكر كلام الفقهاء واختلافهم في المسألة.
وقد بدأ رحمه الله تعالى بكتاب الطهارة على عادة المؤلفين في البدء في العبادات؛ لأنها مفتاح للصلاة وشرط يتقدم عليها، وهذا الحديث قد أخرجه مسلم في صحيحه: (لا تقبل صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول)؛ لأن الصلاة لا تصح إلا بطهارة، وكذلك إذا تصدق إنسان من غلول فلا يقبل منه، والغلول هو: ما يسرقه من الغنيمة قبل القسمة.
وهو من الكبائر.
[قال أبو عيسى: هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب وأحسن.
وفي الباب عن أبي المليح عن أبيه وأبي هريرة وأنس ﵃.
وأبو المليح بن أسامة اسمه عامر، ويقال: زيد بن أسامة بن عمير الهذلي].
ومن خصائص جامع الإمام الترمذي أيضًا: أنه يتكلم على الرواة، ويذكر أيضًا ما في الباب من الأحاديث التي تعضد ما ذكره.
فلو قال قائل: ما منزلة جامع الترمذي بين السنن الأربع؟
الجواب
فيه خلاف، فبعضهم قدم سنن أبي داود، وبعضهم قدم النسائي، وبعضهم قدم جامع الترمذي لهذه الميزة، ويمتاز أيضًا بذكر ما في الباب من المسائل، والكلام على بعض الرواة، ونقل كلام الفقهاء، وغيرها من الميزات التي ليست موجودة في غيره.
2 / 2
ما جاء في فضل الطهور
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في فضل الطهور.
حدثنا إسحاق بن موسى بن الأنصاري، حدثنا معن بن عيسى القزاز، حدثنا مالك بن أنس، ح وحدثنا قتيبة، عن مالك، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (إذا توضأ العبد المسلم، أو المؤمن، فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، أو نحو هذا، وإذا غسل يديه خرجت من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقيًا من الذنوب)].
هذا الحديث فيه فضل الطهور، وأن الوضوء من أسباب تكفير الذنوب، فإذا توضأ المسلم صار وضوءه من أسباب تكفير الخطايا، فقوله: (إذا غسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، وإذا غسل يديه خرجت من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، وإذا غسل رجليه خرجت من رجليه كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء) المراد بها: الصغائر إذا اجتنبت الكبائر، فإذا اجتنبت الكبائر كفر الله الخطايا، وكذلك الصلوات الخمس يكفر الله بهن الخطايا، ورمضان والجمع كما في حديث أبي هريرة عند مسلم: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر).
[قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وهو حديث مالك عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة ﵁.
وأبو صالح والد سهيل هو أبو صالح السمان، واسمه: ذكوان، وأبو هريرة اختلف في اسمه، فقالوا: عبد شمس، وقالوا: عبد الله بن عمرو، وهكذا قال محمد بن إسماعيل وهو الأصح].
إن المشهور أن عبد الله بن عمرو هو عبد الرحمن بن صخر، قال الحافظ ابن حجر في التقريب: أبو هريرة الدوسي، الصحابي الجليل حافظ الصحابة اختلف في اسمه واسم أبيه، فقيل: عبد الرحمن بن صخر، وقيل: ابن غنم، إلى أن ذكر تسعة عشر قولًا، ثم قال: هذا الذي وقفنا عليه من الاختلاف، واختلف في أيها أرجح، فذهب الأكثرون إلى الأول، أي: عبد الرحمن بن صخر، وذهب جمع من النسابين إلى عمرو بن عامر.
انتهى.
[قال أبو عيسى: وفي الباب عن عثمان بن عفان وثوبان والصنابحي وعمرو بن عبسة وسلمان وعبد الله بن عمرو ﵃.
والصنابحي الذي روى عن أبي بكر الصديق ليس له سماع من رسول الله ﷺ، واسمه: عبد الرحمن بن عسيلة، ويكنى أبا عبد الله، رحل إلى النبي ﷺ، فقبض النبي ﷺ وهو في الطريق وقد روى عن النبي ﷺ أحاديث.
والصنابح بن الأعسر الأحمسي صاحب النبي ﷺ يقال له: الصنابحي أيضًا، وإنما حديثه قال: سمعت النبي ﷺ يقول: (إني مكاثر بكم الأمم فلا تقتتلن بعدي)].
2 / 3
ما جاء من أن مفتاح الصلاة الطهور
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب: ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور.
حدثنا قتيبة وهناد ومحمود بن غيلان قالوا: حدثنا وكيع عن سفيان، ح وحدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن الحنفية عن علي ﵁، عن النبي ﷺ قال: (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم)].
هذا الحديث فيه عبد الله بن محمد بن عقيل وهو سيئ الحفظ وفيه ضعف.
[قال أبو عيسى: هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب وأحسن.
وعبد الله بن محمد بن عقيل هو صدوق، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه.
قال أبو عيسى: وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: كان أحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم والحميدي يحتجون بحديث عبد الله بن محمد بن عقيل.
قال محمد: وهو مقارب الحديث].
فيرى البخاري الاستشهاد به إذا لم يخالف.
وهذا الحديث قد أخرجه الشافعي وأحمد والبزار وأصحاب السنن إلا النسائي، وصححه الحاكم وابن السكن من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل، عن ابن الحنفية، عن علي ﵁.
قال البزار: لا يعلم عن علي إلا من هذا الوجه.
وقال أبو نعيم: تفرد به ابن عقيل عن ابن الحنفية عن علي.
وقال العقيلي: في إسناده لين، وهو أصلح من حديث جابر وقد نقل المؤلف عن البخاري وقال في الشرح: هذا من ألفاظ التعديل، وقد تقدم تحقيقه في المقدمة.
قال الحافظ الذهبي في الميزان في ترجمة عبد الله بن محمد بن عقيل بعد ذكر أقوال الجارحين والمعدلين: حديثه في مرتبة الحسن.
انتهى.
وإذا قال: فيه نظر فهو للتضعيف؛ لأن كلمات البخاري ﵀ ليس فيها جرح، كما في قوله عنه: هو مقارب الحديث.
والظاهر أنه تعديل، أي: أنه من ألفاظ التعديل لا الجرح.
قال الشارح: والراجح المعول عليه: هو أن حديث علي المذكور حسن يصلح للاحتجاج، وفي الباب أحاديث أخرى كلها يشهد له.
وذكر ابن القيم ﵀ أن عبد الله بن عقيل هو الذي روى حديث المظالم، وفيه إثبات الصوت لله ﷿، وأن أهل البدع ردوا الحديث؛ لأنهم أنكروا أن يكون الصوت من كلام الله ﷿، وقالوا: إن عبد الله بن عقيل سيئ الحفظ.
وقال: إن هذه علة باردة، وكل أهل الحديث يردونها، وإنما ينتفي حديث هذا الضرب ما خالفوا فيه الثقات، وهذا مما وافقوا فيه الثقات، فـ عبد الله بن عقيل إذا خالف غيره، أي: إذا خالف الثقات ممكن، أما إذا وافق الثقات فالأصل فيه السلامة.
قال أبو عيسى: وفي الباب عن جابر وأبي سعيد.
حدثنا أبو بكر محمد بن زنجويه البغدادي وغير واحد، قال: حدثنا الحسين بن محمد، حدثنا سليمان بن قرم، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد، عن جابر بن عبد الله ﵄ قال: قال رسول الله ﷺ: (مفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح الصلاة الوضوء)].
في سند هذا الحديث سليمان بن قرم -بفتح القاف وسكون الراء- ابن معاذ أبو داود البصري النحوي، ومنهم من ينسبه إلى جده، سيئ الحفظ يتشيع.
وفي سند الحديث أيضًا أبو يحيى القتات -بقاف ومثناة مثقلة وآخره مثناة أيضًا- الكوفي، اسمه: زاذان.
وقيل: دينار.
وقيل: مسلم.
وقيل: يزيد.
وقيل: زبان.
وقيل: عبد الرحمن لين الحديث من السادسة.
2 / 4
ما يقال عند دخول الخلاء
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب ما يقول إذا دخل الخلاء.
حدثنا قتيبة وهناد قالا: حدثنا وكيع، عن شعبة، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك ﵁ قال: (كان النبي ﷺ إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك) -قال شعبة: وقد قال مرة أخرى: (أعوذ بك- من الخبث والخبيث.
أو: الخبث والخبائث)].
هذا الحديث ثابت، وقد أخرجه البخاري ومسلم، ورواه أصحاب السنن أيضًا: النسائي وأبو داود، والترمذي.
وفيه شرعية هذا الذكر، وأنه يستحب للإنسان أن يقول عن دخوله الخلاء: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث).
يقول: بسم الله -هذه من الأدلة العامة عند دخول الخلاء- ثم يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث).
وقد ثبتت زيادة باسم الله مع التعوذ، فروى العمري حديث الباب بلفظ: (إذا دخلتم الخلاء فقولوا: باسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث) قال الحافظ في الفتح: إسناده على شرط مسلم.
والحديث الآخر يقول فيه النبي ﷺ: (إن هذه الحشوش محتضرة، فإذا دخل أحدكم فليقل: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) فإذا قال العبد هذا الدعاء لم تحضره الشياطين.
والخبث: ذكران الشياطين، والخبائث: إناثهم، فإذا قال: بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث، زال وخرج، فهذه حماية، وهو ذكر عظيم مستحب عند دخول الخلاء، وإذا كان في الصحراء، فعند قربه لقضاء الحاجة يقول هذا الذكر.
[قال أبو عيسى: وفي الباب عن علي وزيد بن أرقم وجابر، وابن مسعود ﵃.
قال أبو عيسى: حديث أنس أصح شيء في هذا الباب وأحسن.
وحديث زيد بن أرقم في إسناده اضطراب: روى هشام الدستوائي وسعيد بن أبي عروبة عن قتادة: فقال سعيد: عن القاسم بن عوف الشيباني، عن زيد بن أرقم.
وقال هشام الدستوائي: عن قتادة، عن زيد بن أرقم، ورواه شعبة ومعمر عن قتادة، عن النضر بن أنس، فقال شعبة: عن زيد بن أرقم، وقال معمر: عن النضر بن أنس عن أبيه عن النبي ﷺ].
[قال أبو عيسى: سألت محمدًا عن هذا؟ فقال: يحتمل أن يكون قتادة روى عنهما جميعًا].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أخبرنا أحمد بن عبدة الضبي البصري، حدثنا حماد بن زيد، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك ﵁: (أن النبي ﷺ: كان إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث).
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح].
يقال: الخبث: بإسكان الباء وضمها.
2 / 5
ما يقول إذا خرج من الخلاء
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب ما يقول إذا خرج من الخلاء.
حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا مالك بن إسماعيل، عن إسرائيل بن يونس، عن يوسف بن أبي بردة، عن أبيه، عن عائشة ﵂ قالت: (كان النبي ﷺ إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك).
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث إسرائيل، عن يوسف بن أبي بردة.
وأبو بردة بن أبي موسى اسمه: عامر بن عبد الله بن قيس بن الأشعري، ولا نعرف في هذا الباب إلا حديث عائشة ﵂ عن النبي ﷺ].
هذا الحديث لا بأس بسنده، وفيه مشروعية هذا الدعاء عند الخروج من الخلاء، فيقول المسلم: (غفرانك) يعني: أسألك فغفرتك.
2 / 6
ما جاء في النهي عن استقبال القبلة بغائط أو بول
قال المؤلف ﵀: [باب ما جاء في النهي عن استقبال القبلة بغائط أو بول.
حدثنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي أيوب الأنصاري ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول، ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا، فقال أبو أيوب: فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت مستقبل القبلة فننحرف عنها ونستغفر الله)].
هذا الحديث رواه الشيخان وغيرهما، وفيه دليل على تحريم استقبال القبلة أو استدبارها عند قضاء الحاجة في الصحراء أو الفضاء.
أما في البنيان ففيه خلاف بين العلماء، والصواب: أنه يجوز في البنيان؛ لحديث ابن عمر أنه قال: (رأيت النبي ﷺ يقضي حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة) فدل على جواز استقبال القبلة واستدبارها في البنيان، وكان ابن عمر يقضي حاجته ويضع راحلته أمامه في الصحراء، فلما سئل؟ قال: إذا كان بينك وبين القبلة شيء يمنعك فلا بأس، وهذا هو الصواب الذي ذهب إليه المحققون، وقد ذهب إليه البخاري ﵀، والنسائي وغيرهم جمعًا بين النصوص؛ لأن النبي نهى عن استقبال القبلة واستدبارها في الصحراء وفعل ذلك في البنيان، فدل على أن النهي إنما هو خاص في الصحراء.
وبعض العلماء يرى: أنه لا يجوز حتى في البنيان، ومنهم أبو أيوب ﵁، حيث قال: فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض، يعني: حمامات قد بنيت نحو الكعبة، فننحرف عنها ونستغفر الله ﷿.
[قال أبو عيسى: وفي الباب عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي، ومعقل بن أبي الهيثم ويقال: معقل بن أبي معقل، وأبي أمامة، وأبي هريرة، وسهل بن حنيف ﵃.
قال أبو عيسى: حديث أبي أيوب أحسن شيء في هذا الباب وأصح، وأبو أيوب اسمه: خالد بن زيد.
والزهري اسمه: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري وكنيته: أبو بكر، قال أبو الوليد المكي: قال أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي: إنما معنى قول النبي ﷺ: (لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا ببول ولا تستدبروها) إنما هذا في الفيافي، وأما في الكنف المبنية له رخصة في أن يستقبلها، وهكذا قال إسحاق بن إبراهيم].
والصواب ما ذهب إليه الشافعي وإسحاق بن إبراهيم، وهو الذي ذهب إليه البخاري والنسائي وجمع من أهل العلم، أن هذا النهي يحمل على من كان في الصحراء، أما في البيوت فلا بأس؛ لأن بينك وبين القبلة حائط.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أحمد بن حنبل ﵀: إنما الرخصة من النبي ﷺ في استدبار القبلة بغائط أو بول، وأما استقبال القبلة فلا يستقبلها، كأنه لم ير في الصحراء ولا في الكنف أن يستقبل القبلة].
وهذا القول لبعض العلماء، أخذًا بحديث ابن عمر، أنه رأى النبي ﷺ يقضي حاجته مستدبر الكعبة مستقبل الشام.
قالوا: هذا خاص بالاستدبار فقط، أما الاستقبال فيبقى على العموم.
والصواب: أن هذا في الاستقبال والاستدبار جميعًا.
2 / 7
ما جاء من الرخصة في استقبال القبلة واستدبارها
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء من الرخصة في ذلك.
حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا: حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن مجاهد، عن جابر بن عبد الله ﵄ قال: (نهى النبي ﷺ أن نستقبل القبلة ببول، فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها)].
وهذا الحديث في رواية الإمام أحمد: [قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب، قال: أبي عن ابن إسحاق، قال: حدثني أبان بن صالح.
في مسند الإمام أحمد صرح ابن إسحاق بالتحديث].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الباب عن أبي قتادة وعائشة وعمار بن ياسر ﵁.
قال أبو عيسى: حديث جابر في هذا الباب حديث حسن غريب، وقد روى هذا الحديث ابن لهيعة عن أبي الزبير، عن جابر، عن أبي قتادة ﵁: (أنه رأى النبي ﷺ يبول مستقبل القبلة) حدثنا بذلك قتيبة، حدثنا ابن لهيعة.
وحديث جابر عن النبي ﷺ أصح من حديث ابن لهيعة، وابن لهيعة ضعيف عند أهل الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد القطان وغيره من قبل حفظه].
إذًا: حديث جابر هذا لا يصح على إطلاقه، والحديث أيضًا في سنده مجاهد بن جبر، وقد لد بعد وفاة جابر، وعليه فالحديث منقطع لا يصح على إطلاقه عن مجاهد.
لكن هذا الحديث قد روي عن مجاهد -بفتح الجيم وسكون الموحدة- أبو الحجاج المخزومي، مولاهم المكي، ثقة، إمام في التفسير وفي العلم، ومن خواص التابعين، مات سنة إحدى أو اثنتين، أو ثلاث أو أربع ومائه، وله ثلاث وثمانون، عن جابر: هو ابن عبد الله بن عمرو بن حرام؛ وبذلك يكون ولادة مجاهد سنة سبع عشرة للهجرة، وقد مات جابر بالمدينة بعد السبعين، وبذلك يكون مجاهد قد أدرك جابر.
لكن تبقى مسألة الترجيح، ولا شك أن حديث أبي أيوب أرجح، وذلك لو قدر أنه صحيح الإسناد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حدثنا هناد، حدثنا عبدة بن سليمان، عن عبيد الله بن عمر، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عمه واسع بن حبان عن ابن عمر ﵄ قال: (رقيت يومًا على بيت حفصة فرأيت النبي ﷺ على حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة).
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح].
وهذا محمول على أنه في البنيان.
ولا يعترض النسيان في ذلك؛ لأن الرب ﷾ قال: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ [مريم:٦٤] فهو تشريع، والرسول مشرع عن ربه ﷿.
قال الشارح: قوله: (فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها) استدل به من قال: بجواز الاستقبال والاستدبار في الصحراء والبنيان، وهذا لبعض أهل العلم، وجعله ناسخًا لأحاديث المنع، وفيه ما ثبت من أنها حكاية فعل لا عموم لها، فيحتمل أن يكون لعذر.
وقال في المنتقى عن هذا الحديث: رواه الخمسة إلا النسائي.
انتهى.
وقال في النيل: وأخرجه أيضًا البزار وابن الجارود وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني، وحسنه الترمذي، ونقل عن البخاري تصحيحه، وحسنه أيضًا البزار، وصححه أيضًا ابن السكن، وتوقف فيه النووي لعنعنة ابن إسحاق، وقد صرح بالتحديث في رواية أحمد وغيره، وضعفه ابن عبد البر بـ أبان بن صالح القرشي، قال الحافظ: ووهم في ذلك، فإنه ثقة بالاتفاق، وادعى ابن حزم أنه مجهول فغلط.
وعلى كل حال فهو محمول على أنه في البنيان، ولو حمل في غير البنيان فأحاديث أبي أيوب مقدمة، أي: أرجح وأصح؛ لأنه إذا تعارض الدليلان، فالقاعدة عند أهل العلم: أنه يجمع بينهما، فإن لم يمكن الجمع بينهما ينظر إلى التاريخ، فإن لم يعرف التاريخ يرجع إلى الترجيح، وإذا رجعنا للترجيح فلا شك أن حديث أبي أيوب أرجح ومقدم، هذا إذا صح، ولم يأت ما يدل على أنه في البنيان، ولأنه أصح في الصحيحين وغيرهما.
2 / 8
ما جاء في النهي عن البول قائمًا
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في النهي عن البول قائمًا.
حدثنا علي بن حجر، أخبرنا شريك، عن المقدام بن شريح، عن أبيه، عن عائشة ﵂ قالت: (من حدثكم أن النبي ﷺ كان يبول قائمًا فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعدًا)].
حديث عائشة محمول على أنها أخبرت عما علمته في البيوت، وحديث حذيفة: (أن النبي ﷺ أتى سباطة قوم فبال قائمًا) أصح منه.
فـ حذيفة أخبر عما رآه في الصحراء، وعائشة أخبرت عما رأته في البنيان، والمثبت مقدم على النافي؛ لأن معه زيادة علم خفي على النافي، أي: على عائشة، ثم إن حديث حذيفة أصح، ويحمل حديث عائشة على أن هذا في البيوت، وأن هذا هو الأكثر من فعله ﷺ، وأما بوله قائمًا فلبيان الجواز ﵊، وقيل: إنه فعله لوجع في باطن الركبة، أو لوجع في صلبه، والصواب: أنه فعله لبيان الجواز؛ ولأن المكان غير مناسب للبول، إما لأنه مرتفع قد يصل إليه البول، أو لأن الأرض صلبة أو نجسة، وكون حوله حذيفة يستره يجوز للإنسان أن يبول قائمًا إذا أمن النظر من الأعين، لكن الأفضل البول جالسًا وقد سبق معنا ذلك في النسائي وفي أبي داود، وهنا بوب الترمذي بالنهي عن البول قائمًا.
ولما ذكر المؤلف: [باب ما جاء في النهي عن البول قائمًا] ذكر حديث عائشة وليس فيه نهي؛ لأن عائشة إنما أخبرت بما رأت.
ومن رواة حديث عائشة شريك بن عبد الله النخعي القاضي، ولما تولى القضاء ضعف، وحديث حذيفة أصح في الصحيحين، وحديث عائشة في سنده شريك القاضي، لكنه محمول على ما كان في البنيان.
إذًا: حديث عائشة محمول على ما كان في البنيان، وهي أخبرت عما علمته من البيوت، لكن حذيفة أخبر عما رآه خارج البيوت، والقاعدة عند أهل العلم: أن المثبت مقدم على النافي؛ لأن معه زيادة علم خفي على النافي.
ثم أيضًا هذا محمول على أن الأغلب من حاله ﵊ أنه كان يبول جالسًا، وإنما فعله هذا مرة لبيان الجواز، حتى ذكر بعضهم أن أهل هراة قالوا: إن من السنة البول قائمًا، فكانوا يبولون في كل سنة مرة قيامًا، وهذا مبالغة فيه.
لكن على أي حال حديث حذيفة أصح منه، لكن تبويب الترمذي ﵀ باب النهي غريب، يعني: الترجمة هذه؛ لأن ليس فيها نهي.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال: وفي الباب عن عمر وبريدة وعبد الرحمن بن حسنة ﵃.
قال أبو عيسى: حديث عائشة أحسن شيء في الباب وأصح.
وحديث عمر إنما روي من حديث عبد الكريم بن أبي المخارق عن نافع عن ابن عمر عن عمر ﵁ قال: (رآني النبي ﷺ وأنا أبول قائمًا، وقال: يا عمر! لا تبل قائمًا، فما بلت قائمًا بعد).
قال أبو عيسى: وإنما رفع هذا الحديث عبد الكريم بن أبي المخارق، وهو ضعيف عند أهل الحديث: ضعفه أيوب السختياني، وتكلم فيه.
وروى عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: قال عمر ﵁: ما بلت قائمًا منذ أسلمت.
وهذا أصح من حديث عبد الكريم.
وحديث بريدة في هذا غير محفوظ، ومعنى النهي عن البول قائمًا: على التأديب لا على التحريم].
وهذا يحمل على أن الأفضل والأولى تركه، والنهي للتنزيه، وهذا إذا صح.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد روي عن عبد الله بن مسعود ﵁ قال: إن من الجفاء أن تبول وأنت قائم].
إن صح هذا عن ابن مسعود فإنه محمول على أنه خفي عليه ما رواه حذيفة (أن النبي ﷺ بال قائمًا).
2 / 9
الرخصة في البول قائمًا
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب: الرخصة في ذلك.
حدثنا هناد، حدثنا وكيع عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة ﵁: (أن النبي ﷺ أتى سباطة قوم فبال عليها قائمًا، فأتيته بوضوء، فذهبت لأتأخر عنه، فدعاني حتى كنت عند عقبيه، فتوضأ ومسح على خفيه)].
فعل ذلك لعله يستره، فجاء حتى كان عند عقبيه، يعني: ولاه ظهره وكان يستره، وقد اختلف العلماء في سبب ذلك، فقال بعضهم: إنه فعل ذلك لوجع في باطن الركبة، وقيل: لوجع في صلبه، ولكن هذه كلها أقوال ضعيفة، والصواب: أنه فعل ذلك لبيان الجواز، وأنه فعل لسبب اقتضى ذلك، وهو أنه: إما خشية أن يرتد إليه البول، إذ كان مكانًا غير مناسب للجلوس، أو لأن الأرض نجسة، أو لغير ذلك من الأسباب.
قال أبو عيسى: [وسمعت الجارود يقول: سمعت وكيعًا يحدث بهذا الحديث عن الأعمش، ثم قال وكيع: هذا أصح حديث روي عن النبي ﷺ في المسح].
وفيه جواز المسح على الخفين، وقد وردت أحاديث متواترة في ذلك، وهذا إنما يكون هذا في الحدث الأصغر، أما الجنابة فتخلع الخفان.
قال المصنف ﵀: [وسمعت أبا عمار الحسين بن حريث يقول سمعت وكيعًا فذكر نحوه.
قال أبو عيسى: وهكذا روى منصور وعبيدة الضبي عن أبي وائل عن حذيفة مثل رواية الأعمش.
وروى حماد بن أبي سليمان وعاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن المغيرة بن شعبة عن النبي ﷺ وحديث أبي وائل عن حذيفة أصح، وقد رخص قوم من أهل العلم في البول قائمًا.
قال أبو عيسى: وعبيدة بن عمرو السلماني روى عنه إبراهيم النخعي.
وعبيدة من كبار التابعين، يروى عن عبيدة أنه قال: أسلمت قبل وفاة النبي ﷺ بسنتين، وعبيدة الضبي صاحب إبراهيم: هو عبيدة بن معتب الضبي، ويكنى أبا عبد الكريم].
2 / 10
شرح جامع الترمذي_أبواب الطهارة [٢]
أرشدت السنة النبوية إلى بعض آداب قضاء الحاجة، ومنها: الاستتار والابتعاد عند قضاء الحاجة، وكراهية البول في المغتسل والاستنجاء باليمين، وبيان كراهية ما يستنجى به، وما جاء في الاستنجاء بالماء أو بالأحجار، وغير ذلك من الآداب الأخرى.
3 / 1
ما جاء في الاستتار عند الحاجة
قال الإمام الحافظ أبو عيسى الترمذي ﵀: [باب: ما جاء في الاستتار عند الحاجة.
حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد السلام بن حرب الملائي عن الأعمش، عن أنس ﵁ قال: (كان النبي ﷺ إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض).
قال أبو عيسى: هكذا روى محمد بن ربيعة عن الأعمش عن أنس هذا الحديث.
وروى وكيع وأبو يحيى الحماني عن الأعمش قال: قال ابن عمر ﵄: (كان النبي ﷺ إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض) وكلا الحديثين مرسل].
والمرسل: هو ما سقط منه صحابي، وهو من النوع المنقطع، وبعض المحدثين يسمي المنقطع مرسلًا.
قال المصنف ﵀: [ويقال: لم يسمع الأعمش من أنس ﵁ ولا من أحد من أصحاب النبي ﷺ، وقد نظر إلى أنس بن مالك قال: رأيته يصلي فذكر عنه حكاية في الصلاة].
لكن معناه صحيح، وأنه ينبغي للإنسان ألا يرفع ثوبه قبل دنوه من الأرض؛ لأن الأدلة التي دلت على وجوب ستر العورة تقتضي هذا، ولأن الحاجة إلى رفع الثوب إنما تكون إذا قرب من الأرض، أما أن يرفع ثوبه قبل أن يدنو من الأرض فلا حرج، لكن لا يجوز كشف العورة إلا لحاجة، حتى ولو كان للرحل.
فإن قيل: هل يجوز كشف العورة في الفضاء ونحوه؟ ف
الجواب
لا يجوز كشف العورة في الفضاء أو في غيره.
قال: [والأعمش اسمه: سليمان بن مهران أبو محمد الكاهلي، وهو مولى لهم، قال الأعمش: كان أبي حميلًا فورثه مسروق].
قال في الشرح: [قال الأعمش: كان أبي حميلًا فورَّثه مسروق، أي: جعله وارثًا].
والحميل: الذي يحمل من بلاده صغيرًا إلى دار الإسلام، كذا في مجمع البحار، وفي توريثه من أمه التي جاءت معه، وقالت: إنه هو ابنها.
خلاف، فعند مسروق أنه يرثها، فلذلك ورث والد الأعمش أي: جعله وارثًا، وعند الحنفية أنه لا يرث من أمه].
لأن هذه دعوى، فمن يعرف أنه ولدها، فقد تكون أخذته من غيره، والصواب: وَرِثه، وليس ورَّثه.
قال: [قال الإمام محمد في موطئه: أخبرنا مالك، أخبرنا بكير بن عبد الله بن الأشج عن سعيد بن المسيب قال: أبى عمر بن الخطاب ﵁ أن يورث أحدًا من الأعاجم إلا ما ولد في العرب.
قال محمد: وبهذا نأخذ، لا يورث الحميل الذي يسبى وتسبى معه امرأة، وتقول: هو ولدي أو تقول: هو أخي، أو يقول: هي أختي، ولا نسب من الأنساب يورث إلا ببينة، إلا الوالد والولد؛ فإنه إذا ادعى الوالد أنه ابنه وصدقه فإنه ابنه، ولا يحتاج في هذا إلى بينة].
قال: [قوله: (إذا أراد الحاجة) -أي: قضاء الحاجة- والمعنى: إذا أراد القعود للغائط أو للبول.
وقوله: (حتى يدنو من الأرض) أي: حتى يقرب منها، محافظة على التستر، والاحتراز عن كشف العورة، وهذا من أدب قضاء الحاجة.
قال الطيبي: يستوي فيه الصحراء والبنيان؛ لأن في رفع الثوب كشف العورة، وهو لا يجوز إلا عند الحاجة، ولا ضرورة في الرفع قبل القرب من الأرض].
وهذا من الآداب لكن قد يقال: إنه شبهة، يعني: لو رفع قبل؛ لأن كشف العورة الأصل أنه ممنوع، لكن قد يقال له: شبهة لكن الآن بعض الناس يتساهل، فلا ينبغي له أن يتساهل ويرفع قبل الدنو من الأرض.
3 / 2
ما جاء في كراهة الاستنجاء باليمين
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب: ما جاء في كراهة الاستنجاء باليمين.
حدثنا محمد بن أبي عمر المكي، حدثنا سفيان بن عيينة عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه: (أن النبي ﷺ نهى أن يمس الرجل ذكره بيمينه)].
وهذا ثابت في الصحيحين، والنهي هنا للتحريم، والكراهة تحمل على كراهة التحريم، ولذا يحرم على الإنسان أن يستنجي بيده اليمين إلا للضرورة، كأن تكون يده اليسرى مقطوعة.
قال المصنف ﵀: [وفي هذا الباب عن عائشة وسلمان وأبي هريرة وسهل بن حنيف.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح].
قال في الشرح: [قوله: هذا حديث حسن صحيح، وأخرجه الشيخان بلفظ: (قال: إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء، وإذا أتى الخلاء فلا يمس ذكره بيمينه ولا يتمسح بيمينه).
قوله: (نهى أن يمس الرجل ذكره بيمينه) أي: بيده اليمنى تكريمًا لليمين، والنهي في هذا الحديث مطلق غير مقيد بحالة البول، وقد جاء مقيدًا، ففي صحيح مسلم عن أبي قتادة بلفظ: (لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول)].
فالاستنجاء غير مس الذكر، ومس الذكر مقيد بالبول، وقد جاء في الحديث الآخر في الصحيحين: (نهى أن يستنجي بيمينه، ونهى أن يمس ذكره وهو يبول، ونهى أن يتنفس في الإناء)، كل هذه الثلاثة جاءت في الصحيحين.
فهذا مقيد بحالة البول وهو في الصحيح؛ لأنه قد يصيبه شيء من البول ومن النجاسة، واليمين تبقى محرمة، أما الاستنجاء باليمين فلا يجوز، وأما مس الذكر فمقيد في حال بوله.
قال في الشرح: [وقد جاء مقيدًا، ففي صحيح مسلم عن أبي قتادة بلفظ: (لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول)، وفي صحيح البخاري عنه: (إذا بال أحدكم فلا يأخذن ذكره بيمينه)، قال البخاري في صحيحه: باب: لا يمسك ذكره بيمينه إذا بال.
قال الحافظ في الفتح: أشار بهذه الترجمة إلى أن النهي المطلق عن مس الذكر باليمين كما في الباب قبله محمول على المقيد بحالة البول، فيكون ما عداه مباحًا، وقال بعض العلماء: يكون ممنوعًا أيضًا من باب الأولى؛ لأنه نهى عن ذلك مع مظنة الحاجة في تلك الحالة، وتعقبه أبو محمد بن أبي جمرة: بأن مظنة الحاجة لا تختص بحالة الاستنجاء، وإنما خص النهي بحالة البول من جهة أن مجاور الشيء يعطى حكمه، فلما منع الاستنجاء باليمين منع مس آلته حسمًا للمادة، ثم استدل على الإباحة بقوله ﷺ لـ طلق بن علي حين سأله عن مس ذكره: (إنما هو بضعة منك)، فدل على الجواز في كل حال، فخرجت حالة البول بهذا الحديث الصحيح، وبقي ما عداها على الإباحة].
وهذا هو الصواب: أنه مقيد بحالة البول؛ لأنه قال: يصيبك شيء من البول.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وأبو قتادة الأنصاري اسمه: الحارث بن ربعي، والعمل على هذا عند عامة أهل العلم: كرهوا الاستنجاء باليمين].
3 / 3
الاستنجاء بالحجارة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب: الاستنجاء بالحجارة.
حدثنا هناد، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن عبد الرحمن بن يزيد قال: (قيل لـ سلمان: قد علمكم نبيكم ﷺ كل شيء حتى الخراءة؟ فقال سلمان: أجل، نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم)].
هذا الحديث أخرجه النسائي، وأخرجه أيضًا الشيخان في كراهة الاستنجاء باليمين، وفيه تحريم الاستنجاء باليمين، وفيه أيضًا تحريم الاستنجاء بأقل من ثلاثة أحجار، أو الاستنجاء بالعظم والرجيع.
وحديث تحريم استقبال القبلة رواه الشيخان وأصحاب السنن، وهو محمول على الصحراء، أما في البنيان فلا بأس، وهذا على الصحيح؛ لحديث ابن عمر.
قوله: (وأن نستنجي باليمين) فيه تحريم الاستنجاء باليمين إلا عند الضرورة.
وقوله: (أو أن يستنجى أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار) هذا رواه النسائي أيضًا، وهذا إذا أراد أن يكتفي به عن الماء، أما إذا أراد أن يستعمل الماء فلا بأس أن يستنجي بحجر أو حجرين.
وقوله: (أو أن نستنجي برجيع أو بعظم) فيه دليل على الحرمة، والرجيع: الروثة، وهذا فيه إفساد على الجن؛ لأنه يعود إليه حبه الذي أكل، والعظم فيه إفساد على الجن؛ لأنه يعود إليه لحمه الذي أكل، كما في الصحيح قال النبي ﷺ: (لا تستنجوا برجيع ولا عظم، فإنه زاد إخوانكم من الجن).
وهذا إذا أراد أن يكتفي به عن الماء، فلابد من الاستجمار بثلاثة أحجار، وتكون منقية، ولا يبقى إلا شيء يسير لا يزيله إلا الماء، وألا يعدو للخارج موضع العادة، فإن تجاوز الخارج موضع العادة فلا يكفيه إلا الماء.
فالاستجمار ثلاثًا، سواء كان بأحجار أو بشيء متحجر أو مناديل الورق الخشن أو خشب، إلا الشيء الأملس، كالزجاج، وكذلك العظم والروث والطعام المحترم، وذيل الدابة وكتب العلم، فهذا كله محرم لا يجوز الاستنجاء به، وقد يقال: إنها محترمة إذا كان فيها كلام لأهل العلم، وكلام مفيد ولو لم يكن فيها ذكر الله.
قال أبو عيسى: وفي الباب عن عائشة وخزيمة بن ثابت وجابر وخلاد بن السائب عن أبيه ﵃.
قال أبو عيسى: وحديث سلمان في هذا الباب حديث حسن صحيح، وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي ﷺ ومن بعدهم، رأوا أن الاستنجاء بالحجارة يجزئ، وإن لم يستنج بالماء، إذا أنقى أثر الغائط والبول، وبه يقول الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق].
3 / 4