25
قال حسين كرشة لنفسه وهو يقترب من زقاق المدق: «هذا وقت اجتماعهم في القهوة، وسيرونني جميعا بلا أدنى شك، وسيخبرون أبي بمقدمي إذا عمي هو عنه.» كان الليل قد أرخى سدوله، فأغلقت دكاكين المدق. وخيم عليها السكون، وضجت قهوة كرشة وحدها بالسمار. كان الفتى يسير بخطوات ثقيلة، منقبض الصدر، متجهم الوجه، يتبعه على الأثر فتى في مثل سنه وفتاة في مقتبل العمر. وكان حسين يرتدي قميصا وبنطلونا، ويحمل في يمناه حقيبة كبيرة، وكذلك كان الفتى الذي يتبعه، أما الفتاة فرفلت في فستان أنيق - بلا معطف ولا ملاءة - وقد بدت في مشيتها ذات وسامة ورشاقة، وإن لم تخل من ابتذال يشي بطبقتها. واتجه حسين صوب بيت السيد رضوان الحسيني دون أن يلتفت ناحية القهوة، ودخل البيت يتبعه رفيقاه. ثم رقوا السلالم حتى الطابق الثالث، ودق الفتى باب الشقة وقد ازداد وجهه تجهما، فسمع وقع أقدام تقترب، ثم فتح الباب وبدت أمه وراءه تقول بصوتها الخشن: «من؟» ولم تعرف الشبح الماثل أمامها لشدة الظلمة، فقال حسين بصوت منخفض: حسين!
وهتفت المرأة وهي لا تكاد تصدق أذنيها: حسين! .. ابني!
وهرعت إليه، وأمسكت بذراعيه، وقبلته، وهي تقول بحرارة: عدت يا بني! .. الحمد لله الذي أثابك إلى رشدك وحماك من وسوسة الشيطان، ادخل بيتك (وضحكت في انفعال). ادخل يا غادر .. لكم أقضضت مضطجعي .. وقطعت قلبي.
ودخل الشاب مستسلما ليديها، دون أن يخف تجهمه، وكأن استقبالها الحار لم يكد يجدي شيئا في تفريج كربه. ولما أن همت برد الباب حال بينها وبينه قائلا وهو يوسع للفتاة وللفتى: معي أناس .. ادخلي يا سيدة، ادخل يا عبده .. هذه زوجي يا أمي، وهذا شقيقها.
وبهتت المرأة، ولاحت في عينيها دهشة لا تخلو من انزعاج، وراحت تنظر إلى القادمين بذهول، ثم تنبهت إلى اليد المبسوطة للسلام فتمالكت عواطفها وسلمت وهي تخاطب ابنها بلا وعي تقريبا: تزوجت يا حسين! .. أهلا بك يا عروس .. تزوجت يا حسين دون أن تخبرنا؟! .. كيف رضيت أن تزف في غياب والديك وهما على قيد الحياة؟!
فقال حسين بامتعاض: الشيطان شاطر! .. كنت غاضبا ثائرا ساخطا .. وكل شيء قسمة ونصيب!
وانتزعت المرأة المصباح من الحائط، وتقدمتهم إلى حجرة الاستقبال، ووضعته على حافة النافذة المغلقة، ووقفت تتفرس في وجه زوج ابنها، وقد قالت الفتاة بصوت أسيف: أحزننا والله غيابكم، ولكن ما باليد حيلة.
وأبدى شقيقها كذلك أسفه، فابتسمت المرأة، ولم تكن أفاقت بعد من دهشتها، وتمتمت: أهلا بكم جميعا.
ثم التفتت صوب ابنها وقد هالها تجهمه وجموده، وذكرت لأول مرة أن فمه لم ينفرج عن كلمة طيبة واحدة منذ حضوره، فقالت بعتاب: هكذا تذكرتنا أخيرا!
Неизвестная страница