لم أعرف معنى كلمة «زنى» التي ينطقها المدرس بطرف لسانه، كأنما هي بصقة يلفظها من بين شفتيه، لكني تصورت أن موهبة الموسيقي لها علاقة ما بالزنا. وإلا فكيف يمكن بنت الزنا أن تتفوق علينا جميعا في الموسيقى؟!
في أعماقي كنت أحسدها، أراها تمشي في الشارع بقامتها الطويلة الصلبة. تحرك ذراعيها وساقيها بسهولة، ترقص وتغني مع أطفال الشوارع بحرية، لا تخاف أن تتأخر عن العودة إلى البيت. ليس لها بيت تعود إليه، ليس لها أم تنهرها أو أب يصفعها على وجهها إن تأخرت.
في الليل، قبل أن أسقط في النوم، كنت أسمع أبي وأمي يتشاجران. كان عمري خمسة عشر عاما، تلميذة بالمدرسة الثانوية. أسترجع كلمات المدرس حين كان يقول إنني سأصبح كاتبة كبيرة مثل أبي الأستاذ الكبير زكريا الخرتيتي .
أرى صورة أبي منشورة داخل البرواز، فوق وجهه ابتسامة مشرقة، لم أكن أرى هذه الإشراقة في البيت. كان أبي صامتا معظم الوقت، يعود من مكتبه في الجريدة ليدخل غرفة مكتبه في البيت. غرفة كبيرة جدرانها الأربعة تغطيها رفوف الكتب، مكتبه إلى جوار النافذة الزجاجية المطلة على النيل، من خشب الأبنوس المنقوش، تغطيه الصحف والمجلات، صورته معلقة فوق الجدار داخل برواز ذهبي، ينحني أمام رئيس الدولة يتلقى الجائزة التقديرية الكبرى في عيد الأدب والفن.
كان أبي يحذرني من الخروج إلى الشارع، كان يقول لي: إن بنات العائلات الكريمة لا يلعبن مع الأطفال في الشارع. إن جرائم الاغتصاب خطيرة، تنشر الصحف عن هذه الحوادث كل يوم، تتزايد الجرائم مع تزايد الفقر والبطالة، شباب يتخرجون من الجامعات دون عمل من دون أمل في الحصول على الطعام. فما بال الحصول على زوجة؟! يعيشون الحرمان ويغتصبون البنات في الشوارع.
كان شيء ما يجذبني إلى الشارع. داخل البيت كانت الجدران مطلية بألوان وردية زاهية، لكن الهواء كان ثقيلا، كأنما يعبئه دخان شفاف لا تراه العين، لا يشمه الأنف، أحسه يسري فوق جسدي ناعما مشبعا بالكراهية، بالصمت، بالاكتئاب والحزن الخفي.
كانت نوافذ بيتنا مغلقة دائما بالزجاج المزدوج والستائر؛ منعا لدخول التراب المتصاعد من الشوارع، وأيضا الضجيج المتزايد، الأصوات الصاخبة المتصاعدة من الميكروفونات المعلقة فوق منارات الجوامع، دقات الطبول والرقص في حفلات الزواج، والكازينوهات والكباريهات، وصفارات البوليس والحرائق.
كنت أسال أمي، وأنا طفلة: لماذا تزوجت أبي؟ ترد علي قائلة: «الحب يا مجيدة.» لم أكن أعرف بعد معنى الحب بين رجل وامرأة. أحاول في وجه أمي حين تنظر لأبي، أو في وجه أبي حين ينظر إلى أمي، أحاول أن ألتقط نظرة حب في عينيها أو عينيه دون جدوى. لم ألتقط يوما نظرة حب داخل بيتنا، حتى كبرت وعرفت أشياء لم أعرفها.
كان أبي صامتا، وإن تحدث فهو يحكي عن شيء يتعلق بعموده اليومي في الجريدة، أو رئيس التحرير، أو الوزير، أو رئيس الدولة. قد يحكي عن التظاهرات ضد الحرب خارج البلاد، أو سقوط الحكم في العراق، أو مشاكل الفقر في مصر والسودان وإثيوبيا.
كانت أمي أستاذة كبيرة مثل أبي، ربما أكبر منه قيمة؛ فهي رئيسة قسم النقد الأدبي في الجامعة، تحمل درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف. حصلت على الجائزة التقديرية الكبرى قبل أن يحصل عليها أبي، صورتها معلقة داخل برواز ذهبي في غرفة مكتبها، تنحني وهي تتسلم الجائزة من السيد رئيس الدولة في عيد الأدب والفن.
Неизвестная страница