ولقد أحبت مدام لامار مريم وأعجبت بذكائها، ولما وصلت إلى الإسكندرية مكثت فيها بضعة أيام تنتظر الباخرة الإفرنسية وابتاعت للفتاة من حاجات اللبس والسفر ما يجعلها أهلا لرفقتها، فلبست مريم المشد والقبعة ذات الريش والحذاء العالي الكعب، وسرت سيدتها بشكلها الجديد وأعجبت بارتياحها في الزي الإفرنجي كأنها اعتادته صغيرة، وبينا كانت وإياها في السوق دخلت إلى مكتبة تبتاع بعض الجرائد الإفرنسية والمجلات، فسألتها إذا كانت تحب المطالعة؟ فأجابت بالإيجاب، فاشترت لها رواية تأليف فرنسوا كبه ورسائل مدام دي ستال وكتاب «سياحة في الشرق» للامرتين، فتناولت مريم الرزمة من صاحب المكتبة وسألته قائلة: «وهل عندك كتب عربية؟» فهز رأسه بازدراء، فتعجبت مريم، فقالت مدام لامار: يظهر أن الكتب العربية لا تباع في البلاد الإنكليزية. - وأين تباع؟ في فرنسا؟ - أصبت، فقد اشترينا الكتب الإفرنسية في مصر، وسنشتري الكتب العربية في باريس.
فلم يعجب مريم ذا التهكم من سيدتها، وبينا هما سائرتان في شارع شريف باشا، ومريم - وقد استفزتها الغيرة الوطنية - تحدق في شبابيك المخازن علها ترى هناك كتابا عربيا ترفع به شأن وطنها في نظر السيدة الإفرنسية، لاح لها في أحد الأزقة إلى جانب الشارع الكبير جرنال عربي معلق بشريطة تحت صف من الزجاجات، وفيها التبغ والسكاير وعلب الكبريت وأنواع الأبازير، فطرقت وسيدتها تلك الناحية فإذا هناك دكة أو بالحري دكان فيه شاب يكاد من ضيق ما هو فيه لا يستطيع حراكا، وراءه رفرف بعض الكتب مرصوصة بين صناديق من الكرتون عهدها أقدم من «العهد القديم».
فقالت مريم مستبشرة: وهل عندك كتاب عربي؟ - نعم، عندي.
وسحب الشاب رزمة من خلال تلك الصناديق ونفض عنها الحديث من الغبار وفكها يعرض الأجزاء، فاستوقف نظر مريم عنوان أحد الكتب فأخذته تقلب في صفحاته، فقال الشاب: ذوقك سليم والله، ذوقك جميل، أهم كتاب طبع في هذه الأيام، وقد أحدث ضجة في العالم العربي، وأقام العالم الإسلامي وأقعده، مؤلفه من نوابغ الزمان، كتاب نفيس والله، ينبغي أن تطالعه كل امرأة شرقية، جاءني منه نسختان في الشهر الماضي ولم يبق غير هذه التي بين يديك، خذيها، فلا تندمي، طالعيها تستفيدي.
فاشترت مريم كتاب «تحرير المرأة» وراحت تترجم لسيدتها ما قاله الشاب فيه، فضحكت مدام لامار لسذاجة الشرقيين، أو ما يظنه الإفرنج سذاجة فينا، وهي تفكر بكتاب وصف هذا الوصف وما بيع منه في شهرين سوى نسختين. - يحق لك أن تفرحي، فقد ظفرت بكتاب عربي. - نعم.
ووقفت مريم إذ ذاك تنظر وراءها كأنها رأت بين العابرين من تعرفه ثم توارى في مزدحم الناس، فسألتها سيدتها: ما بالك؟ فاضطرب عليها. ومشت ترافقها إلى شركة البواخر الإفرنسية، فقضت مدام لامار حاجتها هناك، وركبت العربة تعود إلى النزل، ولم تكد مريم تستقر فيها إلى جنب سيدتها حتى رأت الشاب ثانية وهو داخل إلى مكتب الشركة، فصاحت على الفور: «مدام مدام!» كأنها تنادي أحد رجال الشحنة، فأوقفت مدام لامار العربة تقول: هل نسيت شيئا؟ فقالت مريم: لا لا، وراحت تردد في نفسها: ما أشبهه به يا ربي ما أشبهه به!
المصائب إذا تعددت ينسخ بعضها بعضا، يزيل اللاحق منها السابق أو يخفف أهواله. والفرح الشديد ينسي أجل الخطوب، لما فجعت مريم في ولدها نست عارفا، ولما جد في حالها ما جد من سفرها مع السيدة الإفرنسية نست القس جبرائيل وما قاسته في الناصرة وعلى شاطئ البحيرة من الشدة والعذاب، وما كان النسيان فيها غير ضرب من الرقاد يزول إذا لمسته الصدف بقضيب سحرها، ولما أمست في الباخرة في اليوم الثاني هبت العاصفة في صدرها؛ عاصفة الحب والذكرى لمجرد وجه رأته في مزدحم يموج بالألوف من الوجوه البشرية، فندمت لأنها لم تكلم ذاك الغريب لتحقق ظنها، ووقفت عند الغروب في مؤخر الباخرة تتكئ على الحافة وتنظر كئيبة حزينة إلى زبد الأمواج تحتها، ثم أخذت من صدرها الذخيرة التي أعطاها إياها القس جبرائيل، ففاح منها أريج مروج الجليل وأسمعتها هديل حمام البحيرة فطفقت تقبلها وتبكي، وبين هي كذلك كان أحد المسافرين يتمشى على ظهر الباخرة ويراقبها خلسة، وكان قد رآها أصيل ذاك النهار تصعد إلى الباخرة فراقه جمالها وأشكل عليه أمرها.
وقرع إذ ذاك جرس المائدة فمسحت مريم دموعها وما كادت تميل بوجهها حتى تراءى لها الوجه الذي أبصرته في المدينة؛ وجه من كان يراقبها، فاعترتها رعدة أغشت بصيرتها فهتفت قائلة: هل هو بعينه يا ربي أم أنا واهمة؟ ولكنها حينما جلست إلى المائدة رأته جالسا أمامها فزالت دهشتها؛ [فقد كان] غير الشاب الذي رأته في الإسكندرية.
وفي اليوم الثاني بينما كانت جالسة في كرسيها على ظهر الباخرة تطالع في كتاب «تحرير المرأة» اقترب منها فخاطبها بلهجة لا يجسر أن يخاطب بها سيدة إفرنجية، فقال دون ديباجة أو اعتذار: أظنك من مصر؟ - فدهشت مريم لهذه المبادرة وأجابته بصوت شجي تتمازج فيه أنفة مع لطف ومعروف: لا يا خواجا، لست من مصر. - من لبنان إذن. - ولا من لبنان، بل من فلسطين. - ولماذا كنت تبكين مساء البارح؟ هل من حاجة لك أقضيها؟ - لا حاجة، كثر الله خيرك.
وقالت في نفسها: ما ألطف هذا الشاب، وما أجمل معروفه! ولكنها لم تدرك شيئا من وراء ذينك اللطف والمعروف.
Неизвестная страница