فاستوقفت نظر السيدة الإفرنسية وقد أعجبت بها، فسألتها مازحة إذا كانت تحب أن تسافر معها إلى فرنسا فتخدم في بيتها هنالك.
فأجابت مريم على الفور بالإفرنسية: «وي مدام آفك بليزير.»
فقالت السيدة وقد أعجبت بمريم كثيرا: تعالي إلى النزل في طبريا، سأسافر بعد يومين إلى حيفا ومنها إلى مصر. - «وي مدام آفك بليزير مدام.»
ولما عاد القس جبرائيل من تلحوم كانت مريم تنتظره في البيت وقد أعدت العشاء، فأخبرها أنه بعث رسولا إلى أخيه في سوريا وسيعود بعد أسبوع، وأنه بعد يومين ينقل وإياها إلى البيت في سهل المغير. - ما بالك لا تجيبين؟ - إرادتي في يدك. - حسن، حسن يا بنتي، ليباركك الله.
وفي اليوم التالي شخص القس جبرائيل إلى سمخ لقضاء حاجة تختص بأملاكه في السهل فاستغنمت مريم الفرصة وذهبت إلى النزل في طبريا لتقابل السيدة الإفرنسية، وبعد أن استطلعت هذه شيئا من أمرها وتحققت رغبتها أوعزت إليها أن تجيء صباح الغد باكرا فتسافر معها إلى حيفا ومنها في المساء إلى مصر، فعادت مريم مستبشرة بقرب خلاصها فرحة بالسفر إلى فرنسا مع سيدة جليلة إفرنسية، ولما وصلت إلى البيت كان القسيس يضرم النار في الموقد ليسخن شيئا من الطعام، فسألها: أين كنت؟ فأجابت: كنت في طبريا. - وما غرضك هناك يا بنتي؟ - التفرج والنزهة.
فسكت القس جبرائيل ثم قال: لا تروحي مرة ثانية وحدك إلى أبعد، لو أظهرت لي رغبتك لرافقتك، وتناول وإياها العشاء مساء ذاك اليوم وهو مسرور بما شاهد في نفسها من الخفة والبشاشة، ومسرور بقرب رجوع رسوله يحمل إليه وإليها خبرا من أخيه يوسف مرضيا.
ونام تلك الليلة مطمئن النفس ناعم البال، ولكنه طلب مريم في صباح اليوم الثاني فلم يجدها.
الفصل الحادي عشر
من عادات أكابر الفرنسيس وخاصة منهم أكابر الطبقة الوسطى طبقة ال «بورجوازي» أنهم يستخدمون في بيوتهم لتربية أولادهم المربيات الأجنبيات، وقد أمست العادة هذه زيا تجري عليه ربات البيوت ويغرقن فيه، حتى إن الواحدة منهن لتفاخر أترابها بتعدد أولئك المعلمات في بيتها، فتذكر مس جسي مثلا مربية ابنها الإنكليزية إذا ذكرت سيارتها الجديدة، وتشير ازدهاء إلى رأي السنيورا كارولينا معلمة ابنتها الموسيقى إذا تكلمت عن الرواية الأخيرة في ال «أبرا» وتثني على فرولن شمت المعلمة الألمانية إذا ذكرت المناوشة الأخيرة بين الألمان والفرنسيس في ننسي أو في متز، ولا تنسى مس - الله أعلم - الأميريكية معلمة أولادها ال «جمنستيك» والرقص إذا كان الحديث في المال والأزياء الأخيرة، وفي أكثر الأحايين تدور على الأولاد من كثرة المعلمات الدوائر، وتدور على السيدة ربة البيت أيضا إذا كان زوجها ضجرا ملولا وكانت المعلمة قد خصت بشيء غير العلم.
أما مدام لامار فأرملة لا زوج لها غير الإحسان، هي من السيدات الإفرنسيات المتدينات اللواتي يوقفن على المستشفيات والأديرة في الشرق الأموال الطائلة ويحسن إلى رجال الدين عندنا إحسانا جما متواصلا، وهي تحب سوريا خاصة وأبناءها، وتحب أن تقيم فيها وابنها الوحيد، لذلك شاءت أن تعلمه اللغة العربية، ولما جمعتها الصدفة بمريم وعلمت أنها يتيمة وأنها تحسن اللغتين العربية والإفرنسية ماجت في صدرها ثلاث عواطف متباينة، فقالت في نفسها أولا: «مسكينة هذه الفتاة.» والشفقة في ذوي الإحسان عاطفة مطبوخة حاضرة، ثم قالت: «نعم المعلمة لفرنسوا.» ثم همست في قلبها: «وسأفاخر أترابي بمعلمة شرقية سورية.»
Неизвестная страница