وهلْ كنتُ إلاَّ مُعمَدًا قانطَ الهوَى ... أسرَّ فلمَّا قادهُ الشَّوقُ أعلَنا
أتانِي هواها قبلَ أنْ أعرفَ الهوَى ... فصادفَ قلبِي خاليًا فتمكَّنا
ولعمري إنَّ هذا لمن نفيس الكلام غير أنَّ في البيت ضعفًا وذلك أنَّه جعل سبب تمكُّن الهوَى من قلبه أنَّه صادفه خاليًا لم يسبقه إليه غيره وليست هذه من أحوال أهل التَّمام إذ كلُّ من صادف محلا لا يدافع عنه لم يتعذر عليه طريق التَّمكُّن منه.
وقد قال بعض أهل هذا العصر:
وقدْ كانَ يسبِي القلبَ في كلِّ ليلةٍ ... ثمانونَ بلْ تسعونَ نفسًا وأرجحُ
يهيمُ بهذا ثمَّ يعشقُ غيرهُ ... ويسلاهمُ مِنْ فورهِ حينَ يصبحُ
وكانَ فؤادِي صاحيًا قبلَ حبِّكمُ ... وكانَ بحبِّ الخلقِ يلهُو ويمزحُ
فلمَّا دعَا قلبِي هواكَ أجابهُ ... فلستُ أراهُ عنْ ودادكَ يبرحُ
رُميتُ بهجرٍ منكَ إنْ كنتُ كاذبًا ... وإنْ كنتُ في الدُّنيا بغيركَ أفرحُ
وإنْ كانَ شيءٌ في البلادِ بأسرِها ... إذا غبتَ عنْ عينيَّ عندِي يملحُ
فإنْ شئتَ واصِلْنِي وإنْ شئتَ لمْ تصلْ ... فلستُ أرَى قلبِي لغيركَ يصلحُ
فالمحبَّة ما دامت لهوًا ونظرًا فهي عذبة المبتدأ سريعة الانقضاء فإذا وقعت مرتَّبة على التَّمام في المصافاة تعذَّرت قدرة القلب على هواه فحينئذ تضلُّ أفهام المتميزين وتبطل حيل المتفلسفين.
وفي نحو ذلك يقول بعض الظرفاء:
طوَى شَجَنا في الصَّدرِ فالدَّمعُ ناشرُهْ ... فإنْ أنتَ لمْ تعذرهُ فالشَّوقُ عاذرُهْ
هوًى عذبتْ منهُ مواردُ بدرهِ ... فلمَّا نمَى أعيتْ عليهِ مصادرُهْ
وأنشدني أبو العباس أحمد بن يحيى لامرأة من قيس:
وما كيِّسٌ في النَّاسِ يُحمدُ رأيهُ ... فيوجدُ إلاَّ وهوَ في الحبِّ أحمقُ
وما مِنْ فتًى ما ذاقَ بؤسَ معيشةٍ ... فيعشقُ إلاَّ ذاقَها حينَ يعشقُ
وقال عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير:
ورمَى الهوَى منَّا القلوبَ بأسهمٍ ... رميَ الكُماةِ مَقاتلَ الأعداءِ
ومنَ العجائبِ قتلهُ لكرامِنَا ... وشِدادِنا بمكائدِ الضُّعفاءِ
وقال أبو دلف:
الحربُ تضحكُ عنْ كرِّي وإقدامِي ... والخيلُ تعرفُ آثارِي وأقدامِي
سيفِي مدامِي ورَيْحانِي مُثقفةٌ ... وهمَّتي مِقَةُ التَّقصيمِ للهامِ
وقدْ تجرَّدَ لي بالحسنِ مُنفردًا ... أمضَى وأشجعُ منِّي يومَ إقدامِي
سلَّتْ لواحظهُ سيفَ السَّقامِ علَى ... جسمِي فأصبحَ جسمِي رَبعَ أسقامِ
وقال آخر:
ألا قاتلَ اللهُ الهوَى كيفَ يقتلُ ... وكيفَ بأكبادِ المحبِّينَ يفعلُ
فلا تعذُلنِّي في هوايَ فإنَّني ... أرَى سَورةَ الأبطالِ في الحبِّ تبطلُ
وقال آخر:
الحبُّ يتركُ مَنْ أحبَّ مدَلَّهًا ... حيرانَ أوْ يقضِي عليهِ فيسرعُ
الحبُّ أهونهُ شديدٌ فادحٌ ... يهنُ القويَّ منَ الرِّجالِ فيصرعُ
مَنْ كانَ ذا حزمٍ وعزمٍ في الهوَى ... وشجاعةٍ فالحبُّ منهُ أشجعُ
وقال النابغة الذبياني:
لوْ أنَّها عرضتْ لأشمطَ راهبٍ ... يدعُو الإلهَ صرورةٍ مُتعبِّدِ
لرَنَا لبهجتِها وحسنِ حديثِها ... ولخالَهُ رشَدًا وإنْ لمْ يرشدِ
أسعُ البلادَ إذا أتيتكِ زائرًا ... وإذا هجرتكِ ضاقَ عنِّي مَقعدِي
وأنشدتني أعرابية بالبادية:
تبصَّرْ خليلِي هلْ ترَى بينَ وائشٍ ... وبينَ أحَيٍّ مِنْ ظعائنَ كالأثْلِ
ظعائنُ يَسلبنَ الفتَى الغرَّ عقلهُ ... وذا الأهلِ حتَّى لا يُبالِيَ بالأهلِ
وقال آخر:
أروحُ ولمْ أُحدثْ لليلى زيارةً ... لبئسَ إذًا راعِي المودَّةِ والوصلِ
ترابٌ لأهلِي لا ولا نعمةٌ لهمْ ... لشدَّ إذنْ ما قدْ تعبَّدنِي أهلِي
وقال ماني:
مُكتئبٌ ذُو كبدٍ حرَّى ... تبكِي عليهِ مقلةٌ عبرَى
يرفعُ يمناهُ إلى ربِّهِ ... يدعُو وفوقَ الكبدِ اليسرَى
يبقَى إذا كلَّمتهُ باهتًا ... ونفسهُ ممَّا بهِ سكرَى
تحسبهُ مُستمعًا ناصتًا ... وقلبهُ في أُمَّةٍ أُخرَى
وقال غيره وهو مجنون بني عامر:
1 / 7