وفي هذا النحو يقول بعض أهل هذا العصر:
فلا تهجرْ أخاكَ بغيرِ ذنبٍ ... فإنَّ الهجرَ مفتاحُ السُّلوِّ
إذا كتمَ الخليلُ أخاهُ سرًّا ... فما فضلُ الصَّديقِ علَى العدوِّ
ويقال إنَّ الخلَّة بين الآدميين مأخوذة من تخلُّل المودَّة بين اللَّحم والعظم واختلاطهما بالمخ والدم وهذا المعنى غير مخالف للأول بل هو أوضح سبب له لأن من حلَّ من النفس هذا المحل لم يستبدَّ عنه بأمر ولم يستظهر عليه بسرّ.
وقد أنشدنا لعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود في هذا النحو:
تغلغلَ حبُّ عَثمةَ في فؤادِي ... فباديهِ معَ الخافِي يسيرُ
تغلغلَ حيثُ لمْ يبلغْ شرابٌ ... ولا حزنٌ ولمْ يبلغْ سرورُ
ثمَّ تقوى الخلَّة فتوجب الهوَى والهوَى اسم لانحطاط المحب في مَحابِّ المحبوب وفي التوصُّل إليه بغير تمالك ولا ترتيب.
أنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى:
وإنَّ امرءًا يهوِي إليكِ ودونهُ ... منَ الأرضِ مَوْماةٌ وبيداءُ خَيْفقُ
لمحقوقةٌ أنْ تستجيبي لصوتهِ ... وإنْ تعلَمِي إنَّ المعينَ موفَّقُ
ثمَّ تقوى الحال فيصير عشقًا والعاشق يمنعه من سرعة الانحطاط في هوى معشوقه إشفاقه عليه وضنُّه به حتَّى أنَّ إبقاءه عليه ليدعوه إلى مخالفته وترك الإقبال عليه فمن النَّاس من يتوهَّم لهذه العلَّة أنَّ الهوَى أتمُّ من العشق وليس الأمر كذلك ثمَّ يزداد العشق فيصير تتْيِيمًا وهو أن تصير حال المعشوق مستوفية للعاشق فلا يكون فيه معها فضل لغيرها ولا يزيد بقياسه شيئًا إلاَّ وجدته متكاملًا فيها.
وفي مثل هذا المعنى يقول أبو الشيص:
وقفَ الهوَى بِي حيثُ أنتِ فليسَ لِي ... مُتأخَّرٌ عنهُ ولا مُتقدَّمُ
أجدُ الملامةَ في هواكِ لذيذةً ... حبًّا لذكركِ فليلُمْنِي اللُّوَّمُ
أشبهتِ أعدائِي فصرتُ أُحبُّهمْ ... إذ كانَ حظِّي منكِ حظِّي منهمُ
وأَهنتِنِي فأهنتُ نفسِي جاهدًا ... ما مَنْ يهونُ عليكِ ممَّنْ أُكرمُ
ولو لم يقل أبو الشيص في عمره بل لو لم يقل أحد من أهل عصره غير هذه الأربعةِ الأبيات لكانوا مقصرين وإذا كانت كل خواطر العشَّاق فيما يتمنَّاه واقعة ممَّن يهواه على الأمر الَّذي يرضاه فهذه في المشاكلة الطبيعية الَّتي لا يفنيها مرُّ الزَّمان ولا تزول إلاَّ بزوال الإنسان وإذا صحَّ هذا المذهب لم يعجب من أن يميل الإنسان إلى الإنسان بخلَّة أوْ خلَّتين فإذا زالت العلَّة زال الهوَى فلا يزال المرابط متنقِّلًا إلى أن يصادف من يجتمع فيه هواه فحينئذ يرضاه فلا ينعطف عنه إلى أحد سواه.
ولبعض أهل هذا العصر في هذا المعنى:
أيا زاعمًا أنِّي لهُ غيرُ خالصِ ... وأنِّي موقوفٌ علَى كلِّ قانصِ
كمَا أنتَ فانظرْ في وفائكَ خالصًا ... تراهُ لمنْ يهواكَ أمْ غيرَ خالصِ
فحينئذٍ فارجعْ بما تستحقُّهُ ... عليَّ وطالبني إذًا بالنَّقائصِ
سأعرضُ نفسِي يمنةً وشآمةٌ ... علَى كلِّ ثاوٍ في البلادِ شاخصِ
إلى أن أرَى شكلًا يصونُ مودَّتِي ... فحينئذٍ أغلُو علَى كلِّ غائصِ
أمثلِي يخونُ العهدَ عنْ غيرِ حادثٍ ... رمانِي إذًا ربي بحتفٍ مُغافصِ
ثمَّ يزداد التَّتييم فيصير ولهًا والوله هو الخروج عن حدود الترتيب والتَّعطُّل عن أحوال التَّمييز حتَّى تراه يطلب ما لا يرضاه ويتمنَّى ما لا يهواه ثمَّ لا يحتذي مع ذلك مثالًا ولا يستوطن حالًا.
وقد قال حبيب بن أوس الطائي في نحو هذا:
ولَّهَتهُ العُلى فليسَ يعدُّ ال ... بؤسَ بؤسًا ولا النَّعيمَ نعيمًا
والشَّوق تابع لكلِّ واحدة من هذه الأحوال والمستحسن يشتاق إلى ما يستحسنه على قدر محلِّه من نفسه ثمَّ كلَّما قويت الحال قوي معها الاشتياق فالحبّ وما أشبهه يتهيَّأ كتمانه فإذا بلغت الاشتياق بطل الكتمان.
وفي مثل ذلك يقول يزيد بن الطثرية:
أعِيبُ الَّذي أهوَى وأُطرِي جواريًا ... يرينَ لها فضلًا عليهنَّ بيِّنا
برغمِي أُطيلُ الصَّدَّ عنها إذا بدتْ ... أُحاذرُ أسماعًا عليها وأعيُنا
فدْ غضبتْ أنْ قلتُ أنْ ليس حاجتِي ... إليها وقالتْ لمْ يُردْ أنْ يحبَّنا
1 / 6