استيقظت في المعلم الجرثومة اللبنانية فهاجر إلى فلسطين، وعاد بعد سنوات ومعه عروس، كان عرسه أول الأعراس التي شهدتها، جماهير زاحفة بتلك الهدية العسلية، غناء وحداء وزغردة، الملبس والرز والقمح تتناثر من كل بيت تمر به العروس، وأيد لطيفة تلوح بالقماقم راشة عليها وعلى موكبها ماء الزهر والورد. العريس على السطح منتصب فوق الباب الذي تدخل منه العروس، لصقت العروس الخميرة على العتبة، وانهالت عليها ضربا بالرمان ورشقت به الناس، ثم نزلت عن الفرس ودخلت عشها الجديد. كانت أم العريس تصطنع الابتسام وترحب بكنتها العتيدة طائفة حولها بصحن البخور؛ كانت تبخرها وتدرسها درسا فيزيولوجيا. الثياب جميلة والزي طريف، العروس بنت مدرسة ولكن وجهها الديناري يدل على أنها قليلة جدا؛ ذراع كالمسلكة، وساق كالمغزل، ويد كأص الكبا.
كانت أم العريس في تلك الساعة نهبا مقسما، تجيب الجميع على عباراتهم التقليدية بالأجوبة المعدة لها، وتؤهل بحرارة بربة البيت العتيدة، وقد سمعتها فيما بعد تشكر ربها على خروجها من تلك الهمكة ظافرة، يشهد لها الناس بالفصاحة وضبط النفس ...
وصمدت العروس فوق صندوق وإلى جانبها شبينتها وما حولها بنات جنسها، وتصدر العريس المجلس، وقعد الناس حوله وبين يديه في السماطين، وافتتح شاعر العرس سوق عكاظ، فقال «ردة» - هي أول محفوظاتي - مدح فيها العريس، فسرى عن والديه بعض الهم. نقر الدف نقر مدل فتطاولت إليه الأعناق وكان صمت، وما هتف «أوف» حتى صاح الجمهور بصوت واحد كالرعد «أوف»، ولم يقل:
كلن غابوا وما جابوا
السبع غاب وجاب
حتى تماوج الجمهور. أخذت الردة بالعقول كأنها السيما المحكي عنها أنها تحول الأشياء عن حقيقتها، فرددها الجميع متحمسين وصارت زيارة - اسم العروس - أخت الزهرة وبلقيس، إلا ثرثارة سمعتها تقول: لولا يرجع وحده، كان أحسن، الله يساعد أمه! وقالت امرأة أخرى: هذي زيارة، هذي زيار يا طنوس! وبعد أخذ ورد بين القوالة لعبت الخمرة في رءوس الشباب، فكان الرقص على قرع الطبل وعزف القصب، وهموا أن «يدبكوا» فمنعوهم لأن البيت علية أرضها خشب. أما نحن الصغار فعمنا في النقولات: ملبس، وقضامي، وفستق العبيد شيخ النقل الدائم، وفزنا علاوة بتحف مقدسية: مسابح، وصلبان، وصور، وأيقونات من أورشليم المقدسة، فترنحت نفوسنا بنعمة الله، وامتلأت بطون الكبار لحما وخمرا.
كان عرس المعلم أميريا، دام أسبوعين فأجهز على كيسه، أنفق في شهر ما جمعه في سنوات، ولم يبال لأنه ما تعود أن يبالي؛ نشأ وحيدا مدللا في بيت كان غنيا فافتقر، أمه أنوف ولكنها لا تستحي بالعمل، تأكل طورا من المغزل وتارة من الرفش، مشهود لها بالترتيب والنظافة، فبيتها دائما مسنون الأرض لا يدخله الناس إلا حفاة لئلا تخدش نعالهم وجه الطين، فهي تحمره كل سبت وتدلكه. كانت خبازة عبقرية تسهر على الرغيف سهر أكثر نساء اليوم على وجوههن وأناملهن ... يهمها أن يخرج الخبز من عندها بدون لو، أما زوجها أبو طنوس فكان جمالا ولكنه جمال أبي أمين، دستوره: «أعطنا خبزنا كفاف يومنا.» جعل وكده تعليم ولده ليعتز ويستريح، فشبع فخرا ولم يأكل خبزا.
لم يكن المعلم غير بر بوالديه، ولكنه كان والرغيف فرسي رهان، لا يدركه حتى يقطع في الجري أنفاسه، حال علمه وتربيته الأولى دون رضاه بالخسيس من العيش، وأصيب بمرض الكرسي فسعى وراء المثل الأعلى، هاجر في طلبه إلى البرازيل، وكان آخر العهد به.
كان جميل الخط حلو الإنشاء، إذا ظفر والده منه بمكتوب أقرأه معلم الأولاد، فيعجب بتعابيره وينسخها ليتعلمها ويعلمها، يتمنى المسكين لو يوفق مرة في العمر إلى واحدة مثلها. لم يكن يؤلم أبا طنوس هجران ابنه مثلما يؤلمه سؤال الناس عن أخباره، وما يسألون إلا عن الفلوس، وشاع يوما في الضيعة أنه تناول حوالة فسألوه على أي بنك، فقال بكل برودة: على بنك «من علمني حرفا كنت له عبدا.»
تلك كلمة ابنه عند افتخاره بالكرسي، فكانت رمية من غير رام.
Неизвестная страница