46

فقال الرجل باسما: إذا شئت أن تسميه بستانا.

وقال سيف وهو يذوق تفاحة: ما أشبه بستانك هذا ببعض أركان وادي ضهر.

ونظر إلى إفريز الجدار من أعلى، وكانت عليه زخرفة كبيرة الشبه بزخرف قصر ذي جدن، وكانت الجدران مطلية بجص أبيض لامع، لم تبق منه إلا قطع قليلة، وكانت الأبواب والنوافذ تحتفظ بأثر من روعتها، وبقية ألواح النوافذ المحطمة كانت من المرمر، الذي اعتاد سادة صنعاء أن يجعلوه في نوافذهم وسقوفهم، فلا يحجب لمعة الشمس وإن حجب حرارتها.

وقال سيف ماضيا في الحديث: لم أذق مثل هذه الفاكهة في غمدان، بل هي صنف لم أر مثله من قبل.

فانبسطت أسارير الشيخ وقال في بساطة: أأعجبتك حقا؟ وأخذ يمد يده إلى الطبق فيأخذ من أصنافه قطعا يضعها أمام سيف وهو يتحدث عنها وعن أشجارها، كأنه يتحدث عن جمع من الأصدقاء لكل منهم عنده قصة.

فهذا عنقود من العنب الملاحي، نقلت أولى أعواده منذ ثلاثين عاما من وادي الخارد، هدية من صديق كان شيخا لخثعم. وأما العنب الأشهب فقد نقل من وادي ضهر من حدائق ذي جدن جد الأمير نفسه.

وتبسم الشيخ قائلا: كان ذو جدن صديقا لي يا سيف. وأما شجر التفاح فإنه نقل من أعلى أودية السراة، أهداه الملك ذو نواس نفسه إلى أبيه شكرا له على خدمته في القضاء على ثورة أهل نجران. ألا تذكر قصة هذه الثورة؟ ثورة أتباع المسيح على ذي نواس؟

وكان سيف يستمع إليه في شغف كأن كل قطعة من الفاكهة إنسان من بقية الماضي، فلم يتنبه إلى سؤال الشيخ إلا بعد مضي لحظات، فقال في شيء من الارتباك: لا شك يا سيدي الشيخ أني أذكر تلك القصة، ولكني لم أعرف أنها وقعت في هذه السنين القريبة.

فقال الشيخ باسما: لم تكن في هذه السنين القريبة يا ولدي، فإنها وقعت منذ خمسين عاما.

ومضى في حديثه متدفقا في سرد الذكريات التي تثيرها فاكهة البستان، وكان يتحدث كما لو تحدث إلى نفسه. وكان سيف ينظر حينا إلى وجهه المجعد الذي خلعت عليه الحماسة شيئا من الحمرة، ثم إلى جدران البهو المتداعية وإلى نوافذه المحطمة، وإلى الفضاء الأغبر الذي خلف بابه كأنما كان يهيم في حلم.

Неизвестная страница