نشبت الثورة في بيمونته بعد اندحار جيش نابولي بثلاثة أيام، وكانت جميع قوات المحافظين قد تألبت دون مساعي «بروسبرو بالبو» في الإصلاح، وأمسى الجيش بيد الرجال الذين حاربوا النمسة في معركة «أوسترليج» فظلوا يعتبرونها عدوة، وأصبحوا يرون أنه على بيمونته أن تختار أحد الأمرين: إما الاحتلال النمسوي، وإما عرش إيطالية.
وانضم الكاربوناريون إلى المستائين، وكان الملك فيكتور عمانوئيل يحقد على الحزب النمسوي، الأمر الذي كان يزيد النار استعارا، أضف إلى ذلك أن سفيره في روسية «دي مستر» كان يدبر الدسائس في بطرسبرج في سبيل تأسيس مملكة في شمال إيطالية بحماية روسية.
لم يخطئ أعضاء جمعية الكاربوناري كثيرا حينما فكروا في أن يترأس الملك فيكتور عمانوئيل الحركة ويجمع حول رايته القوميين في جميع أنحاء إيطالية، وكان المتآمرون يميلون إلى إنجاز الإصلاحات قبل القيام بالحركة؛ ولذلك فإن أكثرهم قرروا المطالبة بالدستور الإسباني، ولكي يظفروا بعطف الملك على الحركة فكروا في اشتراك ولي العهد الأمير شارل ألبرت في مسعاهم.
وقد نشأ هذا الأمير الفتى البالغ من العمر اثنتين وعشرين سنة في باريس، وانخرط في الجيش الفرنسي، ونال فيه مرتبة كونت الإمبراطورية، وكان رجلا شجاعا شغوفا بالسلاح متكبرا، ولكن تنقصه الحماسة، وكان الأمير الوحيد الحائز عطف الأحرار، وقد تظاهر بميله إلى الإصلاحات وحبه للاستقلال وتشجيعه للأحرار، واتصل برجال الكاربوناري رغم نفرة البلاط من الآراء الحرة والأفكار الحديثة، وقد ولدت فيه ثورة نابولي الرغبة في قيادة الوطنيين، وطرد النمسويين من إيطالية، وتوسيع حدود بيمونته.
وكانت خطة المتآمرين تتلخص فيما يلي: أولا: الحصول على الدستور الإسباني مهما كلف الأمر، ثانيا: سوق الجيش إلى الحدود حالا، ثالثا: ضم قواتهم إلى قوات الثوار في ميلانو وبرسيه، رابعا: دحر الحاميات النمسوية فيهما، خامسا: قطع طريق الانسحاب على النمسويين في نابولي.
وكانوا واثقين أن جيش بيمونته ظافر لا محالة، وأن اللمبارديين سيعقدون مجلسا تمثيليا؛ لتقرير الانضمام إلى بيمونته، ولما وقعت حادثة الاصطدام صدفة بين التلاميذ والجيش في تورينو اشتد التوتر، وفي شهر آذار سنة 1821 شاع خبر الاطلاع على مؤامرة الأحرار مما اضطرهم إلى الشروع في العمل، ولما كانوا يرغبون في أن يساهم الأمير شارل ألبرت في الثورة فقد اجتمع به زعماء المؤامرة، والظاهر أنه وعدهم بالاشتراك في العمل على شريطة ألا يتجه العمل نحو مخاصمة الملك، ولكن سر المؤامرة لم يلبث يوما واحدا بعد الاجتماع حتى أفشاه الأمير، فأراد المتآمرون في تورينو أن يرجئوا الشروع في العمل، بيد أن حامية «ألكسندرية» التي كانت تجهل خيانة الأمير سارعت إلى الثورة، وطالبت بالدستور الإسباني، ونادت بفيكتور عمانوئيل ملكا على إيطالية.
وسار التلاميذ في العاصمة في مظاهرات يطالبون فيها بالدستور، ورفض ضباط الحامية مقاومة المتمردين والمتظاهرين، مما يحمل على الظن أن الحكومة نفسها كانت من أنصار الحركة، واتضح في الجلسة التي ترأسها الملك أن الملكة وحدها كانت تعارض في منح امتياز للشعب، أما الملك فعلى الرغم من وعده في مؤتمر «لايباخ» بألا يتخلى عن سلطته المطلقة فإنه حين أنذرت الحامية العسكرية بإطلاق النار على المدينة إذا لم يمنح الدستور أراد تجنب الحرب الأهلية، وأعلن تنزله عن العرش ولكن هذه الحركة من جانبه اعتبرت ضربة موجهة للثائرين الذين كانوا قد أظهروا ولاءهم له، كما أنهم أعلنوا للملأ حينئذ «أن الملك سيلبي نداء قلبه الإيطالي»، وكان الملك قبل أن ينزل عن عرشه قد نصب الأمير شارل ألبرت وصيا إلى أن يصل أخوه «شارل فليكس» الملك الجديد الذي كان خارج إيطالية.
استقالت الوزارة وأصبح الأمير الفتى من دون معين، ولم يكن ممن يستطيعون تحمل تبعة الحوادث الجسام، وقد كان مخلصا للأسرة المالكة من جهة ومرتبطا بالمتآمرين من جهة أخرى، وكان أمامه - قبل كل شيء - واجب خطير هو إنقاذ العاصمة من الفوضى، وإنقاذ البلاد من الاحتلال الأجنبي، وكان يدرك أن جيش بيمونته لا يستطيع مقاتلة الجيش النمسوي.
وعليه فقد تردد بادئ الأمر في منح الدستور، فأخذت الحامية تتهدده، وأشار عليه الأشراف بالقبول، فأذعن ومنح الدستور الإسباني مكرها، ويظهر أن مجرى الحوادث بعد ذلك قد حمسه إلى درجة راح معها يتحدث عن الاتحاد مع نابولي، وعن الشرف القومي، ولم يتردد في إظهار عطفه على الوفد اللمباردي الذي طلب منه أن يتقدم بالجيش نحو لمباردية، ولما بلغه الملك الجديد في إصرار وشدة أنه لا يعترف بأي امتياز منحه للشعب وأمره بعد ذلك بالمجيء إلى «نوفآره» هرب خلسة مع بعض رجال الحامية.
وكان أهل جنوة أيضا قد تحمسوا للثورة، بيد أن فرار الأمير شارل ألبرت جعل «كنفالونبيري» وزير لمبارديه يتردد في العمل، ولم يشأ اللمبارديون أن يقدموا على الحركة قبل أن يجتاز جيش بيمونته الحدود إلى بلادهم، وبقيت العاصمة ساكنة، وأخذ الأشراف يوجسون شرا من الدستور الإسباني، ولم تكن الوزارة الجديدة قادرة على بث الحماسة في النفوس، وحاول «سانتاروزا» ولعله الوزير المتحمس الوحيد من بين الوزراء أن يشجع الثورة بالهجوم وأخذ يقول: «انسوا الحزازات واركضوا نحو تسينا (النهر الذي يفصل الحدود بين لمباردية وبيمونته)؛ فلمبارديه تنتظركم ولسوف تتحرك فرنسة.» ولم يجد هذا القول نفعا؛ لأن الجنود فترت حماستهم، وأخذت القطع العسكرية تنحاز إلى الجانب الملكي، فأرادت الوزارة أن تنقذ الموقف بطلب وساطة روسية لتحول دون احتلال النمسة للبلاد.
Неизвестная страница