وقد تظاهر فرديناند في حرب القريم بخصومته للحلفاء ورفض مساعدتهم على شراء الكبريت من صقلية، ولما قابله ممثلا الدولتين لمباحثته في هذه الشئون أجابهما بخشونة أنه كان يوشك أن يمنح العفو ولكنه عدل عن ذلك مؤثرا أن يظل أمر هذا العفو مطلقا على أن ينفذه بالإكراه، وقال لهما: «إن دولته مستقلة ولا يوافق أن يمنح أي امتياز إلى حكومات تحمي الثوار.» وأخذ يستعد للحرب أملا أن تساعده النمسة وروسية، ولما نصحته النمسة نفسها بأن يتساهل خفف من غلوائه وارتأى الاقتصار على نفي المسجونين السياسيين إلى جمهورية الأرجنتين، ومع أن الحليفتين كانتا قد استدعتا سفيريهما في تشرين الأول 1856 فإنهما لم يخجلا بعد ذلك من قبول هذا الحل المخزي؛ خشية إغضاب النمسة وروسية، وأن يؤدي ذلك إلى إعلان الحرب، والأغرب من ذلك أن فرديناند عاد فصرف النظر عن النفي فلم يتجاوز عمل الحليفتين قطع العلاقات.
وكان لوسيان مورات ابن ملك نابولي السابق يواكيم مورات يقيم في ذلك الوقت في باريس، وقد أوصى إليه ابن عمه الإمبراطور بأن له بعض الحق في المطالبة بعرش نابولي، واتخذه أداة خاضعة بيده، ووضع سالسيتي وزير فرديناند السابق بتحريض من مورات رسالة يدعو فيها إلى تأييد مورات في حقه بالجلوس على العرش فيما إذا رشح نفسه له، وكانت الرسالة عبارة عن نداء لبق وجهه للأحرار يدعو إلى تقسيم إيطالية بين بيمونته ونابولي والتعاون على طرد النمسويين والأمراء وترك روما ولاكورماكا للبابا.
وقد لعبت هذه الدعوة شطرا وافرا من النجاح، وكانت البلاد بأجمعها - باستثناء جمعية لازاروني - تطالب بخلع فرديناند، وكان أنصار الوحدة في مملكة نابولي ضعفاء، وقد أحبط كافور مساعي جميع أنصار الانضمام إلى نابولي، ولما كان الأحرار ضعفاء فإنهم لم يستطيعوا القيام بأي عمل جدي، فلاح للناس أن في تنصيب مورات بدلا من فرديناند ما يبشر بخلاص عاجل.
وكانت إنجلترة وفرنسة تتشوقان لطرد آل بوربون إلا أنهما لا ترغبان في تحبيذ أي حركة ترمي إلى الوحدة، وقد استطاع مورات أن يكسب تأييد الكثير من الأشراف واللاجئين من حزب الاعتدال في باريس وتورينو، ولا سيما بعد أن لوحت له فرنسة بمساعدتها الأدبية وكان له أنصاره الأقوياء في نابولي، وفي نفس صقلية كان له بعض الأنصار.
كاد كافور نفسه أيضا ينجرف بهذا التيار، لولا أنه خشي أن يثير المشروع حسد إنجلترة، بيد أنه لما تأكد من أن الإمبراطور يعاضد مورات لم يجرؤ على أن يظهر بمظهر المعارض له، ولاح له أخيرا بأن المشروع قد ينقذ نابولي من حالتها البائسة، وقد يؤدي إلى التحالف مع مورات ضد النمسة، وقد يساعد نفوذ إنجلترة على إلحاق صقلية إلى بيمونته، فإذا ما ارتقى مورات عرش نابولي أصبح من الصعب - بل من المستحيل - خلعه، أضف إلى ذلك أنه في حالة انضمام صقلية إلى بيمونته سيقف مورات موقف الخصم من بيمونته فتعاضده في ذلك جميع العناصر التي تكره الوحدة في شمالي إيطالية فضلا عن مساعدة فرنسة له.
وإذا ما تولت حكومة حرة زمام الأمور في عهد مورات؛ فإنها تستطيع أن تستميل إلى طرفها جماعات الشعب المعارضة؛ لذلك اعترض مانين على هذا المشروع وصرح بأنه إذا ارتقى مورات العرش سوف يصبح خصما لفكتور عمانوئيل بتأثير الظروف، ويكون بهذا حليفا للنمسا بالسر والعلانية، واحتج البارزون من اللاجئين على المشروع، أما المسجونون السياسيون فصرحوا بأنهم يفضلون الموت في السجن على أن يصافحوا ذلك الأجنبي الأفاق.
أما مازيني فدبر ثورة تبدأ من نابولي وصقلية وتمتد في جميع أنحاء الجزيرة وتجرف بتيارها فرديناند والبابا والنمسويين معا، فقد أصبح الحزب الانفصالي في صقلية في خبر كان، وسارت السياسة التي ترمي إلى صب الشعب في بوتقة إيطالية واحدة، وكانت صقلية في نظر الثوار «جزيرة البدء بالعمل ونقطة الشروع نحو الوحدة الإيطالية وكان نيكولا فابريزي تلميذ مازيني الشجاع أخذ يسعى في مالطة ناشطا منذ خمس سنوات لتنظيم عناصر الاستياء والاشتياق للعمل.
وقد تباحث مازيني وغاريبالدي في إعداد خطة لإرسال قوة لإثارة الجزيرة، ولكن غاريبالدي لم يوافق على الذهاب ما لم يعد كافور بالمساعدة، واستطاع لافارينا تنظيم حزب أنصار بيمونته في الجزيرة، وأكد بالمرستون بأنه يوافق على إنزال القوة الإنجليزية الإيطالية إلى صقلية حين عودتها من القريم، وفي نهاية سنة 1856 رفع البارون الفتى بنتي فيجنة العلم المثلث الألوان في الجزيرة قرب ترميني؛ آملا أن تنجده إنجلترة وفرنسة، ولكن لم يلب النداء من أهل صقلية إلا قليل منهم، وقد طارده رجال الحكومة وأعدم رميا بالرصاص.
وثمة هيئة عرفت (بلجنة النظام) لجماعة الأحرار كانت تعمل في الجزيرة، لها دعاتها وصحافتها السرية، ولكن الجميع كانوا يعتقدون أن الثورة في العاصمة باليرمو غير مضمونة النجاح، وكان أحرار لاباساليكانة ونابولي منظمين تنظيما جيدا، وقد اتخذوا للثورة الأهبة وأعدوا مئات من الرجال المسلحين.
ومما يلفت النظر أن أنصار مازيني وأنصار بيمونته كانوا يعملون متفقين، واشتد صخب الناس على آل بوربون حتى إن أحد الجنود من كلبريه حاول اغتيال الملك حين استعراضه الجنود في 8 كانون الأول 1856، واستطاع الملك فرديناند بهدوئه أن يحول دون تبادل الجنود السويسريين والطليان إطلاق النيران من بنادقهم، وحدثت بعد ذلك انفجارات دمرت مخزن بارود بالقرب من البلاد وسفينة حربية كانت راسية في الميناء، وكان أخو الملك وعمه متصلين بالأحرار.
Неизвестная страница