أما نواب أقصى اليسار فيتألفون من ثلاثين نائبا، وقد أيدوا دازجيلو بعض التأييد، واعتقدوا بإخلاص الملك للدستور، ثم أخذوا يثقون شيئا فشيئا بنزعة كافور الحرة «الليبراليزم» حتى إنهم اعتبروا أن اشتراكه في الوزارة ضمين لسياسة الرقي والتقدم، ثم انقلب موقفهم الودي نحو الوزارة إلى تأييد تام.
وهكذا، تألف - بالتدريج - حزب وسط اليسار الذي كان يعتنق معظم آراء جماعة اليسار، إلا أنه يختلف عنها لأسباب انتهازية، وكان من حيث العدد ضعيفا لا يتجاوز العشرين، لكن الكثيرين من أعضائه كانوا من أقدر رجال المجلس، ولم يكن زعيمه رتازي ذلك الرجل المتطرف في مبادئه كما كان يشاع عنه في أوروبا المحافظة بأنه لم يكن دموقراطيا بالمعنى المطلوب، بل تدل جميع مظاهره على أنه كان من المعتدلين الأحرار.
ولم يكن قويا متصلبا حتى إنه كثيرا ما كان يفسح لحزبه مجال الكلام فيما يخالف آراءه هو. وقد اعتاد أن يتغاضى عن أخطاء الملوك، الأمر الذي جعله صديق الملك الحميم، ومع أنه كان من القوميين إلا أنه لم يكن يقول بتوسيع حدود بيمونته إلى أبعد من وادي «بو»، ولم يكن يؤمن بوحدة إيطالية، وكان يشعر بضرورة وجود حكومة قوية ويدرك صعوبة إنجاز الأعمال بلا أكثرية منظمة في المجلس، وكان ذا موهبة برلمانية تجعله يتساهل - وأحيانا يتخلى - إلى حد ما عن منهجه السياسي لأجل ضمان
بيمونته أحوج ما تكون إلى سياسة حرة معتدلة ثابتة، وكان كافور يشاطره هذا الاقتناع.
وأسفرت الانتخابات في نهاية سنة 1849 عن ظفر دازجيلو بأكثرية ساحقة في المجلس، فأصبح بذلك قادرا على تنفيذ سياسته، وكان دازجيلو هذا ذائع الصيت في جميع إيطالية، دلت شهرته أبعد من ذلك في الخارج؛ إذ كان يمثل تراث الحكومة الدستورية في بيمونته، ولكنه كانت تعوزه الصلابة التي يجب أن تتوفر في الزعيم.
وجعلته حوادث سنتي 1848-1849 يخاف الدموقراطية كثيرا، ولا ريب في أن الذين انتقدوا عدم اهتمامه بمصير روما والبندقية كانوا على حق، ومع أنه اعتزم المقاومة حتى النفس الأخير إذا هاجمت النمسة، ورغم تقديره بمكانة بيمونته في إيطالية فإنه لم يتخذ أي تدبير لتتأهب المملكة إلى تقدم جديد، وكانت سياسته سلبية لا ترمي إلى أكثر من الاحتفاظ بكرامة الأمة واطلاع الناس على أن الحكم الدستوري لا ينافي النظام بأي صورة والعمل على كسب احترام الأمم الأخرى. ولا شك في أن هذه السياسة لم تكن جبارة تكفي كفاية عظيمة، ولعل ذلك هو سر نجاحها.
وفي الواقع أن جل ما كانت تحتاج إليه بيمونته في ذلك الحين الاهتمام لتعيش بسكون وهدوء، وبذلك أنجز دازجيلو نبوءته القائلة: «سيحين الزمن الذي يكون النجاح فيه حليف أكثر الناس نزاهة، لا أشدهم قوة أو أعظمهم قدرة وكفاية.» ولكن دازجيلو فشل في سياسته الداخلية؛ فبينما كانت الجرائد الإكليركية تتمتع بحصانة واسعة كانت الشرطة تزعج الجرائد المتطرفة، ولما هاجم بعض الضباط دار إحدى الجرائد لم يتخذ في حقهم أي تدبير.
أما الاجتماعات العامة فقد منعت، وكان يميل إلى طرد اللاجئين الكثيري الشغب كما أنه لم يسع في جعل مؤسسات البلاد تتمشى مع روح الدستور وإصلاح حالتها العامة وتطهير الإدارة من الفساد الطارئ عليها إلا يسيرا.
وعلى الرغم من حرصه الشديد على الاحتفاظ بالسكون؛ فقد تعذر عليه أن يتحاشى النزاع مع روما، وتفاصيل ذلك أن بيمونته كانت متأخرة كثيرا في شئون التشريع الإكليريكي، فالكنيسة كانت لا تزال تحتفظ بامتيازات ألغيت منذ مدة طويلة في نابولي وطوسكانه ومودينه وفي الإمبراطورية النمسوية.
فكانت المحاكم الدينية تنظر في جميع الأمور المدنية والجنائية، وكان لأغلب الكنائس حق الحمى، فإذا استطاع المجرم أن يلتجئ إليها نجا من حكم القانون، وكان الأساقفة يشرفون على المؤسسات الخيرية وعلى قسم من المدارس، وقد منحهم الدستور نفسه حق منح تداول الكتب المقدسة والمؤلفات اللاهوتية التي يحضرونها هم ولم يكن في الإمكان عقد النكاح إلا بواسطة الراهب.
Неизвестная страница