إذا هم ألقى بين عينيه عزمه
ونكب عن ذكر العواقب جانبا
فما تحكم عبد الحميد بالأمة إلا بنصر هؤلاء، أما جنوده فأولئك منخدعون، ولقد فطنوا لذلك فجعلوا صلواتهم وابتهالهم وقفا لظالم الأمة، استجلبوا له القلوب الخالية والنفوس الطامعة، فوقفوا كلهم لقاء الأحرار يكيدون لهم كيدا، وكانوا يدعون المنفيين في بلادهم أعداء الدين والدولة، وكانوا يذمون الشورى ويذمون من يدعو إليها، ولو أمكنتهم غرة من الأحرار لاجتثوا أصولهم وأبادوا أعقابهم، فإذا طهرت البلاد من شر هذه الفئة راجعتها السعادة.»
وانفعال ولي الدين يكن العنيف للحرية أو تعصبه لها، هو الأساس الذي بنى عليه - كما قلنا - صداقاته وعداواته، وبه نستطيع أن نفسر حبه للإنجليز، وبخاصة للورد كرومر الذي أطلق حرية الرأي والكتابة وحرية الصحف في مصر لأغراض سياسية معلومة سبق الإشارة إليها، وأوقف قانون المطبوعات منذ سنة 1892، وظل موقوفا حتى سنة 1909، كما حمى الأتراك الأحرار الذين احتموا بمصر، وحمى غيرهم من رعايا الإمبراطورية العثمانية عندما نزحوا أيضا إلى مصر فرارا من بطش الحكومة التركية.
ففي مقدمة الجزء الثاني من «المعلوم والمجهول» يقول ولي الدين: «نظر أناس في الجزء الأول من المعلوم والمجهول فرأوا صورة اللورد كرومر وقد كتب تحتها «مصلح مصر» فألقوا بالكتاب جانبا، وأطبقوا جفونهم وولوا عنه هاربين، راعهم شخص ذلك الرجل الجليل على الورق، فأخذتهم سورته، ولم تقو عيونهم على النظر في وجهه، فكيف بهم لو تمثلوا بين يديه ورن صوته في آذانهم، وقد زعموا بعد ذلك أني صنيعة الرجل، والرجل لا علم له بكتابي إلى يومنا هذا.»
وهو في الجزء الأول من المعلوم والمجهول يعقد فصلا عن حال الأحرار وجمعياتهم بعد هرب مراد من الآستانة، يتحدث فيه عن مراد الطاغستاني أحد أحرار الأتراك، واحتجاجه على اضطهاد عبد الحميد الثاني للأرمن وتذبيحهم، ثم هرب مراد هذا إلى مصر، ويقول: «وجاءت الرسائل برقية وغير برقية، تطالب فيها الحكومة العثمانية الحكومة المصرية بإعادة مراد إلى الآستانة، أو طرده من مصر، أو عدم الإذن له بإصدار جريدة فيها، فلم ينل عبد الحميد من لجاجه سوى الفشل وسوء المصير، والفضل في ذلك للورد كرومر حبيب الأحرار، ومصلح مصر ورجلها العظيم.» وإن يكن قد غاب عنه - كما سبق أن قلنا - حقيقة سياسة كرومر الدفينة، التي لم تكن تبغي خير مصر والأحرار، بل كانت تبغي تحطيم الإمبراطورية العثمانية والتهام ممتلكاتها، وفي مقدمتها مصر، كما أثبتت الأيام من بعد.
وهذا التعصب للحرية هو الذي يفسر لنا أيضا إعجابه بإخواننا العرب، ولا سيما المسيحيين السوريين المهاجرين إلى مصر، وصداقته لهم على غير تبصر ولا دقة في الاختيار، حتى لنراه يوثق صلته بأصحاب «المقطم»، الذين لم يكن حبهم للإنجليز مبعثه حب الحرية، وبغض الاستبداد التركي فحسب، بل كان يرجع إلى عوامل أخرى كثيرة أقل شرفا ونبلا، كالمصالح المادية، بل والتعصب عند نفر من تلك الجماعة.
وهو يشيد في الجزء الأول من المعلوم والمجهول (ص71) بهؤلاء المسيحيين السوريين، ويوازن بينهم وبين المسلمين الأتراك المقيمين بمصر، فيقول: «ويشهد الله وكل محب للحق أن إخواننا العرب لا سيما المسيحيين السوريين منهم كانوا أشد الناس ضجرا وأعظمهم أنفة من احتمال الذل، فهم الذين تاقت نفوسهم إلى الفضيلة العصرية من وراء حجب الاستبداد فأقبلوا على مصر، وعلموا إخوانهم المصريين إنشاء الصحف واتخاذ المطابع واحتراف الأدب العصري واصطفاء الحرية، هذا مع أنهم محرومون في بلادهم من التمتع بمثل هذا النعيم.
غير أن حب المعالي في أكثر النفوس طبع لا تطبع، وإلا فمن علم الطير ترجيعه ومن وهب البلبل حب الورد؟ ولما طال عليهم احتمال الضيم هجروا أوطانهم وضربوا في أقطار الأرض، يجوبون قاصيها ودانيها، يحلون من منازلها آهلها وحاليها، أعوانهم عزائمهم، وبضاعتهم عقولهم، فحيث عثرت جدودنا انتهضت جدودهم ... إلخ.»
وهو يتحدث بعد ذلك عن الأتراك المسلمين الذين استوطنوا مصر من الأزمنة السالفة، فيقول عنهم: «لا يهمهم من السلطان إلا كونه سلطانا، وهم يعتقدون أن لا حق للأمة في مشاركة الملوك في أعمالهم، وأن الرعية عبيد للملوك، يؤمرون بالطاعة لهم وإن ظلموا، والشكر وإن أساءوا، يتحدثون بذلك في مجامعهم وبأيديهم السبح وأمامهم النارجيلات، يمتصونها حتى تستطلع حبابها، يؤتى لهم بالشاي منقوعا، وبين يديهم جماعات من المشايخ، منهم المدعون لعلوم الكيمياء القديمة، ومنهم أولياء الله الناطقون بالغيب (بالسرياني)! ومنهم المتصوفون من أتباع الرفاعي والكيلاني ومحي الدين العربي والبكطاشي والمولوي، ومنهم أئمة الشرع ورواة الأحاديث والمفسرون، كل هؤلاء يكفرون الأحرار، ويدعون لعبد الحميد، ويمدون أنامل أكلت أطرافها حبات السبح يجرون بها دراهم أعوانهم عدا، بطلا وجشعا ولؤما، كانوا يؤثرون حب عبد الحميد على حب العادل الحميد.»
Неизвестная страница