وهو يصف الحكومة العثمانية التي كان يحاربها هو ورجال تركيا الفتاة بقوله: «أما الحكومة العثمانية فلم تشبه حكومة في الوجود، وما انتظم لها أمر في ماضيها ولا في حاضرها، ومثل رجالها كمثل سكان الخيام في زمان الجاهلية، إذا وليهم سيد عاقل، واتخذ بطانة خير وحاشية عدل، أنعش نفوس محكوميه وأحيا موات آمالهم، وإذا وليهم غاشم جب منم الغارب والسنان، وأذاقهم مضض الذل ومرارة العذاب، تجبى أموال الرعية بلا حساب، ويضيع بعضها في جيب الجابي، وبعضها في جيب من هو فوقه، فلا يبقى لبيت مال الدولة إلا ما يتصدق به عليه السارق والناهب فضالة، ينفق جانب منها على طرب الملوك ولذاتهم، وجانب على المقربين من الغرانقة، ويبقى الموظف الصغير صفر اليد أو تدرك أمره رحمة، فينبز إليه بما يسد به رمقه.»
والظاهر أن شدة سخطه على الخلافة المستبدة الفاسدة، وعلى من يمكنون لها في الأرض قد دفعه إلى إساءة الظن برجال الدين أجمعين، فقال في الجزء الثاني من المعلوم والمجهول (ص137): «رجال الدين في كل أقطار الأرض حرب على الناس، فهم يبدون غير ما يخفون، ويأمرون بما لا يعلمون، ومنهم من صدق إيمانه، وكانت سريرته كعلانيته وهم أقل من القليل.»
والواقع أن مسألة رجال الدين من المسائل العالمية المزمنة؛ وذلك لأن الأديان كلها تدعو إلى المحبة والإخلاص والأخوة بين البشر، ومع ذلك لم ترق دماء في تاريخ الإنسانية الطويل مثلما أريقت بسبب الأديان، ولم يكن ذلك لتعارض تلك الأديان وتعصب أهل كل دين ضد الآخرين، على نحو ما حدث في الحروب الصليبية فحسب، بل وكان ذلك داخل كل دين على حدة، وما انشق إليه من فرق ومذاهب وطوائف، فضلا عما فرض على البشر باسم الدين من حجر على الفكر البشري، وإعاقة تقدمه، وتقدم البحث العلمي، على نحو ما شهدت الإنسانية من محاكم التفتيش واضطهاد الكهنوت وجامعاتهم للعلماء والمفكرين.
ولما لم يكن من المعقول تحميل الديانات السماوية مسئولية هذه الدماء، فإن المؤرخين والمفكرين لم يروا بدا من أن يحملوا رجال الدين وكهنوته هذه المسئولية الجسيمة، وأن يدعوا الكثير منهم إلى فصل الدين عن الدولة، والحد من نفوذ رجال الدين، حتى تواصل الإنسانية تقدمها وتنجو من التعصب الديني والنفاق الممقوت. وكان ولي الدين يكن من هؤلاء المفكرين أنصار حرية الفكر، وخصوم رجال الدين، حتى لنراه يستشهد على تعصبهم وجهلهم بمناقشة طريفة جرت بينه وبين أحد رجال الدين في سيواس أثناء نفيه بها، وأوردها في ص140 من الجزء الثاني من «المعلوم والمجهول»، فقال: «ذهب رجل منهم إلى أنه يحرم على المسلم أن يدعو غير المسلم أخاه، واحتج بآية:
إنما المؤمنون إخوة
فقلت له: أنا لا أجادل بالقرآن، ولكني أخالف الساعة عادتي، وأثبت لك فساد دعواك وخطأك في تأويلك، قال: هات ما عندك، قلت: إن في علم المعاني بابا اسمه باب القصر، قال: أعرفه، قلت: وفي الآية قصر موصوف على صفة، فهذا لا ينفي الإخاء من غير المسلمين، ولو كان فيها قصر صفة على موصوف، كأن تكون: إنما الإخوة المؤمنون، لنفى من غيرهم الإخاء، ثم يضيف: فغضب الرجل من كلامي وقال: أعوذ بالله أن يكون في علم المعاني شيء من هذا الكفر، وما هو إلا اختلاق منك، وهب جدلا أن دعواك صحيحة، أيحملني ذلك على أن أصدق علم المعاني ولا أصدق القرآن.»
ويعلق على هذه الحادثة بقوله: «فأيقنت يومئذ أن الرجل ممن أفرغ في رأسه عشرون قنطارا قطرا، فآثرت إهماله وأنشدت قول أبي الطيب:
ومن البلية نصح من لا يرعوي
عن جهله وخطاب من لا يفهم
هؤلاء الرجال يحللون من الأمور ما يوافق أهواءهم، ويحرمون منها ما يخالف أهواءهم، يسطون على الناس بسيوف من الإيمان الكاذب، فلا يثبت على لقائهم إلا من:
Неизвестная страница